بينما طليطلة الغالية تئن تحت الحصار الصليبى الغادر وتستصرخ شهامة من حادوا عن الطريق ورضوا بالذل بعد طول عز، كان ملوك الطوائف يتنافسون فى التودد إلى ألفونسو السادس ظنا منهم أن ذلك يصرف عنهم شبح الاحتلال ويؤمن بقاءهم وذرياتهم على كراسى الحكم وجهلا منهم بحقائق التاريخ هرولوا يوقعون معاهدات مع عدوهم غلت أيديهم عن نجدة الجارة المحاصرة حتى سقطت. لم يخرج عن إجماع الذل سوى المتوكل على الله ابن الأفطس أمير بطليوس الذى رفض التحالف مع القشتاليين أو دفع الجزية لهم بل أرسل إلى ألفونسو إنذارا شديد اللهجة يهدده بإعلان الجهاد إن فكر فى مهاجمة إمارته وحين حوصرت طليطلة بعث بولده الفضل على رأس جيش بطليوسى فى محاولة لصد الزحف القشتالى، وكان خلال ذلك يبذل ما وسعه لجمع شتات ملوك الطوائف ليتفقوا على موقف واحد ولكن ذهب سعيه أدراج الرياح. وعلى الجانب الآخر وقف المعتمد ابن عباد ملك أشبيلية وأقوى ملوك الطوائف حينئذ موقفا مخزيا من حصار طليطلة حيث كان بوسعه أن يمد لها يد العون إلا إنه تعلل بمعاهدته مع قشتالة التى تلزمه بنودها بتقديم تسهيلات عسكرية لها فقبع مترقبا متجاهلا صيحات الاعتراض من علماء الأمة حتى سقطت عاصمة الأندلس التليدة طليطلة. وُلد المعتمد ابن عباد فى البرتغال وكان فارسا شاعرا شجاعا وقد ورث الملك عن والده وهو فى الثلاثين بعد أن توسعت مملكة أشبيلية الجنوبية فضمت قرطبة وماردة واستجة ومرسية حتى أصبحت أقوى ممالك الأندلس حينئذ كما ازدهرت الحركة العلمية والفنية والأدبية فى عهده ازدهارا كبيرا فعدت أشبيلية بحق عاصمة العلم والأدب فى عهد ملوك الطوائف، وبدلا من أن يدرك حاكمها أن قوتها ومنعتها هما سبب ازدهارها فإنه لجأ إلى التحالف مع العدو القشتالى فتقلصت دائرة نفوذه ولم يقف ذله وتراجعه عند حد تقديم التسهيلات السياسية والمالية والعسكرية التى أدت إلى سقوط الجارة الشمالية طليطلة، وإنما بلغ هوانه على نفسه ثم على حليفه القشتالى ما أبلغ السيل الزبى كما يقولون، فبينما هو ينعم بعز لا ينال بمذلة أبدا إذ وصل إليه رسول من ألفونسو السادس يحمل رسالة عجيبة المحتوى. تحضرنى قبل أن أنقل لكم ما جاء برسالة ألفونسو إلى المعتمد رسالة سابقة وصلت إلى الخليفة الأندلسى الأموى قبل حوالى قرن من الزمان أرسلها ملك انجلترا مع سفير من الأمراء يحمل هدايا التودد إلى أعظم ملوك أوروبا فى ذلك الوقت «عبدالرحمن الناصر» يرجوه فيها أن يوافق على إلحاق أربعة من علماء انجلترا بجامعة قرطبة ثانى أكبر أكاديميات العالم وقتها بعد جامعة بغداد لينهلوا من علوم المسلمين المتقدمة كما يرجوه فيها أن يقبل إقامة ابنتيه لفترة فى قصر الزهراء لتتأدبا بالآداب الراقية ولتتعلما فى القصر الإسلامى أصول البروتوكول الملكى، وقد خُتمت الرسالة التى ما زالت محفوظة حتى اليوم بخاتم ملك انجلترا بجوار توقيعه «خادمكم الأمين جورج الثانى ملك إنجلترا». فلنقارن بين تلك الرسالة وهذه التى وردت من ملك قشتالة إلى المعتمد ابن عباد والتى أرسلها له مع وزيره اليهودى شليب يطالبه فيها بإعداد جامع قرطبة لكى تلد فيه زوجة ألفونسو الحامل حيث تنبأ لها الكهنة بأنها إن ولدت ولدا فى هذا الجامع فسوف يدين له المسلمون بالولاء. كل من الرسالتين وردت من ملك أجنبى إلى ملك أندلسى، قرطبة هى هى عاصمة العلوم والآداب والفنون، أشبيلية أقوى وأغنى وأجمل ممالك أوروبا فى عصر المعتمد فلماذا كانت الرسالة الأولى مثالا للعز بينما لا تحمل الثانية غير مؤشرات الذل الذى جاوز كل الحدود؟ ما الفارق بين الناصر وابن عباد؟ كل منهما ملك مسلم وكل منهما أولى اهتماما خاصا بالازدهار المادى والحضارى لمملكته واشتهر عصر كل منهما بالاستغراق فى المباهج إلى حد بلغ الترف والتبذير. يظهر الفارق بين الرسالتين واضحا فى ضوء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ترك قوم الجهاد سلط الله عليهم ذلا لا ينزعه حتى يرجعوا إلى دينهم) ولقد كان الخليفة الأموى مجاهدا بينما رضى ابن عباد بالقعود، أفتراه رجع بعدما فرط وضيع؟ نعم ! ولقد أعادته لطمة حليفه إلى الوعى. كانت الرسالة المخزية وتطاول شليب اليهودى على المعتمد سببا لاستعادته فطرته الشجاعة الأبية فقتل رسول ألفونسو ثم استدعى علماء قرطبة على رأسهم فقيهها الجليل عبدالله ابن أدهم ليستشيرهم فيما يجب فعله خاصة وقد كان رد فعل ألفونسو على قتل رسوله أن تحرك بجيوشه من طليطلة السليبة محاصرا قرطبة، فأجمع العلماء على ضرورة عقد تحالف بين ممالك الأندلس ثم إعلان الجهاد لصد العدو، وهنا يقف التاريخ ليسجل ما دار فى اجتماع قمة ملوك الطوائف الذى دعا إليه ابن عباد فى قرطبة لتدارك الموقف.. نعم يقف التاريخ حابسا أنفاسه إزاء تلك اللحظة الفاصلة بين عز لا يرضى الإسلام عنه بديلا ومذلة تهوى بصاحبها إلى درك ليس له قرار. كان العلماء قد قاموا بدورهم فى شحذ الهمم وإيقاظ الضمائر وتنبيه الغافلين وتذكيرهم بمأساة طليطلة فبدا الرأى العام متمحورا حول قضية الجهاد رافضا التقاعس عنها أو الالتفاف حولها، غير أن ملوك الطوائف وقد أدمنوا القعود وتسربلوا بثياب الذل بدوا مترددين عدا رجلين فقط: المتوكل أمير بطليوس الشجاع والمعتمد ملك أشبيلية الجريح. قال الملوك: ليس لنا طاقة بألفونسو وجنده فأجاب المتوكل: ما يتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين إما نصر وإما شهادة، قال الملوك: علينا حسن الإعداد قبل اللقاء، فأجاب المتوكل: فلنستنجد بأمير المسلمين، قال الملوك: لا يجتمع السيفان فى غمد واحد، يريدون أن يخوفوه من الاستنصار بقوة خارجية فتطيح بعروشهم وتستولى على ملكهم وهنا يخرج المعتمد ابن عباد عن صمته قائلا: فى حسم: «رعى الإبل خير من رعى الخنازير»، فماذا كان مقصده؟