من المَظاهِرِ اللافتةِ للنَّظرِ الدَّالَةِ على عبقريَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ ومنهجها العقلي أنَّ معظم كلماتها ثلاثية؛ أي أنَّ أصول كلماتها مبني على ثلاثةِ أحْرُف؛ يقول ابن جني:"إنَّ الأصول ثلاثة: ثلاثي ورباعي وخماسي، فأكثرها استعمالاً وأعدلها تركيبا الثلاثيُّ؛ وذلك لأنَّه حرف يُبتَدأ به، وحرف يُحشَى به، وحرف يُوقَف عليه… وتمكن الثلاثي لأنه إذا كان الثلاثي أخفَّ وأمكنَ من الثنائي -على قلة حروفه- فلا محالة أنَّهُ أخفُّ وأمكنُ من الرباعي؛ لكثرة حروفه. ثُمَّ لا شكَّ فيما بعد في ثقل الخماسي وقوة الكلفة به"، لما في ذلك من السهولة واليسر في النطق، وهذا لا يمنع وجود كلمات رباعية وخماسية؛ لكنَّها قليلةٌ جِدًّا لو قارناها بعدد الكلمات الثلاثية في بنيان اللغة العربية؛ لما في الكلمات الرباعية والخماسية من عسر وصعوبة في النطق، بيد أنها تأتي لتدل على معانٍ لا يمكننا التعبير عنها بالبنية الثلاثية. ومن خصائص اللغة العربية ثبات الحروف الأصلية الثلاثة في كل مادة مهما يطرأ على الكلمة من تبدُّل في اشتقاقها وصيغتها كحروف (ع ل م) فإنَّ جميع الألفاظ التي اشتقت أو يمكن أن تشتق من هذه المادة ؛ كالعلم والعلوم والعلماء والاستعلام والمعلومات والمعالم والتعليم والإعلام، وغيرها من الألفاظ المشتقة من هذا الأصل تشتمل على جميع الحروف الثلاثة، ويقابل ثبات الحروف الثلاثة ثبات المعنى الأصلي والمفهوم المشترك بين الألفاظ، وهكذا تبدو خاصية ثبات الأصول في صورتها اللفظية ودلالتها المعنوية. وهذه الخاصية هي التي يتطلبها الإسلام لإمكان تثبيت المفاهيم التي يريد تثبيتها في مبادئه وأحكامه مع بقائها واستمرارها في اللغة الشائعة المستعملة عند أبنائها دون أن تحدث فجوة واسعة بين الأصل اللغوي المستعمل وما انتهى إليه في صورته ومعناه، وهكذا يبقى أبناء العربية على صلة وثيقة وفهم صحيح للنص القديم مهما يطل العهد به، أمَّا اللغات الأخرى فإنَّ الألفاظ فيها يعتريها التبديل والتحويل في صورتها حتى تتغير حروفها وأصواتها فلا تكاد تعرف أصلها ولا دلالتها المعنوية كذلك. ونلاحظ أنَّ الكلمات القصيرة في العربية ذوات الحرفين أو الثلاثة أو الأربعة تقابلها كلمات طويلة في اللغات الأوربية قد تصل إلى عشرة أحرف أو تزيد، ومن المعروف أنَّ أقصى ما تصل إليه الكلمات العربية بالزيادة سبعة أحرف في الأسماء كما في استخراج، واستعمار، وستة في الأفعال كما في استخرج واستعمر، في حين أنَّ الكلمات في اللغات الأوربية قد تصل إلى خمسة عشر حرفًا أو أكثر كما في internationalism بمعنى الدولية وincomprehensible بمعنى غامض في الإنجليزية، و enstschuldigung بمعنى معذرة في الألمانية. إنَّ بناء الكلمة العربية أشبه بهيكل البناء المبني أو بالمعدن المصوغ بعد إذابته أو المصبوب في قالبٍ خاصٍّ. وتُسمَّى هذه التراكيب الصوتية للألفاظ في اللغة العربية أبنية وصيغًا وأوزانًا. ذلك أنَّها من جهة (بناء) لكونها تركيبًا خاصًّا للحروف، وهي (صيغة) باعتبار توزيع الحروف الأصلية والحركات والحروف الزائدة توزيعًا خاصًا يشبه إذابة المعدن وصياغته في قالبٍ مُعيَّنٍ أو صيغةٍ، وهي أخيرًا (وزن) لأنَّ جميع الكلمات التي تكون من صيغة واحدة لها وزن موسيقي واحد من الواجهة الصوتية، فالكلمات التي على صيغة فاعل مثل (صاحب وكاتب وشارك وعاتب وسافر) على وزن موسيقي واحد، وكذلك الكلمات التي على صيغة فعلان أو فعلول أو فاعول أو يفعل أو فعلت.. الخ، فلكل كلمة عربية مادة وصورة ومعنى، فالصورة هي التي تتجلَّى في شكلها والتي يمكننا أن نسميها كما سماها القدماء بنية أو بناء وصيغة أو وزنًا. ولذلك اتَّخذ علماء الصَّرْف لهم ميزانًا صرفيًّا مكونًا مِن ثلاثة أحرُف (فعل) لبيان الأحوال المختلِفة للكلمة المراد وزْنها، ولما كانتْ هناك كلمات رباعيَّة الأصول وخماسيتها؛ فقدْ زادوا على (فعل) لامًا ثانية، فأصبح (فعلل) للرُّباعي المجرَّد، ولامًا ثالثة، فأصبح الوزن (فَعْلَلَّ) أو(فَعْلِلل) للخُماسي المجرَّد، نحو: "جحمرش" للمرأة العَجوز. إنَّ المعاجمَ العربيَّةَ تُقدِّمُ لنا مفرداتِ اللُّغةِ في مجموعاتٍ، تشتركُ أفرادُ كُلِّ مجموعة منها في حروف ثلاثة؛ تُعتبرُ المادة الأصلية لتلك المفردات، وفي معنى عامٍّ مُشتركٍ بينها، ثُمَّ تنفردُ كُلُّ واحدةٍ من مُفرداتِ المجموعة بصيغةٍ تُصاغُ فيها؛ تُكسبها معنى خاصًّا ضمن إطار المعنى المشترك، ويكون من بعد هذا لكُلِّ منها حياةٌ وتاريخٌ خاصٌّ يُكسبها شخصيتها وذاتيتها ومعناها المحدد الدقيق؛ مع ما يُحيطُ بها من هالاتٍ وظلالٍ، وما تبعثه في النفس من شعور خاص هو نتيجة ملابساتها وظروفها التاريخية.