خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    الرئيس السيسي يهنئ مسلمي مصر بالخارج ب عيد الأضحى: كل عام وأنتم بخير    آخر تحديث لأسعار الذهب في سوق الصاغة.. عيار 21 بكام؟    تراجع سعر الفراخ البيضاء وارتفاع كرتونة البيض الأبيض والأحمر بالأسواق اليوم الأربعاء 11 يونيو 2024    ارتفاع سعر الحديد (الاستثماري وعز) وتراجع طن الأسمنت بسوق مواد البناء الأربعاء 12 يونيو 2024    حل أزمة توقف امدادات الغاز.. و 15 شحنة غاز في طريقها لمصر    تحرك جديد من الحكومة بشأن السكر.. ماذا حدث؟    هذه أهم ملامحه .."حماس" تسلم الوسطاء ردها على مقترح الاحتلال للهدنة في غزة    حزب الله ينعى القيادي بصفوفه طالب سامي عبد الله.. استهدفته غارة إسرائيلية    نقيب الصحفيين الفلسطينيين: شكوى للجنائية الدولية لمحاسبة الاحتلال على جرائمه    أستاذ علم اجتماع: لدينا قرابة 4 ملايين مهاجر سوداني في مصر    مكافحة المنشطات تسرد موقف غريب من رمضان صبحي بشأن العينة الثانية وتكشف الحكم المتوقع    تريزيجيه: قادرون على التأهل لمونديال 2026.. ونريد إسعاد الشعب المصري    تريزيجيه يكشف حقيقة عودته إلى الأهلي الموسم القادم    ترقي الممتاز.. سبورتنج يتحدى الترسانة في مباراة ثأرية بالدورة الرباعية    طقس عيد الأضحى.. تحذير شديد اللهجة من الأرصاد: موجة شديدة الحرارة    الأوقاف تصدر بيان بشأن صلاة العيد في المساجد والساحات    السيطرة على حريق نشب داخل شقة سكنية بشارع الدكتور في العمرانية.. صور    نقابة المهن التمثيلية تنعى المنتج والسيناريست الراحل فاروق صبري    عزيز الشافعي يطرح البرومو الدعائي لأغنية الهضبة: «الطعامة.. عمر دياب قريبا»    «قدمنا باليه في الشارع».. المخرج عصام السيد يكشف يوميات اعتصام المثقفين    هل الأضحية فرض أم سنة؟ دار الإفتاء تحسم الأمر    الفرق بين الأضحية والعقيقة والهدي.. ومتى لا يجوز الأكل منها؟    الحق في الدواء: إغلاق أكثر من 1500 صيدلية منذ بداية 2024    رئيس جامعة الأقصر يشارك لجنة اختيار القيادات الجامعية ب«جنوب الوادي»    اليوم طلاب الثانوية العامة 2024 يؤدون امتحاني الاقتصاد والإحصاء    تفاصيل اصابة 8 اشخاص في حادث علي طريق بالدقهلية    ضبط الخادمة المتهمة بسرقة شقة الفنان تامر عبد المنعم فى الدقى    برلماني: مطالب الرئيس ال4 بمؤتمر غزة وضعت العالم أمام مسؤولياته    رمضان السيد: ناصر ماهر موهبة كان يستحق البقاء في الأهلي.. وتصريحات حسام حسن غير مناسبة    ميدو: على حسام حسن الابتعاد عن الأزمات.. الجميع يساند المنتخب    حمو بيكا "غاوي محاضر" بالعجوزة.. اتهم مذيعا ومحاميا بسبه على الهواء    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل قصواء الخلالى: موقف الرئيس السيسي تاريخى    يوسف الحسيني: القاهرة تبذل جهودا متواصلة لوقف العدوان على غزة    مصدر فى بيراميدز يكشف حقيقة منع النادى من المشاركة فى البطولات القارية بسبب شكوى النجوم    63.9 مليار جنيه إجمالي قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة منتصف الأسبوع    بعد طرحها فى مصر، "فيتو" ترصد مواصفات سيارات ميتسوبيشى أوتلاندر سبورت (فيديو وصور)    جمعية رجال الأعمال: تغيير وزير الصناعة ليس من شأنه أن يغير الوضع نحو الأفضل في القطاع    أثناء اللهو والهروب من الحر.. مصرع شخص غرقًا بمياه النيل في المنيا    «القاهرة الإخبارية»: السلطات السعودية تقر خططا ومسارات لإنجاح تفويج الحجاج    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    وزير الخارجية الجزائري يبحث مع أردوغان تطورات الأوضاع الفلسطينية    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. استشهاد شابين فلسطينيين برصاص الاحتلال فى الضفة الغربية.. البيت الأبيض: علمنا برد حماس لمصر وقطر على مقترح وقف إطلاق النار.. وإدانة نجل بايدن بتهم تتعلق بحيازة أسلحة    بيولى يرفض عرضا من نوتينجهام فورست وينتظر المزيد من الدورى الإنجليزى    اليوم.. «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية بلة المستجدة ببني مزار    لجنة الفتوى بالأزهر ترد على عريس كفر صقر: «عندنا 100 مليون مصري معمولهم سحر» (فيديو)    «اتحاد الكرة» يؤكد انفراد «المصري اليوم»: محمد صلاح رفض نزول مصطفى فتحي    الأعلى للإعلام يكشف تفاصيل حجب جميع المنصات العاملة بدون ترخيص خلال 3 أشهر    فضل صيام يوم عرفة 2024.. وأبرز الأدعية المأثورة    علي جمعة يوضح أعمال الحج: يوم التروية الثامن من ذي الحجة    شيخ الأزهر لطلاب غزة: علّمتم العالم الصمود والمثابرة    مصدر حكومي: حلف اليمين الدستورية للحكومة الجديدة مقرر له بعد العودة من إجازة عيد الأضحى المبارك    يوافق أول أيام عيد الأضحى.. ما حكم صيام اليوم العاشر من ذي الحجة؟    نقابة الصيادلة: الدواء المصري هو الأرخص على مستوى العالم.. لازم نخلص من عقدة الخواجة    وكيل «صحة الشرقية» يناقش خطة اعتماد مستشفى الصدر ضمن التأمين الصحي الشامل    لطلاب الثانوية العامة.. أكلات تحتوي على الأوميجا 3 وتساعد على التركيز    بدائل الثانوية العامة.. شروط الالتحاق بمدرسة الضبعة النووية بعد الإعدادية (رابط مباشر للتقديم)    قافلة مجمع البحوث الإسلامية بكفر الشيخ لتصحيح المفاهيم الخاطئة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الواقعية التعبيرية في شعر كريم عبد الله
نشر في شموس يوم 17 - 06 - 2016

إنّ وطأة الأحداث و ما تمرّ به شعوب الأرض عموما و العربية و الاسلامية خصوصا ، لا يترك مجالا للكتابة الرومانسية و الذاتية ، بل يدفع و بشكل واع و غيرواع نحو تصوير المأساة و ندب الواقع المرّ لهذا العالم الأعمى . و بخلاف الواقعية القديمة التي ازدهرت في القرن التاسع عشر المعتمدة على محاكاة الطبيعة و التصوير المطابق للخارج ، فإنّ تناول الواقع و المأساة الخارجية في الكتابات المعاصرة إنّما يعتمد التصوير التعبيري و طرح الموضوعات بصبغة ذاتية و داخلية (1) ، وهذا جمع فذّ و متقدّم بين الواقعية بتناول الخارج و الموضوعي و التعبيرية بطرح الموضوعي بصيغ و اشكال داخلية و ذاتية . و من هنا صح أن نسمّي الكتابة الجديدة التي تتناول الواقع بأنها واقعية جديدة لإختلافها تقنيا عن الواقعية القديمة و صحّ أيضا أن نصفها بالواقعية التعبيرية لهذا المزج بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي .
لقد أشرنا في مناسبات كثير و في مواضع عدّة من كتابنا ( التعبير الأدبي )(2) أنّ الكتابة ذات الملامح الإنتمائية و المرتبطة بالواقع و الخارج تمثل شكلا من أشكال الأدب الرسالي . و أنّ هذه النصوص الرسالية و بمحافظتها على المستوى الفني العالي الذي وصلته الكتابة المعاصرة و ما صاحبها من تغيّر في الوعي تجاه اللغة عموما و الكتابة خصوصا و الأدب بشكل أخصّ ، تحقّق أدبا رفيعا عذبا يضرب بعيدا في جهات عدّة أهمها تجاوز اخفاقات الحداثة و عزلة الأدب عن الناس ، بالأقتراب منهم و الكتابة بلغة قريبة بعيدة عن التحليق و التحصينات الرمزية العالية ، و من جهة أخرى أنّها تقدّم أدبا عذبا مبهرا و بنكهة عالمية يمثّل المرحلة و يواكب عصر العوالمة و تداخل الثقافات و من جهة ثالثة مهمّة أنّها في الشعر خاصة تقدّم نموذجا عالميا لقصيدة النثر ، يعتمد النثروشعرية ( 3) و البناء الجمالي المتواصل بكتابة شعر سردي على شكل المقطوعة النثرية بعيدا عن التحسينات الشكلية المعتادة للشعر ، و إنّما الاعتماد الكلي على توهّج اللغة و عمق نفوذها و موسيقها الداخلية و عذوبتها الظاهرة .
كريم عبد الله ، الحائز على جائزة القصيدة الجديدة السنوية لعام 2016 (4) ، يكتب نصوصا تتسم بالرسالية و تحافظ على الفنيّة و الشروط المطلوبة لكتابة قصيدة النثر ، ببناء جملي متواصل و سردية تعبيرية (5) ظاهرة و نثروشعرية جليّة . فالهمّ الوطني و الانساني حاضر دوما في كتابات كريم عبد الله ، كما أنّ الهمّ الأدبي و الجمالي حاضر أيضا بكتابة النص المواكب للقصيدة العالمية المعاصرة ، و تحضر أيضا تلك العناصر المميزة للسرد التعبيري .
لقد تناولنا كثيرا من هذه المظاهر و المضامين الرسالية و الفنية و الجمالية في كتايات كريم عبد الله في كتابنا ( التعبير الأدبي ) و في غيره لأهمية هذا الشاعر ، هنا سنعمد الى بحث أسلوبي في تجلّ تلك المظاهر الواقعية التعبيرية في شعر كريم عبد الله ، و بالضبط نظام و حالة المزج بين ما هو واقعي و ما هو تعبيري في الوحدات الكلامية من النصوص ، و لقد بينا في مناسبة سابقة (6) أن الواقعية الجديدة في الشعر ، لها أشكال منها النص البسيط كما عند أنور غني و منها القصيدة السريالية كما عند فريد غانم و منها السرد التعبيري كما عند كريم عبد الله ، و أشرنا هناك أنّ الجامع لذلك هو اللغة المتموجة التي تتنقل بين التوصيلية و الرمزية و بين الواقعي و الخيالي .
و من المهمّ الأشارة هنا أنّ تلك التصنيفات و التسميات التي نعتمدها إنما هي وليدة الحاجة و الضرورة لأجل مواكبة النص المعاصر و القصيدة المعاصرة ، حيث أنّا في كتبتنا و بحثنا – و كما يعلم الكثيرون – نتجه من النص الى النظرية و ليس العكس كما يفعل البعض بالنزول من النظرية الى النص بأحكأم مسبقّة و ممارسة وصاية فنية و جمالية ، لأنّ وظيفة النقد و البحث الأدبي هي متابعة النص و ملاحقته و النظر اليه كظاهرة انسانية بتجرد و بحريّة من دون اسقاطات و لا تكلفات ، وهذا ما نسميه النقد الصادق الذي لا يرى في النص الا ما فيه و لا يحاول أبدا تطبيق نظرية جاهرة على النص كما في المدارس البنوية و ما بعدها من تفكيكية و أسلوبية و التي لا يمكنها الصمود أمام سعة تجربة و ثراء القصيدة المعاصرة ، بل لا بدّ من اعتماد نقد منفتح و حرّ و مرن و أمين و مؤمن بالنص ، يضعه في المقدمة ليس فقط باعتباره مادة بحث فقط بل باعتباره منجماً للعطاء و الاضافة مع اعتماد السهولة و الوضح في الافكار و التعابير . وهذا ما يمكن أن نصفه ( بمابعد الأسلوبية ) في النقد و البحث الأدبي .هنا سنتناول مقاطع من مجموعة قصائد للشاعر كريم عبد الله نشير فيها الى ملامح الواقعية التعبيرية ( الواقعية الجديدة ) في الشعر كنماذج أسلوبية و أشكال كتابية . و هذه القصائد كلّها منشورة في مجلة تجديد الأدبية المكرّسة بالكامل لقصيدة النثر السردية الأفقية ( 7) .
من الموضوعات الحاضرة في شعر كريم عبد و كنموذج للرسالية و التعبير الانتمائي هو الحزن و الأسى للخراب و آثار الحرب ، اذ لا تجد نصّا له الا و تجده معجونا بهذا الحزن .
في تعبيرية عالية لواقع مرّ و أعمى يحضر الظلام فيه و الأسى و يتخفّى خلف كلماته الفاعل المخرّب كحالة من المسكوت عنه و نظام من الغياب و الحضور للمعاني و الدلالات ، حيث يقول كريم عبد الله في قصيدة (خيانةٌ في تلافيفِ العقل )
(شمسٌ سوداء تتشمّسُ عليها خيانة أسئلةٍ مِنْ مقابرها الموغلةِ في أعماقِ الأنا . تتسلّلُ بلا صوتٍ بعنادٍ ترفضُ الظلامَ .../ دويٌّ يمعنُ حفراً في أخاديدِ تجاويفِ الروح يسرقُ الأمانَ لا يورّثُ إلاَ أرتالاً مِنَ المتاريس .../ كالشياطين تتراقصُ تُحكِمُ أقفالها على منافذِ رحلةٍ ملغومة تشدُّ إلى نفقٍ كابوسهُ طوييييييييييل ..)
انّها الشمس السوداء المظلمة ( نظام رمزي ) و أسئلة خائنة متجذرة في عمق الأنا ( نظام تعبيري) في نظام مجازي رمزي ، تتسلل بلا صوت عناد يرفض الظلام ، انه الخواء و وجه الخراب ( نظام توصيلي ) ، في ( نظام سردي ) . ثمّ ترجع اللوحة بصورة أخرى ( فيسفسائية تعبيرية ) (دويٌّ يمعنُ حفراً في أخاديدِ تجاويفِ الروح ) ( خيالية رمزية ) هنا مرآة و ترادف معنوي للجملة الأولى ( مقابر موغلة في عملق الأنا ) ، مما يحقق الفسيفسائية . ثم هو ( يسرقُ الأمانَ ) ( واقعية ) وهنا شرج للشمس السوداء وهو ايضا فسيفسائية تعبيرية فهو ( لا يورّثُ إلاَ أرتالاً مِنَ المتاريس ...) ( توصيلية و واقعية ) وهنا يحضر خيط الى المسكوت عنه من حيث الارتال و المتاريس وهي وطأة الحرب .
في ما قدّمناه من استقراء أسلوبي كشف عن انظمة معقدة تعبيرية ، تصف واقعا محزنا و آثارا مدمرة و ظلاما يتجذر في النفس ( الكلية ) ، بلغة متموجة تتراوح بين التوصيلية و الرمزية و بين الواقعي و الخيالي ، و بسرد تعبيري بقصد الايحاء و الرمز و ليس بقصد الحكاية و القص ، مع توظيف للفسيفسائية تجذيرا لرسالة النص و تمكينا للفكرة و مزيد بيان لوطأة و عمق المأساة ، فانّ من أهم دواعي الكتابة الفسيفسائية هو تجذير الرسالة و تعميقها في نفس القارئ .
و تحضر الواقعية التعبيرية بصور الحزن و الأسى و الخواء و الخراب في قصيدة (قيامةُ الأدغالِ المرتجفة )
( تفقّدَ أضلاعَ أيامهِ ../ كانَ ضلعٌ أعوج يتمطّى ../ تركَ القفص مهجوراً ../ بلا جدوى........... غاباته الغارقة بأسى الشفق ../ أمطرتْ بعشراتِ الحكايات ../ فشبَّ في النهاراتِ حريق ../ ............... / لكنَّ مساحات الندم ../ إفترشتْ لوعةَ القنوط ...المواعيدُ على غيمةِ الرحيل .../ التذاكر مسروقةٌ في كفِّ العطش .. حقولُ القمحِ فوقَ الصدرِ تحلمُ بنيّسان المناجلُ جرّحتْ أخاديدَ جوع الينابيع ... على هاويةِ الحزنِ الساكت ../ شربوا الملذّات بكأسِ التشفّي ... )
و هنا أيضا و بسرد تعبيري و نثروشعرية ظاهرة و لغة متموجة تتنقل بين الواقعي و الخيالي و التوصيلي و الرمزي ، يوثق لنا كريم عبد الله الواقع المر و الخارج الموضوعي السقيم ، فالقاموس اللفظي لهذا االمقطع – وحده فقط – ينقل القارئ الى الحقول المعنوية المرتبطة بالخواء و الخراب و الحزن و الأسى ، و لقد بينا في مناسبة سابقة ( 7) أنّ القاموس النصي يمكن أن يوظف كمعادل تعبيري (9) دون الحاجة الى التراكيب الجملية المعنوية ، بمعنى عدم انحصار التعبير بالجمل المفيدة بل ان مزاج النص و فضاؤه العالم و العالم الذي سيعيش فيه القارئ يعتمد كثيرا على قاموس الألفاظ التي يختارها المؤلف ، و أنّ من خلال العلاقة بين القاموس النصي و معاني الجمل و رسالة النص يمكن استخراج عدد من اشكال الانظمة التعبيرية المركبة و المعقد و التي تؤثر في وعي القارئ وهذا ما سنتناوله في مقالات قادمة ان شاء الله .
و أيضا من الأساليب التي يجيدها كريم عبد الله و التي هي من علامات الكتابات الواقعية هو توظيف المفردة اليومية و الحياتية حتى انه احيانا يستعمل المفردات العامة كما هو معروف لمتابعيه ، و كثيرا ما يستعمل أكثر المفردات حياتية و يومية و التي تخرج عن الشعر الرمانسي بالمرة يطعم بها الانظمة الرمزية . في قصيدة (منشارٌ على قارعةِ الحكاية )
نجد العنوان منشار وهو خارج نظام القصيدة الرمانسية و الكتابات الانتقائية ، وهو مختار بشكل متعمد كما يختار غيره من المفردات اللاشعرية في الشعر ، وهذا يذكرنا بحركة ( الشعر ضد الشعر ) بأن يكتب الشعر بمفردات غير شعرية هي في منتهى البساطة و اليومية و الحياتية او التقريرية فنجد القصيدة التقريرية او الاخبارية او اليومية و كل هذا هو من الواقعية الجديدة ان صيغت بشكل جيد و وظفت برمزية و ايحائية تكسبها التوهج و الابهار .
في هذه القصيدة (منشارٌ على قارعةِ الحكاية ) يقول كريم عبد الله
(الحظوظُ شعثاء تحرّكُ شطوط الألم تنقلُ هوادجَ حزنِ الأرض ، خَبَرتْ حنكةَ منشارٍ حاذقٍ يدمنُ لعبةَ إقتناص المغانمِ الوفيرة مبتسماً يمارسُ طقوسَ المكائدِ الساخنةِ ، طوّفتْ في درابينهم الهاربة ، تسارقُ بيقينِ قطّاعِ الرقاب ، يتغلغلُ القحطُ في حكاياتِ أولادِ الدموعِ الرخيصة مذ كان الغراب يتوضأُ بالخطيئةِ هيّجَ إستعراض الجيوشِ الهائجةِ خيولَ الغزوات ، تستحلبُ الضواري تقاويماً تستدرجُ الآلامَ في مزادٍ مجانيٍّ مرضعتهُ رثّةُ الضرعِ تروفُ وقتاً شحيح الألفةِ يتقافزُ على خارطةِ الزمنِ العجول ينزُّ مِنْ طيّاتهِ نحسٌ يذرقُ مبتهجاً في ماسورةِ الحلمِ يحلمُ أنْ يكونَ متأنقاً مرفوعَ الرمح تعلوهُ فضيحةُ الدسائسِ خيانةٌ مسعورةٌ تحشرجُ في أحاديث ملساءَ كجلدِ افعى تدفنُ بيوضها في صحراء تافهة تشتاقُ كثبانها نزعةَ توترٍ تعتصرُ نشوةً عجفاءَ بواعثها مركونة الى أجلٍ أعمى تسبحُ فيهِ رائحةُ القلق الخشن متخبطاً باللامبالاةِ تفخخه الاعلانات تحدُّ كتلٌ إسمنتية صماءَ . )
في هذا المقطع العالية النثروشعرية و بناء جملي متوصل ، يحقق النص شكلا جديدا من التموج اللغوي ، ليس من حيث التراكيب المعنوية بل من حيث المفردات فالنص يتنقل بين مستويات من الانشاء للمفردات فمن كلمة عالية الشاعرية الى كلمة يومية و بسيطة جدا وهكذا . فوسط الكلمات المنتقاة و العالية الشعرية نجد كلمات ( منشار ، درابين ، الاعلانات ، اسمنتية) .
و هنا تحضر ايضا الواقعية التعبير بما تقدم من مفردات يومية و بحضور الحزن و الأسى و الخراب و الخواء ، ساء على مستوى قاموس المفردات ام على التراكيب المعنوية و الافادات . فمفردات ((الحظوظُ شعثاء ، شطوط الألم ، هوادجَ حزنِ الأرض ، منشارٍ حاذقٍ ، المكائدِ الساخنةِ ، ، درابينهم الهاربة ، تسارقُ بيقينِ ، قطّاعِ الرقاب ، يتغلغلُ القحطُ ، يتوضأُ بالخطيئةِ ، تستحلبُ الضواري ، تستدرجُ الآلامَ ، مرضعتهُ رثّةُ الضرعِ ، وقتاً شحيح الألفةِ ، الزمنِ العجول ، نحسٌ ، فضيحةُ الدسائسِ ، خيانةٌ مسعورةٌ ، تحشرجُ ، أحاديث ملساءَ ، كجلدِ افعى ، صحراء تافهة ، نشوةً عجفاءَ ، أجلٍ أعمى ، القلق الخشن ، متخبطاً باللامبالاةِ ، تفخخه الاعلانات )
انّ كريم عبد الله هنا كشف عن قدرة تعبيرية مهولة ، حيث انه لم يترك اية امكانية للغة الا و وظفها لأجل بيان رسالته ، فالالفاظ مختارة بشكل يمكن من القول ان الشاعر كان يعيش اللحظة الشعرية الغارقة التي تفيض بالتعابير ، فما من مفردة الا وهي معبأة بالألم و معبرة عن الخواء و العمى باكبر قدر من طاقاتها بحيث انه لا يمكن أداء تلك المعاني بغير تلك الالفاظ . كما انّه قدّم هنا مقطوعة تعبيرية لم تدع شيئا ذكرته الى و وجهته توجيها ذاتيها و تطرفت في وصفه و بالغت في نعته و حاله وهذه من معالم التعبيرية الحقّة ، و لو أنّا اردنا تقديم نموذج للتعبيرية في الشعر فانّ هذا سيكون أحدها ليس على مستوى الشعر العربي بل العالمي أيضا .
كما أنّ هنا أساوبا آخر استخدمه المؤلف وهو تعدد الاصوات . حيث نجد تعدد الرؤى واضحا ، و لكريم عبد الله قصائد بوليفونية متعدد الاصوات كثيرة ( 10) . و نجد الرؤى و الاصوات المتعددة المحققة للبوليفونية
الصوت الاول : الحظوظ الشعثاء : ( ((الحظوظُ شعثاء تحرّكُ شطوط الألم تنقلُ هوادجَ حزنِ الأرض ، ) فالتحريك و النقل افعال فاعلة تعبر عن تبئر خارجي و محايد للمؤلف و يتجلى صوت الفاعل .
الصوت الثاني : المنشار : ( خَبَرتْ حنكةَ منشارٍ حاذقٍ يدمنُ لعبةَ إقتناص المغانمِ الوفيرة مبتسماً يمارسُ طقوسَ المكائدِ الساخنةِ ،) فحاذق و مقتنص للمغانم و مبتسم كلها تعبر عن جهة و رؤية الفاعل و الشخصية النصية و ليس المؤلف بالطبع .
الصوت الثالث : النحس : ( ينزُّ مِنْ طيّاتهِ نحسٌ يذرقُ مبتهجاً في ماسورةِ الحلمِ يحلمُ أنْ يكونَ متأنقاً مرفوعَ الرمح تعلوهُ فضيحةُ الدسائسِ ) فالنحس يذرق مبتهجا و يحلم ان يكون متأقنا مرفوع الرمح ، وهذه كلها من بؤرة الشخص الثالث الذي لا يتدخل و يحايد بينما عبارة ( تعلوه فضيحة الدسائس ) هي من انطباع و رؤية المؤلف . و هكذا في باقي النص . و من الواضح أن البوليفونية و تعدد الاصوات و الذي هو من سمات الرواية اساسا ، غالبا ما يكن في الشعر ملتصقا بالرسالة و الانتماء و بيان الواقع و اداة تعبيرية للتعبير عن الخارج و الموضوعي و يختلف جدا عن التعبيري الغنائي و الرمانسي الغارق في الذاتية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.