بدأ طه حسين التفكير في إعداد كتابه الشهير : مستقبل الثقافة في مصر ، بمجرد أن انتهت مصر من توقيع معاهدة 1936 مع بريطانيا ، وهي الاتفاقية التي انقسم بشأنها المثقفون المصريون ، لدرجة أن أطلق عليها البعض معاهدة الشرف والكرامة ، بينما نعتها آخرون بمعاهدة الخزي والعار . وهكذا كان الانقسام حول القضايا الكبرى ظاهرة طبيعية في الحياة السياسية في كل بلاد العالم ، بينما في حياتنا المصرية والعربية نميل غالبا لاستخدام صيغ المبالغة ، ولا نعني كثيرا بالنقد الموضوعي إيجابا وسلبا ، وإنما نختصر المشهد بالرفض المبالغ فيه أو الإشادة دون التطرق كثيرا للجوانب الفنية . اللافت للنظر أن طه حسين قد نظر إلي القضية من وجهة نظر أخرى ، ولعله راح يتساءل وماذا بعد الاستقلال ؟ وعلي ما يبدو فقد وضع يده علي مكمن الداء وهو الثقافة في بلد يمتلك موروثا ثقافيا وحضاريا هائلا وهو في حاجة إلي استرجاعه ودراسته وربطه بالواقع بل واستشراف المستقبل من خلاله ، وكان الرجل علي وعي كبير بالموروث العبء الذي لا يعبر لا عن جوهر الحضارة العربية الإسلامية ولا عن جوهر الحضارة المصرية القديمة ، وهو ما يستوجب العناية بالتعليم ، الذي يؤهل الجماعة الثقافية لكي تكون قادرة علي التفكير والنقد ، بعيدا عن المسلمات التي استقرت في وجدان البعض بجهل واضح دون إعمال العقل الذي هو أساس كل شيء . لقد أدرك طه حسين منذ بداياته الأولي أهمية التعليم في حياة الشعوب ، وخصوصا عند المصريين في الوقت الذي ألم فيه بالتجارب الأوروبية أو حتى الأسيوية التي عنيت كثيرا بالهوية الثقافية ، بمعناها التاريخي والاجتماعي والسياسي وحتى الديني وفي جميع الحالات راح يعِّظِم من دور العقل . هكذا انشغل طه حسين بقضية الثقافة والتعليم باعتبارهما أكثر خطرا وأشد تعقيدا حتى علي الدول التي حظيت باستقلالها وحريتها فلم يعصمها الاستقلال أو الحرية من عدوان الآخرين بينما الدول التي تقدر قيمة الثقافة والعلم فهي غالبا لا تفقد حريتها أو استقلالها . لقد أدرك طه حسين وهو يضع ملامح مشروعه الثقافي أهمية التعليم ، فليس من قبيل المصادفة أن تتقدم شعوب بذاتها بينما بقيت شعوب أخرى تدور في حلقة مفرغة من الوهم والخرافات . فقد خلق الله كل البشر متساوون جميعا قابلون للرقي . إن ما جاء في كتاب طه حسين " مستقبل الثقافة في مصر " ليس عملية رياضية أو فلسفية معقدة وإنما هي أفكار ورؤى شكلت في مجملها مشروعا متكاملا لنهضة الأمم ، بادئا بالثقافة والتعليم وقد ربطهما ببعضهما البعض برباط وثيق باعتبارهما مناط العقل ، الذي يبني الأمم ويشيد الحضارات . ينطلق طه حسين من قضية التعليم باعتبارها الأساس لكل نهضة ثقافية وتنموية وفي كل البلاد التي أسست لنفسها حضارة حديثة كان التعليم موضع عنايتها ، لقد راح الرجل يضع يده علي مكمن الداء وقد نبه كثيرا إلي التباين الواضح في مصر ما بين التعليم المدني العام والتعليم الأجنبي والتعليم الأزهري . وأظن أن ذلك كله ما يزال قائما حتى اليوم ، كل هذه الفوضى لا تحقق نهضة في التنمية أو حتى شعورا واحدا بالانتماء الوطني الذي يعد الأساس الأول لبناء الأوطان . علي الرغم من أن عنوان الكتاب عن الثقافة لكن مفكرنا الكبير كان علي وعي كامل بأهمية التعليم باعتباره الأساس لكل عمل ثقافي ، فالفنون والآداب واكتشاف المواهب تبدأ من التعليم في مرحلته الأساسية . لقد ربط طه حسين بين التعليم والثقافة ، فلا ثقافة بلا تعليم جيد ، وينوه المفكر الكبير بأهمية الدور الذي يلعبه المثقف ، فهو غالبا ما يبذل من الجهد والعناء ما يفوق الوصف ، فضلا عن أن كثيرين من المثقفين قد نشأوا في بيئة معادية للثقافة ، وعلي الرغم من ذلك فقد حرروا أنفسهم من التقاليد الثقيلة وقاومهم الشعب لأنه لم يستوعب رسالتهم . يتحدث طه حسين شاهدا علي عصر بأكمله قائلا : لقد أدركنا العهد الذي التقي فيه جيلان من المثقفين نزل أحدهما حتى عن رجولته ، فأصبح ظلا للمنعم عليه ، ونزل الآخر عن كل شيء في سبيل هذه الرجولة إلي أن اضطر السادة والأغنياء إلي أن يكبروه ويقدروه ، بل إلي أن يتملقوه أحيانا . لقد كان طه حسين من الصنف الثاني فقد أخلص لفكرته واجتهد في تكوين نفسه وعلم نفسه في ظروف غاية في الصعوبة فكان علامة مضيئة في تاريخ ثقافتنا العربية . أعتقد أن كل المؤسسات الثقافية والتعليمية في عالمنا العربي وهي تخطط لمستقبلها الثقافي والتعليمي عليها الاستفادة مما كتبه طه حسين في كتابه الذي سطره منذ أكثر من 75 عاما وعلي الرغم من ذلك فما يزال صالحا للإفادة منه في واقعنا المعاش . [email protected]