بقلم : الشاعر و النّاقد التونسي شكري مسعي – النصّ: الليلة، تعود اليمامة تنبئني أنّك مازلتَ تطعم حرفك السندسيّ للأرض… لأراجيح ملوّنة عند أسفل الظلّ ألمحك هناك في البياض الفاصل بين عشب وماء انتماء وفراغ يسقط سهوا على وجوه الغائبين. الغائبين الذين تجتاحهم الدموع بلا أمل في العودة حين يشتدّ صقيع يتكسّر كلّ ليلة على أطرافهم. هل ما زالتْ العصافير تشاركهم الصمت؟؟ هل ما زالت البيوت تنحني للريح تصلّي على رجع الصدى؟؟ حين ينهض صوت المؤذّن تبتعد الخطوات كعادتها ثم تركض نحو واو مبهمة "وداع" ألمحك تبسط يدك قليلا للأبديّة تمسح عن جبيني آهة صعدت من بئرها عنوة ومنديلي يلوّح لذاك الغائب … في زاوية من حجارة تتعانق … هل لك الآن أن تشرب معي نخب الأشياء الهاربة؟؟ حتما ستموت أيائل الحزن دمي سيرقص عنبا ، ويسكر أيكة الخزامى ستزهر عند آخر العتمة وتأوي المشاهد المنسيّة خلف صواري النهار فأيّ شرنقة سنمتطي ؟ و أغاني الدهشة لم تكتمل بعد؟ ليتك لم تشعل أرضي لوزا ليتني زنبقة تنبت من أضلاعك متدلية كأعناق العنب حينها، سينتشي الأقحوان يفيض اللمعان على المدى فاركض إلى حرقتي قبل بلوغ الطلع عند أسفل الغسق وحدنا نفرح بالهمس في فسحة العشق وبلاغة البوح المليئ باليمام … الليلة، سنؤثّث بيوتا للنحل وحدائق للأشجار الوحيدة في العراء هناك تستجير الحمائم بدفء الأعشاش القصيدة تعزف لحن الأزل .. ستنبت "الليزانسيث" قبل ان تقرّر الرحيل على ضفاف المشاهد والأوراق فامكث هنا حبيبي لنتوسّد معا نزق العشاق ثم نمضي …. غرقا.. – القراءة : البوح على البوح مجازفة .. مغامرة في عمق الكلام .. ارتياد لمسامات الحرف وغوص في لجّ اللّغة .. وهذا الأمر ليس بالهيّن لا سيما إذا كان ما نروم مقاربته والسير في ظلاله نصّ سامق نافذ، غزير محتكم ساحر.. و نصوص الشاعرة المبدعة سليمى السرايري جميعها درر ثمينة المعدن، تتأسّس على نبع من الإبداع وفيض من اللغة الآسرة. قد يسرقنا ألق النصّ فنتوه في سراديب جماله، و قد يغرينا وهجه فنستلذّ سناه ونضيع في مرافئه.. و في هذه المقاربة الجريئة وعد بالتماهي مع روح النصّ نرجو أن نملك عنان الكلام لنمنح للبوح نبضه الحقّ ونعطي للنصّ جلاله و إشراقه دون تغبين أو تقصير ..فهل نقدر؟؟ أن نقفو أُثرَ البوح السندسيّ ونتفيّأ أكمام الكلام الملائكيّ .. و نستمرئ لذيذ الغمام نتعطّر من وهج الحرف ونركب أراجيح التغريد رحلة على أجنحة الجمال في أراجيح الحلم السماويّ ..أراجيح في أسفل الحلم .. ذلك هو قدر القصيد .. حلم بطعم الثلج .. أمنية مبعثرة تتشظّى على رخام الكلام .. انفتح النصّ معلنا زمن التّماهي، زمنا محكوما بهدأة الليل . الليلة تبدأ المناجاة، مناجاة الآخر الذي يسكن شغاف الحكاية، يأسرها بظلاله. هو الموسوم بالتخفّي والضبابيّة.. الحرف جوّال بين أطياف الأماني والعشق إثم جميل يسكن الرّوح.. هو الشفق المخمليّ بين بياض قاهر وصفاء آسر ، بين عشب و ماء. هنا تسكن المواجع دفّة القلب تعطيها انتشاء هادئا .. هو الانتماء الموءود.. الفراغ الآسر .. تقول الشاعرة الرائعة سليمى وهي تعتّق الكلام : انتماء وفراغ يسقط سهوا على وجوه الغائبين. الغائبين الذين تجتاحهم الدموع بلا أمل في العودة .. غربة قاهرة وضياع فاتن .. يلفّها الصقيع الجبّار .. ويكبر السؤال .. سؤال الوجع .. منه تقتات الذات التائهة وتتعطّر في غيبة الروح .. سؤال الوجيعة التي تثوي بين ضلوع الذات التائهة: هل مازالتْ العصافير تشاركهم الصمت؟؟ هل مازالت البيوت تنحني للريح تصلّي على رجع الصدى؟؟ .. ويحمل السؤال فتنة الحيرة .. ألم البحث عن عالم مفقود .. ذات متعطّشة للبوح ، للاعتراف .. لرسم حقيقتها على ضباب الروح .. عندما ولدت زنبقة الوجع من رحم الفجيعة كانت ابتسامة الكلمة .. رسمت الشاعرة كون الكلمة الواعدة ، تمنحها الغائب الحاضر بين الضلوع .. هو في كيانها يعشّش ، يبني قصورا من الجمال والعطر .. و هي صامتة ، تائهة .. تتعبّد في محراب الضوء العاتم وتتعطّر بمياه الورد البلوريّة .. تبوح الشاعرة وتعلن انعتاقها من ربقة الوهم السرمديّ الآسن وتقول : هل لك الآن أن تشرب معي نخب الأشياء الهاربة؟؟ حتما ستموت أيائل الحزن دمي سيرقص عنبا ، ويسكر . أيكة الخزامى ستزهر عند آخر العتمة .. هي الصور المتوالدة تنسج من عقيق الشفق أبرادا للقاء الروحي .. هل يرقص الدم عنبا إلاّ في وحي الملائكة؟ هل هي الرغبة في السكينة .. في السكون إلى مرافئ الوجد المضني ..؟ يحضر الخشوع في صلاة العشق .. و يتبتّل العشق هائما .. يضوع منه عبق السرور ..هي المواكب العطشى إلى صفاء الروح.. تتلبّس بلغة شعريّة فائقة النعومة باذخة الصور .. غزيرة الدلالات .. منمّقة، صافية صفاء الروح.. تسري سريان الوعد المتوهّج في جلال الدعة ونبل السكينة … و تكبر الأماني وتعظم الأمنيات وكلمة التمنّي " ليت " هي فيصل العبق الموءود ..تقول الشاعرة المبدعة سليمى السرايري مترنّحة جذلى هائمة : ليتك لم تشعل أرضي لوزا ليتني زنبقة تنبت من أضلاعك متدلية كأعناق العنب حينها سينتشي الأقحوان يفيض اللمعان على المدى استعارة التّماهي والتلبّس بالذات .. صورة عميقة الحسّ، حين ينتشي الأقحوان يتسربل المدى باللمعان .. حينها يكون للعشق طعم آخر، لون آخر، لذّة واعدة موعودة .. دعوة ضاربة في عمق الروح .. تستأنس بعناق السرور. دعوة إلى العشق السرمديّ ..هنا يكون للذات المتألّهة -عشقا و صبابة- أن تتنزّل كما الروح على قلب الحبيب ..هنا يستزيد القلب من نسغ الهيام : فاركض إلى حرقتي قبل بلوغ الطلع عند أسفل الغسق .. سرّ أسرار العشق أن تتّحد أرواح العاشقين وتعيش الحلول .. تندمج في بوتقة من الضباب الفاتن وتلتحف السماء … وللنفس الرومنسي في النصّ حضور كبير .. واعد يستلهم اليمام والبوح والفرح وبيوت النحل أعطافا سوسنيّة.. أليس من الجمال والجلال أن يكون المدى رحلة لا متناهية ، رحلة سرمديّة .. غوص في اللاوجود … في العدم .. في اللاحياة .. إنّه التيه .. ذات تناشد الآخر أن يحتفي بها روعة ولذة ، امتلاء وانتشاء ، بداية ونهاية . تقول الشاعرة حالمة مستبشرة : سنؤثّث بيوتا للنحل وحدائق للأشجار الوحيدة في العراء هناك تستجير الحمائم بدفء الأعشاش القصيدة تعزف لحن الأزل.. ستنبت "الليزانسيث" قبل ان تقرّر الرحيل على ضفاف المشاهد والأوراق .. أسطورة الوجد السرمديّ تغتسل في محراب الليزانسيث عروسا تتباهى بأنوثتها الصارخة و تتعطّر من حوض الأزل .. لحظة من الولادة الساحرة .. دعوة للبقاء : امكث حبيبي …يا لها من صرخة تتردّد في أعماق الروح .. تتأجّج في عمق النّفس. تسري كما الإثم المشروع في شغاف القلب .. لنتوسّد معا نزق العشاق ثم نمضي ….غرقا… إنّه الغرق الجميل .. إبحار في يمّ غريب .. سفر في كون موءود .. تيه في بحر عميق المدى شفيف الشذى .. و ينغلق النصّ الواعد بترنيمة البداية الآسرة .. حيث الاحتفال برقصة المدى في ليلة الوجد .. حيث الأراجيح الملوّنة في أسفل الحلم الورديّ الواعد .. هكذا ولد النصّ صارخا من رحم الشوق حالما وقضى واعدا.. وصول إلى ضفّة الحبّ .. حيث لا حياة سوى للحياة التائهة في لجّ المدى .. و يبقى الوجد والعشق مليئا بالوعد ، والتمنّي و يبقى الحلم مفتوحا على قارعة القلب … وللشاعرة الرقيقة والأنثى البلوريّة الأخيرة في كون العشاق سليمى السرايري .. كونها السرمديّ الحالم…. شاعرة لا تعرف السكون ولا تؤمن بالسكينة المترهّلة .. شاعرة رحّالة، جوّابة .. ساحرة ، فنّانة تمنح الحياة طعمها السماويّ والملائكيّ ، ليضوع مسك قلمها عابقا بأريج الروح السماويّة .. هكذا هي الشاعرة سليمى السرايري فراشة في دهشة الضوء، ملاك في رياض البوح ..