بشرى سارة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال رسميًا    أمريكا تستعد للإعلان عن عقود أسلحة بقيمة 6 مليارات دولار لأوكرانيا    تشكيل ريال مدريد المتوقع أمام ريال سوسيداد في الدوري الاسباني    عاجل.. رمضان صبحي يفجر مفاجأة عن عودته إلى منتخب مصر    رضا عبدالعال: إخفاء الكرات بمباراة القمة كان في صالح الأهلي    إصابة 8 أشخاص في تصادم 3 سيارات فوق كوبري المندرة بأسيوط    تطبيق "تيك توك" يعلق مكافآت المستخدمين لهذا السبب    انطلاق حفل افتتاح مهرجان الفيلم القصير في الإسكندرية    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    أبرزها الاغتسال والتطيب.. سنن مستحبة يوم الجمعة (تعرف عليها)    البنك الدولي يشيد بالاستراتيجية المصرية في الطاقة المتجددة    رمضان صبحي يحسم الجدل بشأن تقديم اعتذار ل الأهلي    "أكسيوس": مباحثات سرية بين مصر والاحتلال لمناقشة خطة غزو رفح    يونيو المقبل.. 21364 دارسًا يؤدون اختبارات نهاية المستوى برواق العلوم الشرعية والعربية بالجامع الأزهر    نقابة محاميين شمال أسيوط تدين مقتل اثنين من أبنائها    الزراعة: منافذ الوزارة تطرح السلع بأسعار أقل من السوق 30%    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    ليلى زاهر: جالي تهديدات بسبب دوري في «أعلى نسبة مشاهدة» (فيديو)    نجم الأهلي يعلق على طلب زيزو لجماهير الزمالك في مباراة دريمز    أحمد أبو مسلم: مباراة مازيمبي صعبة.. وكولر تفكيره غريب    الزمالك: هناك مكافآت للاعبين حال الفوز على دريمز.. ومجلس الإدارة يستطيع حل أزمة القيد    فلسطين.. المدفعية الإسرائيلية تقصف الشجاعية والزيتون شرقي غزة    عيار 21 يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل بالصاغة بعد آخر انخفاض    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    «عودة قوية للشتاء» .. بيان مهم بشأن الطقس اليوم الجمعة وخريطة سقوط الأمطار    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    ذكري تحرير سيناء..برلماني : بطولات سطرها شهدائنا وإعمار بإرادة المصريين    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    بالصور.. مصطفى عسل يتأهل إلى نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش    حركة "غير ملتزم" تنضم إلى المحتجين على حرب غزة في جامعة ميشيجان    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    هل المقاطعة هي الحل؟ رئيس شعبة الأسماك في بورسعيد يرد    برج العذراء.. حظك اليوم الجمعة 26 أبريل 2024 : روتين جديد    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    كل سنة وكل مصري بخير.. حمدي رزق يهنئ المصريين بمناسبة عيد تحرير سيناء    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    السعودية توجه نداء عاجلا للراغبين في أداء فريضة الحج.. ماذا قالت؟    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    رئيس الشيوخ العربية: السيسي نجح في تغيير جذري لسيناء بالتنمية الشاملة وانتهاء العزلة    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع ب 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    سرقة أعضاء Live مقابل 5 ملايين جنيه.. تفاصيل مرعبة في جريمة قتل «طفل شبرا الخيمة»    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الفتاح المطلبي , بين السّرد والتّهويم
نشر في شموس يوم 21 - 01 - 2017

قطراتُ الشّعر المُطرية التي تنزلُ من سماء عبد الفتاح المطلبي ، تنزلُ على أنساغ الأعشاب لا على القفار والرمال ، إنّه يكتبُ كي يزلزل قناعات العالم القديمة والتي تريد أن تجعلنا خارج الزّمن و العقل ، الكتابة الشّعرية لديه ، محاربة باللّسان في حقل لساني ، اجتماعي، ثقافي ،متناقض، معقّد ، وهي تقوم في هذا المستوى لا في مستوى الحزب أو الجمهور أو المنظومة الاجتماعية كما يقول أدونيس: يجول الشاعر عبد الفتاح في الوهم فيعطينا نتائج في غاية الفعالية ، وكأنّها مثل النّبوءة التي تتحقّق في وقت ما ، بعد أن تنبّأ بها الشّاعر و هو يرسمُ خيالاته و أوهامه . ولذلك فإنّ اختلاط الحقيقة بالوهم ، هي كما عباس بن فرناس الذي كان يحلم بالطيران قبل اختراع الطائرة . التّهويم الذي ينطلق من العمق البوحي للشّاعر عبد الفتاح يأتي بمثابة وصايا
كتلك التي أدلى بها الى رفاقه (أوديسيوس) البطل الملحمي في ذهابه إلى إيثاكا , وكيفية مواجهته للموت مرّات عديدة ، لنرَ ما قاله ُ في نصّ (وصايا ، تهويمات):
إن أطفأتَ إتون الشمس/ أو احتطبتَ الهواء/ أو استعرتَ جناحي ْعقاب/فانكَ أبدا لن ْتستطيع/ هل تعبر وهو واقف/ كأفعى الكوبرا/ لن تستطيع/ الموتُ برزخ كؤود/ ثورُ عنيد/ ربما إن أغويته بغلالةٍ من فتنة/ أو عطر أخير/ ربما يهدأ فيمنحك ظهره المكين.
في هذه الثيّمة الرّائعة نجدُ أنفسنا ننادي الموت كما ناداه يوما الروائي الكبير عبد الرحمن منيف في شرقه المتوسط (أنت أيّها الموت ماذا لو أتيت ؟ إنّك مجردُ بغل ولا بدّ أن أركبك لكي أصل إلى الجنّة ، لا يهمّ
المشوار، سواء إن كان بعيدا أو قريبا ولكن الأهمّ أن أتحدّاك و أن لا أخاف منك).
في هذه الثيّمة يشتركُ التّساؤل و الاشتراط اللّذان يؤدّيان إلى الاستحالة و المستحيل و متى استطعنا العبور إلى الجانب الآخر من الممكن أن نحصل على الحياة ، لكننا نلعب لعبة القدر ،لعبة المقامرة بالجسد بايولوجيا ، وهذه المعاني الصوفية السامية ، قد جسّدها لنا جليا الممثل و المخرج العالمي الذي يكرهُ اليهود ( ميل جبسن) في
فيلم من تأليفه و إخراجه يحمل إسم (Apocalypto) و في المقدّمة يقول المؤلف بكلمة مختصرة , ( لا يمكن لأحد أن يتجاوز مصيره ) الفيلم يُصوّر لنا مدى وحشيّة البشرية و قتالها المستمرّ في العصور البدائية ، منذ أن كان الإنسان عاري إلاّ من ورقة التّوت التي تسترُ عورته , وحيث كان القتال بالفأس و الخناجر و كيف كان يواجه الإنسان أبشع صور القتل و كيف كان الألم من جرّاء حزّ الرّقاب بالسكين أو غرز السّهام في البُطون , من دون مورفين أو دواء يُخفّف من حدّة الأوجاع .
ففي مشهد من الفيلم، يمرّ رتلٌ من المقاتلين الأشدّاء في غابة موحشة , الكلّ يمرُّ عدا شخص واحد تلدغه أفعى الكوبرا فينتهي في
الحال , ولم يفعل له رفاقه سوى أنّهم أعانوه على الموت , هذا الرّتل وفي مشهد من الفيلم يصطحب بعض الأسرى و يبعيهم في سوق النخاسة ، ويشتريهم أحد الملوك ، ويستخدمهم كأضحيّة لكسوف الشّمس , حيث كانت تقاليد القبيلة البدائية هذه و هي تقديم أضحية بشرية و ذبحهم أمام الناس حين تُصاب الشّمس بالكسوف.
وفي هذا المشهد من الفيلم تبدأ عملية الذّبح أمام الملك و الملكة في برج عالي جدّا و أمام الناس المتجمهرين بالآلاف أسفل البرج يُهلّلون و ينشدون الأغاني ، بينما يقف رتلُ الأسرى المساقين إلى الذبح كأضحية واحدا تلوى الأخر . يتمّ سحب أحدهم من قبل الجلادين و يوضع على صخرة الذبح التي تجعل منه مقوسا بحيث تكون بطنه مواجهة للشمس و مواجهة للخنجر الذي سيُمزّق بطنه من أسفل الأضلاع وبسرعة البرق يقوم الجلاد بشقّ البطن عرضا بخنجره ويقوم بإخراج القلب الذي لا يزال ينبض داميا و يرفعه ُعاليا لكي يراه الشعب الذي يبدأ بالتهليل ثم يقدم في الحال إلى الملك والملكة كوجبة طعام شهية طازجة ، أمّا الرأس فيُقطّع بالسّيف الذي يتلقّفه السُلّم العالي من البرج ويتدحرجُ سريعا إلى الناس الذين يتسابقون في الحصول عليه، ويعقبه الجسد الذي يصل إلى الناس ويقطّع إربا بين هذه الحشود الغفيرة كوجبة غذاء حارّ ، وهكذا تستمرُّ عمليّة الذّبح واحدا تلوى الآخر ، حتى ترجع الشّمس إلى حالتها الطبيعية ، فيُعلنُ الجلاد أمام الناس بانتصار هذه الأمّة العظيمة وقيم الدين أو الأساطير التي تحكمهم ، ولتذهب هذه الأضحية البشرية القادمة كأسرى من القبائل الأخرى ، إلى الجحيم .
وفي مشهد مُثير للشّفقة والحزن ، حيث يقفُ بطل الفيلم على صخرة المذبح ويرفع الجلاّد خنجره كي يغرزها في بطنه , لكن الشمس ترجع إلى حالتها الطبيعية وينتهي الكسوف في نفس اللحظة التي أرادت أن تمزّق بطنه , فيأمر الملك بوقف عملية الذبح فترجع الخنجر إلى غمدها، و ينجو البطل من الموت في اللحظة العجيبة الغريبة , إنّه القدر الذي قال عنه المؤلف في البداية ( لا يمكنُ لأحد أن يتجاوز مصيره).
نستنتج من خلال هذا الفيلم الذي يتطابق في الرّؤيا تماما ، مع قول الشاعر عبد الفتاح في ثيمته أعلاه ، من أنّ البشرية هزيلة ومُجرمة ، ونعرف كذلك مدى الاستهانة بالإنسان نفسه والجهل الذي عاشته البشرية على مرّ العصور . كما و أنّنا لو استطعنا الهرب من الموت مرّات ومرّات ( مثلما تخلّص بطل الفلم في اللحظة النهائية الفاصلة بين موته وحياته) ، لكنّنا ربّما نموتُ في المرّة القادمة بقطعة سكاكر ، إنّه الموت ( ذلك البرزخ الكؤود) ، حينما يأتي و بإصرار لجوج لا يمكنُ لنا اللّحاق في السؤال ،لأنّ الأجوبة التي ننتظرها تكون قد شاخت و اعتلّت ولا علينا سوى أن نرضخ للاستعانة بإغماضة أعيننا من قبل الآخرين،كي نهجع هجعتنا الأبدية ونلحق بأسراب الملايين من الذين ماتوا ودفنوا و أصبحوا صمتا غير مرئيّ.
هي هذه الطريق المُؤدّية إلى الموت وشأنها الذي يكون أحيانا شبيه
الطريق المؤدية إلى التّيه كما نرى أدناه:
هذا شأن التّيه
يتقدّمُ بك
يرجه بك القهقري
يعلو بك فلا ترى
و عندما تتساءل
تكون الأجوبة قد هرمت
و كلّت عيونها
فلا تسمعُ إلاّ مُفتريات
التّيه هو الرؤيا المفقودة أمام جادة الصّواب، مغازلة المجهول ، مهما كان، تيه الفرد أو تيه الأمم ، أو تيه الفكرة ، التي تأخذُ طريقا غير
معلوم ، التّيه المخيف الذي يُزرعُ في الأمم التي تصنع الدكتاتور، وتجعل منه ماردا يتحكّم في مصائرها , فماذا قال الشاعر بشأن ذلك …
هذا القلب كفيف بلا عصا
الأوغاد خرقوا عينيه
كيف يصل إلى القرى البعيدة
القرى السّعيدة
حيث تهجع الملائكة
هذه الأبيات تحملُ في طيّاتها الرّوح الدراميّة العراقيّة والسّباق في التشاؤم و إظهار الألم ، ولم لا ، فكلّ عراقيّ له مأساته الخاصّة التي
زرعها صدام وأزلامه فينا نحن العراقيّين على مدى السنوات المظلمة من حكم البعث وأوغاده .. .. من هم الأوغاد؟ هل هم أزلام البوليس السرّي و ممارساتهم القبيحة ضدّ الإنسانية ؟ هل هم أولئك الذين قتلوا لوركا ؟ أو جعلوا من بابلو نيرودا يموت في حسرته بعد أسبوع من موت سلفادور الليندي في تشيلي ؟ أم هم أزلام البعث الذين ملئوا
العراق بسجونهم ؟ أو تسبّبوا في أذيّة الكثير من الوطنيين أمثال شاعرنا موضوع البحث ؟
في زحمة هذه الأمور و خيبتها ، كان شاعرنا أمام غمامة سوداء بلا متّكأ ، فكيف له أن يُحقّق الأماني المنشودة ، أو يلحق بأيثاكا ، حيث تحرسه ملائكة الحياة ، أو ربّما أراد الشاعر أن يصف لنا الحياة الحرّة الكريمة التي يحلمُ بها ، وهو شاعر الجمال والسحر و الخمر فنراه يقول في هذه الفلقة القمرية أدناه:
أيّها الفاتن كغادة/ الباهر كبرق/ المقدام كقلب عاشق/ أيّها الشّعر/ اشرب حتى الثّمالة/ نخبك الأخير/وغنّ لحنك الأثير / واخطف آخر قبلة من ثغر الحبيبة/ ثم أطلق رصاصة على رأسك ومُت/ خير من سماع الدمدمة/ أو أن ترقص مجبرا على جثة/ لطائر غريب مر مصادفة/ ليقتلهُ
الجزع فوق رابيتك.
الشاعر هو الأكثر أناقة في انتقاء الحروف من بقية أجناس الأدب ، الشاعر جريء في الحبّ و مخاطره ، يزجّ نفسه في لوعات العشق ، و لا يهمّه إن لم يخرج منه معافى , المهمّ هو الإقدام والشجاعة على ممارسة ذلك الحب الذي سرق لبّه ، لكنّه في لحظات الإرهاص والانكماش الفكري و الانحباس في الأحاسيس ، يلجأ إلى تجريب الثمالة بالخمر أو بالشّعر , ( أيّها الشّاعر اشرب حتى الثّمالة نخبك الأخير) ربّما أراد الشاعر إيصال فكرة مفادها ،أنّ الشّعر الرّديء و قائليه و أصحاب المنابر والهدايا قد جعلوا من الشعر كائنا ميّتا ولذلك يتوجّبُ عليه أنْ يشرب نخبه الأخير ، أو يفترض من هذا الشعر إذا امتلك ذرّة
من الكرامة أو وخزة ضمير أن يُطلق رصاصة الرحمة على حروفه وليذهب إلى الجحيم مادام قد أصبح غير ذي فاعلية مُجدية في هذا العالم المليء بالمتناقضات ، فخيرا لهذا الشعر أنْ يفعل ذلك بدلا من أنْ يرى البراءة على مذبح الجريمة وهو يصفقُ مجبرا وذليلا ، إذ كان صدام وزبانيته يعدمون الأبرياء في الشوارع ، كما حصل مع النساء الخارجات عن قانون الشرف كما يدّعي صدام الملعون ( لأنّ الشرف لدى هذه الشعوب هو في أقذر منطقتين من جسم الإنسان ) وتمّ قطع رقابهنّ بالسيف وأمام جمع غفير من المؤمنين الذين تجمّعوا خوفا و إجبارا لكي يرقصوا وتُنشد الأناشيد المزيّفة على إعدامهنّ . ولذلك يصرخ الشّاعر صامتا , يصرخُ أنْ تعالي، تعالي لنبتعد عن هذه الارض الملوثة بالعار، كما نقرأ في نصّ ( سراب تهويمات ) الذي يتكوّن من عشرة حلقاتٍ
ذهبيّة رائعة:
تعالي معي/ دون لوازمك ِالمغرية/ عيناكِ والشّعر والخصر رفقة/ ودعينا نتسلّلُ سرابين نحو المجرّة/ فالهوى فوق كوكبنا معضلة / حديد وكبريت/ و انفجارات تثرى/ نهود العذارى تجذ ، جماجم مثقوبة/تباع بأروقة البر/ يا بلال ما حاجتك لقبو تحت المنارة.
في أحلك الظّروف يلوذ المرء بالعشق ، وخصوصا في لحظات الحرب والدمار والكوارث الطبيعية و الأمراض، لكي تتعادل المعادلة ،هناك موتٌ وهنا إخصاب و تناسل ، هناك عدم وفناء وهنا عشق و ولادة ، الموت مارد قديم ، والحبّ طائر مُتجدّد ، يأخذنا نحو بروج السعادة ، أو فوق بساط الريح الذي يتنقل بنا بين الأروقة التي لا نراها سوى في الحلم ، فالشاعر يحلمُ دائما بأحلامه الطوباوية أو الواقعية أحيانا ، إنّه يسأل و لا يجيب . عبد الفتاح المطلبي في نصّه هذا يدعو إلى ترسيخ الحبّ على طريقة اصنعوا الحبّ وليس الحرب ، والتي أيّدها الفيلسوف الرياضي برتراند راسل أيّام الشّعارات ضدّ الحرب في فيتنام ، كما و إنّ كلّ الحروب هي قتلٌ للأخوة.
يحاول الشاعر الابتعاد عن هذه الأرض التي باتت مرتعا للسّفاحين والقتلة والمجرمين ، والمتآمرين ، الذين يستخدمون فتاوى الدّين في تمرير القتل والديناميت والذّبح على الهوية ، كما و إنّ الشاعر أراد إيصال فكرة ،بأنّ القتل يأتي من بيوت الله ويا للأسف ، بيوت الله التي من المفترض أن تكون مليئة بالدّعوات إلى المحبة ،مليئة بما يشير إلى اسم الربّ ، لكنّها اليوم مليئة بالعتاد و السّلاح ، و الأقبية لخزن كلّ ما يُشير إلى الدمار والقتل ، وكأنّ الحروف التي يجب أنْ تُضغط للترتيل، أصبحت بمثابة ضغطة على الزناد بكلّ حروفها المدمّرة لتمزيق الأجساد البشرية البريئة إلى أشلاء، و لذلك أشار الشاعر إلى ذلك بكلّ مرارة وحسرة و ألم في قوله ( يا بلال ما حاجتك لقبو تحت المنارة).
يستمرّ الشّاعر في مُناشدته للرّحيل من هذا الكوكب الذي أوشك على الدّمار الشامل ، كما الدّمار الذي صوّره لنا فيلم ( القيامة2012) ، حيث ينتهي الكوكب بطوفان شامل ، كما حصل منذ قرون عديدة في
الحضارات البائدة ، ولم يسلم منه سوى باخرة واحدة تطفو على مياه البحر ، من بطولة جون كوزاك و اماندا بيت و إخراج رولاند ايمريتش.
الشاعر يلهجُ بكلمة تعالي لنرحل من هذا الكوكب كما يقول أدناه:
تعالي لنرحل
سرابين
إلى كوكب لا يزال رضيعا
يمصّ حليب الإله
كيف يسخط
و نحن نضحكه ملء شدقيه
منّا … علينا
لحظة الضحك
كدنا نموت
ألم تشبّع الطرقات من الموت
أم الموت يعشق اسم العراق
( إنّهما سرابان) و من يستطيع الإمساك بالسراب، إنّها دعوة للتّماهي مع الخلاص ، و اللامرئي , كي يفلت من هذا الكون الغريب الذي يبدو فيه كلّ شيء رخيصا و مهلهلا.
الموت دائما يحوم حول أرض العراق ، وبشكل يختلف عن بقيّة شعوب العالم , و أنا اكتبُ هذه السّطور وقد شاهدتُ في التلفاز موت العديد من الأبرياء في بغداد في انفجار سيارة مفخخة نصبها الأوغاد الذين يقتلون باسم الربّ الرّحيم . فقلتُ في نفسي لقد أصاب الشاعر عبد الفتاح بهذه الثيّمة الأليمة و المفجعة ، كلّنا يتّجه صوب السّراب ، أنا
و أنت و الحمار ، كلّنا نموتُ أنا من الحب و الملك من الضجر و الحمار من الجوع كلماتٌ كنا نقرأها في السبعينات كانت تعني الموعظة ، ولكن اليوم نرى الكثير يموتون في العراق عدا الحمار . الحمار هو الوحيد الذي لا تصيبه كواتم المسدّسات، ولكن في الآونة الأخيرة، بدأ المتأسلمون يفخّخون الحمار ، ويتمّ تفجيره بين جمع غفير من الناس ، ليقتل عددا أكبر من الأبرياء.
تعلي لنرحل
سرابان نحن
منذ الأزل
قادمون من الأزل باتّجاه صوب السّرمدية .. تعالي هنا دعوة صريحة لقبول الفناء برحابة صدر، إنّه الفناء الماضي والحاضر والقادم ، مهما لهثنا وتعبنا ، وشددنا الأزر، في أن نلحق بالوجود ، و نبتعد كثيرا عن العدم ، وجدنا أنفسنا قاب قوسين أو أدنى منه ، مهما تقاسمنا الهموم و الأفراح وجدنا أنفسنا في نهاية الهاوية المؤدية إلى السّراب ، مهما أكثرنا من الولادة والتناسل ، وجدنا أنفسنا في حفلة للموت الجماعي المؤلم ، الإنسان مولود ميّت ، كلانا أنا وهي ومهما استمتعنا بانطباق أفواهنا , نجد أنفسنا ، مولودون في بوابة السّراب المؤدية إلى السّراب.
وقبل آن يرحل الشاعر لابدّ له أن ينقش صراخه في أعمدة التأريخ ، أن يشد الأزر مع المضطهَدين الذين أنهكهم خذلان الموت ، و شياطين الظلام الذين تسلّلوا في غفلة من الزمن ، و أوصلوا شعوبنا إلى هذا المآل الحقير ، لنراه في نصّه (شيطان الآن – نصّ تهويمة):
من بين فسيفساء سجادة فارسية أو سلجوقية / لا أعلم /هو الذي يعرف/فكلاهما بارع في النقش/الشيطان ينظر لي بريبة/و على حين غفلة / ربما تهويمة نوم/ تسلّل إلى سلة الآداب.
ربما يشير الشاعر هنا إلى المعترك الدائر بين الأتراك و الفرس و مصالحهم في العراق، حيث يتساوى الإله و الشيطان ، في ظلّ هذا المعترك الذي يخسر فيه الإنسان فقط ، الإنسان الذي تتحكّم به إرادات الملوك والمرائين و الجلاوزة.
يُردّد الملك تمتماته/بصوت عال/رافعا قبضتيه/ من خلال كمّين مطرزين/يصيحُ بالشعب/مدد…مدد..معفر ببخور أخضر/من شرفته هناك/فوق عمالقة من إسمنت مسلح/ يطلّ دائما على ساحات التحرير/ من هناك تعاقب الملوك أبدا / أدمنوا النظرات إلينا من فوق/ معهم قارورة عسل تبدو لهم كبيرة/ و رؤسنا تحت/ تبدو لهم صغيرة/سرّ الأبعاد/ فوق و تحت.
في هذه اللّوحة السينمائية المتحرّكة الرّائعة ، استطاع الشّاعر أن يتشاعر سينمائيا ، أن يعطينا صورة واضحة للملوك الأباطرة الذين سحقوا شعوبهم و تمادوا من الأعالي في ضرب الإنسان و تعذيبه أيّما تعذيب ، في هذه المقاطع التي أستطيع أن أراها مجسدة في فيلم عالمي للممثّل الرائع القادم من أمريكا اللاتينية ( أنتونيو باندرياس) و الممثل العجوز أنتوني هوبكنز، في فيلم ( زورو) ففي الفيلم نرى كيف كان الحاكم يصنع سبائك الذهب على أكتاف الشعب المغلوب على أمره وخصوصا السجناء في الأحكام الثقيلة . في الفيلم يتّفق أنتوني هوبكنز وهو المدافع عن حقوق الفقراء والذي يحمل ضغينة للحاكم ، حيث أنّ الحاكم قتل زوجته وسرق ابنته ،وزجّه في السّجن ، وبعد مضي عشرين عاما استطاع الهروب من السجن ، وبدأ بملاحقة الحاكم ويتفق مع بطل الفلم أنتونيو باندرياس ( زورو) في القضاء على الحاكم، وبالفعل يتمّ القضاء عليه ورميه من أعلى الشرفة التي كان يُلقي منها خُطبه المزيّفة على السّجناء ، وفي مشهد مثير يشفي غلّه المظلوم، حين يُرمى من فوق وهو حيّ مع سبائك الذهب، فيلقفهُ الشّعب الغاضب ،و يُمزّقهُ إربا . إنّها لحظات ثأر المظلوم على الظالم , إنّها صرخةُ التّحت على الفوق , أي معترك (سرّ الأبعاد ) ولا بدّ من منتصر
في يوم من الأيام ، وهذه الصّورة كانت من المفروض أن تحصل لصدام حسين . ويستمرّ الشاعر في نصرته للفقراء و المساكين وهذا دأب الشاعر الحقيقي ، إذ عليه أن يكون لصيقا للمحرومين ، كما نرى في (ذيول ، نصّ تهويمي):
كدأب زرقة السماء تنظر من عليائها للمساكين لا تفعل شيئا يرد لهم الاعتبار تتلهى بالضحك على آلام تبدو كالذيول
يجرجرها فقراء مبتسمون
دموع البشر تكفي لتحريك طاحونة ماء ، ألا تكفي إذن لتحريك الله ليرى ما يصيب الإنسان من دمار . الإنسان يُلقى في هذه الأرض وحيدا، بلا مُعين , ضعيفا في مطحنة الحياة المدمّرة ، و وسط هذا العالم المليء بالظلم ، والسخرية ، العالم المحكوم من قبل الأثرياء ، وقوانينهم التي وُضعت أساسا لحماية مصالحهم وما على الفقير سوى الطاعة والصمت والخوف من هذه القوانين المجحفة ، فبقي الإنسان معذبا ومعرضا للسخرية حتى اليوم ، وكأننا نعود إلى عالم الأساطير من جديد وكيف كانت الآلهة تسخر من الإنسان ، كما حصل مع سيزيف الذي حكمت عليه الآلهة ذلك الحكم المعروف ، وظلّت الآلهة تضحك على سيزيف وهو في عمله الشاق برفع الصخرة ، وهذه الدوّامة من العذاب الأبديّ . فهذه الآلهة بمثابة الدكتاتور المسلّط على رقاب البشر.
كدأب الدكتاتور إذا هرم
ينجب دكتاتورا آخر
بذيل أطول أو أقصر
لكنّه ذيل دكتاتور
في شعوبنا التي مزّقتها الأديان ، يبقى الدكتاتور لا يُنجبُ إلاّ ابنا دكتاتورا ، و لا يخلّفُ الخنزير إلاّ خنزيرا مثل أبيه ، حتى أصبحت وراثة الخنازير عادة لدى هؤلاء السفلة ، ولدى حكام الشرق ، و ليس لدى المضطهَدين سوى الإحتجاج في السّاحات , أو دكّ قضبان السّجون ،أو الموت في المكان ، كما في احتجاج الشاعر أدناه:
كدأب ساحات الاحتجاج
تفتح ذراعيها
لشُبّان عُزل
و لرصاص أعزل
تسيل دماءٌ عزلاء كذيول
خلف رصاصة راكضة، لها ذيلٌ
ذيلٌ من نار
يحتجّ الشّعراء الوطنيّين طيلة حياتهم الأدبية ولا يستكينُ لهم قرار أبدا ، و لا يرهبون الموت ، كما قال الشاعر الكبير سعدي يوسف ( إنّنا لا نرهبُ الموت و لكن/ يا جميع الأصدقاء ، يا جميع الشّرفاء/ ارفعوا أصواتكم من أجل شعبي/ إنّنا نطلبُ من أعمالكم صيحة حبّ و رصاصة.
لقد اقترب الشاعر عبد الفتاح كثيرا في ثيمته أعلاه من الشاعر سعدي يوسف ، لكنّه يتألّم على المكانة الدونية التي تصلها الأمم أحيانا نتيجة تراكمات كثيرة من الظّلم و التّعسّف الذي ينتهي إلى التأخّر في اللّحاق بركب الأمم المتحضّرة الأخرى ، لنقرأ ما هي مكانة هذه الأمم ، حتّى في ذيل القرن.
اليوم قال لي صديقي
الأمم حجزت أمكنتها في رأس القرن
و ركبته في ذيله
أمّا نحن فقد عدنا خائبين
نتأمّل قرنا آخر
و هذا القرن لم نجد مكانا حتى في ذيله
العالم المتحضّر الذي استطاع من خلال أدباءه و مبدعيه ، وصف المستقبل القادم ، كما في الرواية الرائعة للكاتب جورج أورويل عام 1984 التي كتبها عام 1948 فهو ينظر إلى العالم التكنولوجي المتطوّر والمتفوّق على الجهل والتّخلّف الذي ما زال ينخرُ في كلّ معالمنا
الحضاريّة. ولذلك بقيتْ أمصارنا على حالها،و أزقّتنا محنّطة منذ سنين.
نسيرُ في شوارعنا المحنّطة
منذُ اغتيال الزّعيم
أنا و صديقي نُثرثرُ
نتذكّرُ الأيّام الخوالي
منذ اغتيال الزّعيم الوحيد الذي جاء ليخدم هذه الأمّة بشرف ، لكنه لقي حتفه على أيدي السفّاحين و القتلة و جلاوزة البعث ، و لم يتبقّ لنا غير الحنين إلى تلك الأيّام الخوالي و الثّرثرة ،و الثّرثرة هي للضّعيف، يقولون إنّ بوذا العظيم له آذان كبيرة و فم صغير , أي أنّه شديد الإصغاء قليل الكلام ، أمّا نحن فلنا آذان صغيرة و فم كبير للثرثرة اللاّمجدية وعدم الإصغاء للآخرين.
خوفنا و رعبنا و ضعفنا في أوطاننا من الحكّام المجرمين ، جعلنا لا نحصد من هذه الحياة غير الخيبات و خسران الحلم و الأمل ،و اللّجوء إلى الأيّام الخوالي التي تجعلُ من الشّاعر يهيم ُمع مخيّلته في البراري، كي يخلو مع النّفس التي غالبا ما تكون قلقة لدى الشعراء، و لذلك قال في نصّه أدناه (شجرةٌ في البريّة – تهويمات):
و جلستُ تحتَ شجرةٍ لا يدّعيها أحدٌ هكذا في بريّةٍ يهربُ منها الضِّبابُ
خوف َ الأفاعي
و تتجنّبها الأفاعي
خوف مخالب صقور غرقى
و لا تغري غرايا ضلّ طريقه
عن سرب ناعق
من المؤلم جدّا أن يرتكن الشّاعر وحيدا كما نبتة الفطر وتنخسفُ أواصرهُ بالعالم الخارجيّ، أو يكون بتلك الرّوح القفاريّة التي ذاقت الأمرين و التي لم تخضرّ إلاّ بوجود الحبيب أو الفكرة التي يتعلّق بها الشاعر ( قلبي وحشة ليل وعيونك نهار / روحي جدبه و ضاقت بحبك خضار ) و هذا ما جاء بصوت المطرب العراقي الحنون قحطان العطار المنفي في ديار الغربة ، فماذا يفعلُ المرءُ في التّصحّر الذي يشملُ القيم الأخلاقيّة و المنظومة الإجتماعية بشكل كامل.
يشيرُ الشّاعر هنا إلى الحياة التي نعيشها اليوم مهما اخضرّت الرّوح في البريّة الجهمة ، تعيدُ لنا دورة الحياة ، التي يعيش فيها البعض على الأخر والبقاء للأصلح و الأقوى ، في الحروب تموتُ العساكرُ ..و تظلّ الجُثثُ عرضة للصّقور والغربان و الأفاعي .. التي هي بدورها تتلقّى الخلاص عن طريق الحيوانات الأقوى ، ولم يكن مصيرها سوى أعماق
الأرض ، لتكمّل دورة الحياة العقيمة،الحياة هذه التي نحن فيها نقفُ طوابيرا ننتظرُ حصاد المنجل.
و أنت، أنت أيّها الموت
من يعرفك لولا الحياة
فلماذا تخطفها خطف المناجل
أيّتها الشّجرةُ التي لا يدّعيها أحدٌ
تعالي و اسمعي صمتيَ المجلجلَ فهو الوحيد الذي يبزغُ مثلَ غيم من يعرفك لولا الحياة ربما يمطرُ يوماً
ربّ لحد ٍ قد صار لحدا ًمرارا…..ضاحكاً من تزاحم الأضداد … هذا ما قاله أبو العلاء المعري.
لا بدّ للشّاعر أن يتناول الموت ، بكونه النهاية البيولوجية للأجساد، النهاية المحتومة ، أو المارد الذي يطاردنا مهما كانت سرعتنا في الجري والركض للابتعاد عنه ، فهو المنتصر دائما و أبدا ، بل كلّ هذه البشرية جمعاء تنتظرُ في طوابيرها طيّعة لحصاد المنجل ،كي يُلقي بها دماَ صديدا ، يجفّ تحت تراب هذه الأرض التي لا تشبعُ في يوم ما من حصاد هذا المنجل الكريه . الموت الذي جعل الشاعر الكبير سعدي
يوسف يكتب كي لا يشعر بوحدته القاتلة في لندن ، ولذلك قال ( لمن أكتبُ الآن .. أكتبُ كي لا أموت وحيدا ).
بل أرفق بالرّوح
من همس مخاتل
كلّ ما فيه و منه و إليه
بذرا في وهدة ملح
أنا و أنت الآن أيّتها الشّجرة
يابسان لا يدعينا أحد
نعرفُ ما ننتظرُ
انتهت أنصاف أعمار العراقيّين و هُم خائفون من تربّص المخاتلين و آذانهم في زمن البعث المجرم ، و الرّوح التي ظلّت دائما مطاردة من قبل الربّ أو من قبل رجالات الأمن ، الرّوح التي حيّرت الكثير من العلماء و الفلاسفة ، ولكنّها على الأرجح هي خدعة رجال الدين ، و يا ليتها شيء يُباع في زجاجات تعطي القوة لليوتوبيا ، لكي نتنفّسها . الرّوح التي وضعت كما قال الشاعر كبذرة في أرض خصبة و لا تعرف التناسل و لا تعطينا من الثمر اللذيذ أبدا ، وهذه الشّذرة تتردّد بلغتها الدارجة على أفواه العراقيين نتيجة الظلم و الاضطهاد فكانوا يقولون ( لو كان أبي زرعني في أحد الشوارع القذرة من أوربا) أو ( أنّني ولدتُ بالخطأ). استطاع الشاعر أن يوظّفها هنا كاستعارة رائعة ، وجاءت كلاما شعريّا لا ينقصه شيء . ثمّ يعودُ الشاعر بخاطره الحزين ، ومشاعره اليائسة في النّهاية، فيقول ( أنا و أنت أيتها الشجرة يابسان) …فهو المصيرُ المحتوم في هذا التّواجد الوقتي لوجود الإنسان الذي ينتظر مصيره المأساويّ شاء أم أبى ، فليس هناك فائدة من العيش لفترة أطول إذا لم تكن لدينا قوّة أكبر ، ليس هناك من فائدة في اللقاء الذي تحجُبه الاستحالات العديدة في هذا الكون اللاّ متناهي , خصوصا الاستحالات التي تحلّ في لقاءات الأحبّة ، مثل اللّقاء النّهائي الذي جمع الممثّلة الجميلة صوفيا لورين و الممثّل مارشيلو ماستروياني في الرائعة السينمائية ( زهرةُ عباد الشمس ) ،تلك الزّهرة التي تُدير نفسها إلى الشّمس دائما ، فنحن مُسيّرون دائما في مصائرنا كما زهرة عباد
الشمس. في الفيلم يفترق العاشقان بسبب الحرب، و يُؤسرُ البطل في روسيا و تذهب هي للبحث عنه ، وتسألُ عنه في كلّ مكان من
أرض روسيا ولكن دون جدوى . فتعود هي إلى أرض الوطن ، يائسة على اعتبار أنّه قد مات هناك ، في أحد المعارك . و بعد نهاية الحرب و فراق طويل , يعود الحبيب إلى ايطاليا ويلتقي العاشقان في مشهد مثيرٍ وفي غاية من الحزن ، الحبيب الذي جاء ليلتقي حبيبته و الزواج منها ، قد سمع صراخ طفل رضيع من غرفتها ، فعرف أنّها قد تزوّجت، و بكى الاثنان و سالت الدّموع التي استحالت إلى الفراق مجدّدا ، بل الالتباس و الفراق و الصّمت الأبديّ .الصّمتُ الذي أدّى بالشّاعر أن يُسمعنا صُراخهُ الصّامت في النصّ أدناه في (نصّ مزامير نصّ صمت):
ربّما حرفٌ و حرفين وربّ الآه ربّ الصّرخة الحبلى بأحلام الجيّاع هي من يفتحُ أقفال القماقم
ربّما !!
الشّاعر اختار عنوان الصّمت للنصّ ، في حين نحن نقرأ في النصّ ( ربّ الصرخة الحبلى) ،و لا ضير في ذلك ، لأنّ الصّمت في الغابة هو حوار الصّمت مع الصّمت أي إنّه كلام ، و الكلام ربّما يكونُ صراخا بوجه الطغاة أو تأويلا آخر ، حيث يعوّل شاعرنا في النّهاية بصراخ الفقراء والجياع، ثورة الجياع تعادل الثورات المسلحة و كأنّها النار الأكول في الهشيم، تُدمّر قلاع و حصون الأباطرة ، إنّها تهزّ أركان المؤسّسات الأمنية و الاستخباراتية كما حصل في العراق عام 1991 وكيف رأينا الأبطال وهم يطاردون فلول البعثيّين الذين ارتدوا زيّ النساء كي يفلتوا من قبضة الفقراء والجياع . فهناك الكثير من شواهد التأريخ بذلك ، في كلّ بقاع الأرض و على مرّ العصور ، والكثير من الشّعراء قد شاركوا في ثورات الجياع ومنهم ( رامبو) الذي نجا بالصّدفة في كمونة باريس التي اشترك بها مع العديد من الفقراء ضدّ الكنيسة و النظام الحاكم ، و في حينها قال ماركس قولته الشهيرة ( غلمان باريس يهاجمون السّماء) .
ويستمر ّالشاعر عبد الفتاح في تخيّلاته وتهويماته ، يريد الخلاص، و ابتغاء اليوم الجميل، ولذلك أهدانا هذه الأبيات الرائعة من محاكاة الحيوان في خياله الأدبي:
قالت نملةٌ يا أيّها النمل اخرجوا فهذا يومٌ جميلٌ ثمّ قالت : ربّما صرخ النّملُ جميعا ربّما!! اخرجوا!!!!!! العفريتُ مات
بالمخيلة نستطيع أن ننتقل من مملكة الحيوان إلى مملكة الآلهة، و بالمخيلة ننال الحرية و هي قوّة اللامعقول و المضيّ ضدّ الجاذبية الأرضية و باستطاعة الإنسان أن يرتفع في الهواء مثل الفقير الهندي، المخيلة هي الحلم عكس ما يقوله ( القيصر) عندما رفض إنقاذ مكتبة الإسكندرية وهو يقول على المصريين أن يعيشوا حياتهم بدلا من أن يحملوها بواسطة الكتب.
إنّ الكثير من الأنظمة المستبدّة تُسقطها الشائعات و الأقاويل التي تتناولها الألسن، لأنّها بمثابة المطرقة اليومية التي تحلّل إسفين الطغاة، إنّها الجرس المتكرّر في آذان النائمين لعلّهم يستمعوا فيصحوا ويكونوا في أوّل الرّتل الذي ينادي بالتغيير والخلاص ، في هذه الثيمة أراد الشاعر أنْ يوضح لنا كيف كان المجتمع العراقي، و تلك القصة الطريفة التي تحكي عن ذلك الأسد إذا ما دخل المدينة فانّ الجميع يهرب خوفا وهلعا من زئيره ، وفي يوم من الأيام كمَنَ الثعلب( ابن آوى) إلى الأسد في الطريق الذي أعتاد عليه يوميا، حيث وضع عقدة في الحبل الذي ربطه في جذع شجرة، وعندما جاء الأسد يزأر ، هرب الجميع إلى بيوتهم , ولكن الأسد عُلّق في عقدة الحبل، فظل يدور حول الشجرة حتى سقط في الحفرة التي حفرها له الثعلب، واخذ الثعلب يصرخُ و يصيح بالنّاس أن اخرجوا لقد تخلصنا من الأسد، و لن
تدوم الفرحة ، حيث أنّ هناك فأر خبيث بدأ يقرض الحبل ، حتى انقطع وتخلص الأسد من العقدة والحفرة، و بدأ يتجوّل في المدينة بدون زئير، لكن الناس هربت من جديد والكلّ ترك عمله و مصدر رزقه .. لكنّ الأسد اتّجه خارج المدينة للرحيل منها دون أن يفعل شيئا ،وهو يقول لهم: "اخرجوا من بيوتكم و لا تخافوا فأنا راحل من هذه المدينة ، لأنّ المدينة التي يربط فيها الثعلب( ابن آوى) و الذي يحلّ هو الفأر ، هذه ليست مدينة , إنّما ديرة مخانيث، فأنا تاركها لكم " .و هكذا بدأت الناس تتنفّس من جديد ،وهذا ما حصل أيام الجيش الشعبي و البعثيين الذين هم ( عبارة عن ابن آوى و الفأر) الذين كان بأيديهم الرّبط و الحلّ.
يموت العفريت ، ينطلق الشاعر ، حاله حال الآخرين ، يتنفس الصعداء، يتمتع بالحرية ،يشرق يومه و غده، يتأمل قليلا ، و لأنه ابن العراق يبقى خائفا مرتهبا رغم كل هذا الشروق كما نرى في نصّه ( أراجيف):
أراجيف
نصّ تأمّلي ،روحي، جمالي، تتألّقُ فيه المعاني الحسيّة و الإبداع، يُحاكي الطبيعة، يتعاشرُ مع بني الإنسان، يحملُ شيئا من الفلسفة، يغور في معاني الحياة و ألغازها التي حيّرت الكثير من الكتّاب ، نصّ ابتعد فيه الشاعر عن السياسة و مشاغلها ليُريح النّفس قليلا ، بعيدا عن الشدّ و الجذب ، التي تُتعبُ الأعصاب ، فقال فيه:
الغدُ عندما يشرق يرهبني بمجهوله سأقول له لا تكن عنصريا لتصطفّ مع يومي و أمسي
الإنسان يخافُ الدخول في بوابة الشيخوخة المؤدية إلى الموت ، و لذلك الشاعر يمتعض من هذه الفكرة و يعتبرها عنصرية من قبل الغد القادم , إنّ كل خطوة تقادم تعني المستقبل و هي نفسها تعني الشيخوخة والكبر، تعني الفراق الأبديّ مع الأمس و اليوم ، و لذلك الشاعر كان كارها للمستقبل في هذا المنظور ، و هناك الكثير من الأدباء الذين أرقتهم هذه الفكرة ، ومنهم همنغواي الذي راح يتصوّر نفسه وهو في عمر السبعين , أي أعطى انطباعه عن المستقبل الذي كان له بمثابة الغمامة .ولذلك كان يفكر في أن يضع حدا لحياته التي انتهت بالانتحار.وهناك الكثير من الأدباء ممّن لهم النظرة التشاؤمية اتجاه الحياة والوجود ،لكن شاعرنا هو من المتفائلين ، و هو ممّن ينظرون إلى الحياة كونها بمثابة النهر الذي لا بدّ له أن ينتهي في المصبّ ، وهو يجري على سليقته وطبيعته ، النهر يجري من المنبع ( الولادة) و ينتهي في المصبّ ( الموت) ، والمصبّ نفسه هو الميلاد الجديد ، وهذه هي سلسلة الحياة و الموت التي لا تنتهي، ولذلك قال الشاعر في ثيّمته الرائعة من نفس النص:
عندما أدركتُ أنّ الحياة فائقة الجمال مغادرتها خسارة كبرى منطقة لا يتكرّر المرور بها صنعتُ حلمي الفريد بالعودة إليها.
الوجود الأبديّ صعب المنال للذات الواحدة. الإنسان هو الخاسرُ الوحيد في الحياة المليئة بالمتناقضات و الألم، لأنّه يمتلك العقل و الأحاسيس. الحياة عبارة عن عطاء دائم، للأسرة، للمجتمع، للفكر أو للحب، لكنّها في النهاية لا تعني غير الرحيل، و الفناء و العدم. لكنّ الشاعر تؤرّقه هذه النتيجة الحتمية ،فراح يبحث عن الحلم و هو البديل لتلك الدراما الحزينة لنهاية الإنسان ، يحلم بالرجوع إلى الحياة مرة أخرى بطريقة أو
بأخرى ، بالرغم من أنّنا لم نجد من مات و رجع و خبرنا عن الموت و مجرياته.
الشاعر أراد العودة بالحلم أو التناسخ الجيني، ربما بعد ألاف من السنوات يولد الكثير من التشابه بين بني البشر، و هذه الفكرة نجدها لدى الديانة البوذية ، التي تقول بأن الحياة لا تنتهي، بل هي عبارة عن دائرة من الحيوات و الموت ، ومن الممكن أن يأتي الإنسان في يوم ما، و في زمن ما ، و لو بعد ملايين السنين ، بنفس النسخة ، كما نقول ( هناك من الشبه أربعين) .هذا يعني أنّ الحلم يتحقّق دون دراية من الإنسان لأنّه يكون قد فاتت آلاف السنين على موته البايلوجي.
و رغم كلّ هذه الأمور من الفناءات و الحيوات الزائلة ،لكن تبقى مغريات الحياة التي تحمل الاسم الأنثوي ، و ذلك للدلالة على إغواء الحياة لنا، و انصياعنا التام ّلمغرياتها ،و لذلك قال الشاعر في سطوره التي سبقت السطور أعلاه:
الحياة أنثى فاتنة الوقوع في غرامها صُلب المشكلة وعين الحلّ
ولكن هذا لا يعني أنّ الانصياع للمغريات، ترك الأمور الحساسة والمهمّة للشاعر المتماهي مع القضية الإنسانية و الدفاع عنها ، والذّود عنها بكلّ ما يملك.
الشّاعر النّاصع لا يخافُ المتربّصين، لأنّه لا يحملُ في كفوفه سوى الخطوط التي خطّتها الطبيعة، و لا يحملُ في حقيبة الحياة غير أوداجه وجوانحه، ومن يريد التأكد فليتقدم وليفحص في وضح النهار، لا في آناء الليل . أنه لا يشبه ساسة اليوم ، المتبجحين بالدين وتعاليمه ، لكنّهم في نفس الوقت سرّاق محترفين، راحوا يتمادون في الحياة ، بينما شاعرنا يمتطي صهوة النزاهة والشفافية ، لا يهاب الموت في سبيل
العدالة ، بل راح يتدرّب على الموت والخلاص ، كي لا يهتزّ إذا ما وقعت الملمات في وقتها.
لا تسرف في الحياة لأنّها قابلة للنّفاذ وتدرّب على الموت لأنّه قادم واصنع ما شئت من الأحلام لعلّك تتدارك الفجيعة
كما كان يفعل الكثير من الإبطال الذين أصبحوا رموزا شاخصة على مرّ العصور ، كما فعلها الثائر الإفريقي ( لو مومبا) الذي قتل من قبل الاستخبارات الأمريكية ، وقبله المجالد العظيم سبارتكوس قائد ثورة العبيد ، الذي تدرّب كثيرا على الموت و الأحلام وفي كلّ مرّة يخرج منها منتصرا ، وحتى ميتته الأخيرة ، كان يصرخ بوجه جلاّديه الرّومان ، و بقيت صرخته حتى اليوم تخيف الطغاة و الجبابرة.
الشاعر عبد الفتاح ، قد مرّ بالكثير من الفجائع و الملمات التي أثّرت به ، و منها طبائع الغدر وعدم الوفاء ،والخيانة من بني الإنسان ، و ما أكثرها، لنرَ من الألم الكثير من هذا القبيل في النص التّالي (ظننتك لي أخا):
ظننتك لي أخا و ظننتُ أنّي
أعاندُ فيك دهري أن يخنّي
و كم لعبت بقلبي وسوسات
و كذّب بعض فعلك بعضُ ظنّي
…….
ترى هل يُثمر العاقول تمرا
و هل إلاّ انغراز الشّوك أجني
…….
و إنّي لأحتويه ليحتويني
على ليلاه كُلاّ قد يُغنّي
إنّها دعوة صريحة لفضح أولئك ، الذين يخونون الودّ ، إنّ أمثالهم من الصعب اكتشافه إلاّ بعد أن يأخذ ما كان يرمي إليه ، و لذلك نرى في البلدان المُتحضّرة و بالأخصّ ، البلدان الاسكندينافية ، الدّولة هي الراعية للإنسان في كلّ شؤونه المادية و غيرها، فلا يحتاجُ المرء إلى مساعدة الآخرين حتّى و إن كانوا من الأقربين (و ظُلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة على المرء….من وقع الحُسام المُهنّد). أيضا في بلدان الصّقيع لا يمكننا أن نجد صداقة تصل حدّ النّخاع ،لأنّهم باردون مثل ثلوجهم، لكن هناك صديقٌ و صداقة، و في هذه الصّداقة و الأخوّة البسيطة لا يمكنُ أن يتخلّلها الخداع و الغدر كما حصل لشاعرنا عبد الفتاح ،و لذلك لم نجد أيّا من الجرائم الجنائيّة في هذه البلدان إلاّ القليل.
يتألّمُ المرءُ لمثل هذه المواقف التي لم يحسب لها حساب، إنّها تُثيرُ الغثيان و القيء ، إنّها تزرع في المقابل شيئا غير مألوف يُغرزُ و هو غير قادر على التخلّص منه، إنّها الأشياء غير المرئيّة،بل الحسيّة التي تؤلمنا من الداخل، و أشدّ أنواع الألم في علم النفس، هو الألم من الداخل ، لأنه يصرخ بنا من الأعماق، أمّا الألم الخارجي، كضربة من عدوّ أو صديق في الوجه مثلا، هذه من الممكن أن تندمل في يوم ما ،و لكن الألم الداخلي هو ذلك الذي يبقى مع النّبض و الإحساس والوجود، و هذه تحتاج إلى الصّبر الطويل كي تُمحى من الذّاكرة .و رغم ذلك بقي الشاعر صلبا في مواقفه و لم يضلّ عن جادة الصّواب في تعامله مع الآخرين و في بقية الأمور الحياتيّة، كما في النصّ أدناه في نصّ (ما ضلّ قلبي):
شكا الفؤاد و لكن ليس من عدم
بل من تهافت سعي السّوس في الشّجر
خبزي كفافي و أحلامي ملوّنة
و لا يخيط جلابيبي سور إبري
أتزدري الكفُّ إن باهت بأبيضها
ما كان قارون إلاّ من بنى سقر
و كلّ شمس أطلّت لي بها سهم
أنا شريك جميع النّاس بالقمر
كلّ الأبيات عبارة عن واقع معاش و كثيرا ما نردّدها يوميا ، الخبز هو الرّمز الذي اتّخذه الكثير من الشّعراء الكبار و منهم محمود درويش ( أحنُ إلى خبز أمّي /و قهوة أمّي/ و تكبرُ فيّ الطفولة /يوماً على صدر يومي ) هذه الكلمات قد غنّاها المُطرب الشّيوعي البارع مرسيل خليفة. الخبزُ الذي اتّخذهُ الروائي الفرنسي كزافييه دو منتبان في روايته الشهيرة ( بائعة الخبز) ، علي ابن أبي طالب قال ( آه من قلة الزّاد و وحشة الطّريق).
ثمّ يعرجُ الشّاعر إلى الحياة البسيطة التي يعيشها الفقراء و كيفية ترقيع الأثواب ( الفقر سجّانُّ وحشي) ، و هذه نراها في أرشيف الشّعر العراقيّ العاميّ ( هاك إبرة هاك الخيط خوية أرد أكلفك ،و مشكك الدلال شلّه على عرفك ) .. لكنّ الشاعر يخيط أثوابه بيده، التّواضع و الدلالة الواضحة على انتماء الشاعر إلى الطبقة الاجتماعية التي لا تحبّ أن ترتقي إلى الأبراج العاجية ، إنّها التي تعيش على عرق جبينها، إنّها الطّبقة المكافحة و المتعبة على طول الخطّ ، إنّها المناضلة دائما ضدّ الطّغاة ، إنّها الثوريّة في كلّ العصور ، إنّها التي ترفعُ بيارق التّغيير دائما و أبدا إلى هذه السّاعة.
أمّا بياض الكفّ فهي استعارة جميلة ( هذه كفوفي بيضاء) حين نعرضُ كفوفنا على الآخرين كدليل على مصداقيتنا في الوضوح والشفافية، و عدم السّرقة و التّلاعب بأموال الآخرين ،كما إنها الكفوف التي تحملُ الأصابع. الأصابع التي تنطلقُ بنا إلى عالم الإبداع ،الكفوف التي نتحسّسُ فيها الجنس اللّطيف ، و هي تذهب إلى الجلد الناعم أو تلمسُ حرير الأثواب ، أو الكفوف التي تمسحُ دموع عيون النساء إذا ما بكين في لحظة شوق وحرقة و ألم , أو على فقدان الأحبّة لسبب ما، إنّها الكفوف التي لا تبحثُ عن ملك قارون ( لا ملك قارون عندي ) ، إنّها كفوف شاعرنا البيضاء والنّاصعة نصاعة قلبه الكبير و الغافي بين ضلوعه البيضاء في الليالي التي كنا لا نُحسدُ عليها في أيّام البعث البغيض، لكنّها اليوم تحملُ الكثير من الفوضى و القتل و الدّمار ،إنّها الأيّام التي تحملُ نذير الشّؤم ، لنرى الشّاعر ماذا قال عن اللّيل، في نصّ (يا ليل بغداد):
يا ليل بغداد أمن خمر
سكري نجومك أم من السّحر
…….
و صرختُ تبّا للزّمان و تبّ
ما كان أبخله على الحرّ
…….
لي في الهوى سرٌّ سكرتُ به
خمرا و شيطانا من الشّعر
……..
فوجدتُ أنّك في الفؤاد هوى
يجري به كتسلسل النّهر
……
العشق يهزأ من سيوفهم
حتّى و إن وضعت على النّحر
اللّيل.. اللّيل.. ذلك السّواد العظيم ، الذي يمتلكُ ملايينا من العُيون اللامعة و ينتصفها القمر الذهبيّ ،الليل الذي دوّخ الشعراء ، و الصوفيّين و أصحاب الشأن الفلكيّ , و عُشّاق الغزل و الأسرار الدّفينة في طيّاته ( و ليل كموج البحر أرخى سدوله ) .. (اللّيل يا ليلى يعاتبني ، و يقول لي سلّم على ليلى , والحبّ لا تحلو نسائمه إلاّ إذا غنّى الهوى ليلى) أمّ كلثوم حين يصدحُ صوتها ( اللّيل اللّيل ،و دقّت الساعة )، عمر ابن أبي ربيعة الشاعر الماجن حينما عجزت منه عشيقته في أنْ تنهيه من الإتيان إلى الضغن في وضح النّهار خوفا من عيون الناس و الأهل والعشيرة، فقالت له في البيت الأخير من قصيدة طويلة ( لقد أعيتنا حجّة ً فأتِ إذا ما هجع َالسّامرُ .. و اسقط علينا كسقوط النّدى ( ليلة) لا ناهٍ ولا زاجر.
إذن هو الليل مخبأ العشّاق و حاميهم و منقذ أمانيهم ، و مُدثّر غرامهم إذا ما نام الأنام .. اللّيل اتّخذه الكثير من الخمّارين لمداواة لواعجهم، لتهدئة جنون السّاعات النهاريّة التي تعصفُ بهم بين آونة و أخرى، اللّيل يتّخذهُ الشّعراء أيضا كرمز للظّلمات.
و صرختُ تبّا للزّمان و تبّ
ما كان أبخلهُ على الحرّ
الزّمان و فعاله لا يحالفُ العاقل و لا الحرّ و لا الطّيب ولا صاحب المروءة، بل دائما نراه يشدّ الأزر مع الماردين و الشّياطين و أصحاب السّوء، و لذلك نرى أصحاب الشأن الرفيع وذوي الأخلاق الحميدة مركونين في صومعتهم، ولكنّهم صامدون أبد الدّهر لا تلويهم الأعاصير مهما كانت،
لكنهم في تساؤل دائم، عن تفسير الحياة و مآربها، عاشقين للأرض و الجنس النّاعم ، الهوى يسري في نبضهم أبدا، كما نرى في النصّ أدناه (تباريج):
سلا القلبُ من جالت زمانا بنبضه
فأزمع أن ينسى الهوى بعد حفظه
و أورق من نبت التذكّر دغله
و ما أمرعت إلاّ السّفا فوق أرضه
مهما فعل الإنسان ضدّ ما تريده الطبيعة و أراد أن يتصوّر أنّه في بوابة الصّواب ، لم يجد نفسه إلاّ وقد ركب القطار الخطأ، القطار الذي يرجع به إلى محطّات يكرهُ أن يراها أو ينزل بها، إنّها محطّات الفلاش باك، إنّها محطّات الحبّ الذي انتهى إلى الجنون و الفشل، أو الفاجعة و الموت، وكلّ هذه اللّواعج تخلقُ لنا أدبا غزليا وتشبيبا قرأنا عنه الكثير و من فحول الشّعراء أو مغمورين، إنّه الغزل و التّغزّل بالأنثى الذي انفرد بالتسمية و على دروبه تخلّد الكثيرون ، و في رياحه طار المجانين بلا عودة، وفي ثناياه تصلّب عود المحبّين عذريّا، كما في المحاورة العذرية بين جميل و بثينة ،حيث هما جالسان على ترعة من الماء ، و كان يصغي إليهما الشّاعر ( كُثير عزة) و قد خبّأ نفسه وراء صخرة، فسمع بثينة و هي تقول لجميل : يا جميل ماذا تبتغيه مني؟ فقال جميل جوابا عذريا خالصا ( لا و الذي تسجد الجباه له … مالي بما تحت ثوبها خبرُ …. و بفيها وما هممتُ بها …. إلا ّ الحديث و النظرُ) ممّا أثار إعجاب ( كثير عزة) و تصديقه لما تناقلتهُ الألسن عن الحبّ العذريّ بين جميل و بثينة.
غزلُ ركبَ صهوة حبّ الأرض، و الذاكرة الميتة، وهنا أذكر على وجه التحديد قول الشاعر أعلاه (و أورقَ من نبتِ التذكّرِ دغلهُ……….و ما أمرعَت إلاّ السفا فوقَ أرضهِ) ، الشاعر هنا تكلّم و كأنّ اللاّشعور يمضي في دمه، حيث تناسى بأنّه مهندس زراعي و لذلك جاء البيت مع البوح
الحقيقيّ الذي يتحدّث عن عالم النباتات، لم لا، فهناك نصّ سومريّ جميل يتكلّم عن النباتات لما فيها من حياة للبشرية جمعاء، والنصّ من رحلة (نانا إلى نفر) …. وهو عن حبّ الإنسان أيضا إلى الطبيعة و جمالها لنقرأ ذلك:
في الحقل أعطني مزيدا من القمح
في النّسيان أعطني مزيدا من النّخل و العنب
في الأهوار أعطني مزيدا من العشب و القصب
ثم يستمرّ الشاعر مع العاشقين و الحبّ و ما يفعله بالمحبّين:
رأيتُ قلوب العاشقين و قد غدت
نثارا على طول الطّريق و عرضه
أرى الشاعر في هذا البيت محدثا رائعا و إن كانت القصيدة تنتمي إلى الماضي البعيد . أورفيوس و قصّته و كيف ذهب إلى العالم السّفليّ في سبيل إرجاع حبيبته ،ومن ثمّ فشله في النّهاية من إنقاذها ، ثمّ بعد ذلك قطّعت النّساء جسده إلى أشلاء و من ثمّ حرقهُ ،و توزيعهُ نثارا على الطّرقات، وظلّ ترقص على أغانيه جميع الطيور والنباتات، و العشّاق ، بل حتى الصّخور، كما تقول الأسطورة . إنّه حبّ الجسد الذي يرتبط مع الرّوح، وكأنّ العاشق يقول : إنّ حب جسدك هو الذي مازلتُ أرغبُ ، أمّا روحك فباستطاعتها أن تشنق نفسها ،فلديّ من الرّوح ما يكفي.
الشّاعر و القاصّ عبد الفتاح بهذه السّطور:
القاصّ والشّاعر عبد الفتاح ، لا تستعصي عليه المعاني الصّعبة في الشّعر و السّرد ، بل يتعدّاها أيضا إلى الإيقاع السّاحر ، الصّارخ و المنذر، الصّاعد و النّازل، إنّه الأديب الذي يمتدّ العراق بدمه كما يمتدّ ديموغرافياً على الأرض، استطاع أن يصوّر لنا الذوات المتناقضة و كيف تتصارعُ مثل الكلب و القطّ اللذان لا تتاحُ لهما أن يعتادا على بعضهما ،إنّ الكتابة لديه كالصنّارة إذا عُلّقت صعبٌ التخلّص منها ، أدبيّات عبد الفتاح عبارة عن مدارج مغمورة بأزهار السّرد و الشّعر ، أدبيات عبارة عن باخرة تمخر في العباب الهائل و نتيجة الرّياح العاتية تتكسّرُ على جوانبها الأمواج ، إنّه شاعرٌ يُؤمنُ بما قاله الرّاحل محمود درويش بأنّ الشّعر يُعيدُ الحياة إلى اللّغة عندما تُستهلكُ و تصبحُ مجرّد لُغة يوميّة و دارجة و مُبتذلة ، و في عصر لم تعد فيه الأذان تسمعُ لغة فصحى إلاّ في نشرات الأخبار ، قاصّ و شاعرٌ لا يهربُ من الواجهات مهما كان نوعها، شاعرٌ يتألّمُ و يفرحُ نتيجة الحدث و ماهيته، إنّه لا يبغي شيئا حتّى و إن سُرق ماديّا. العالم الخارجيّ لديه هو عالمُ المال ، و في عالم الأدب رفض صارخا لذلك يُقال في الحكمة العربية ( إنّ الرجل أدركته مهنة الأدب أي امتهن الفقر) , و لذلك وجدناه رائعا، إنسانيّا في نصّ ( ظننتكَ لي أخا).
القاصّ و الشّاعر عبد الفتاح قد وضّح لنا مدى طبيعة الشرّ لدى البشر، و تأكيده على الشخصيّات التي من خلالها استطاع الغوص و إبراز المأساة و آثارها و الخطيئة المترتبة عن ذلك، و لو كان السّرد طويلا روائيا ، لكان قد اعتبر من الأعمال الدرامية الرائعة . يكتب بمشاعر نابعة من المعرفة التي لها أواصر بالمنطق و الاستنتاج، يدخلُ في سياق الأحداث ، يتبنّى النّقد الاجتماعي بشكل جديّ و يُعطيه أبعاده الأوسع و يدعو إلى الحرية و بناء حياة اجتماعية حقيقيّة بعيدة عن الألم ،و قدّم مواضيع و خيالات و أحلاما جديدة , جعل لها إطارا أدبيّا عراقيّا حاز على إعجاب و احترام الكثيرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.