جالَ في خاطري عدد من التساؤلات وأنا أسْتَمِعُ إلى إعادةً لخطابِ الرئيسِ الراحلِ محمد أنور السادات وهو يُعْلِنُ للشعبَ المصري انتصار مصر والعرب في حرب أكتوبر المجيدة على العدو المتغطرس إسرائيل، وَوَصْفِهِ لتخطي مرارة الهزيمة وآلامها إلى حلاوة النصر. وسأطلعكم على بعضها "كيف استطاع الجيش المصري عبور خط بارليف الحصين بدون قنبلة ذرية؟.. كيف تحملت القيادة وبصبرٍ شديدٍ تَعَطُّش الشعب المصري لِكَسْرِ وَقْف إطلاق النيران؟.. كيف خطَّطَ الجيشُ لتوقيت بِدْء حرب الكرامة؟، عِلْمًا بأن الخسارةَ كانت ستعني ضياعًا لأجيال قادمة. وبقراءة أوراق التاريخ وُجِدَ أن الجيش المصري من أقدم جيوش العالم، فهو جيش نظامي بما تعنيه، كما أنه يُطَبِّقُ نظامًا ديمقراطيًا على المستويات كافة أثناء صُنْعَ القرارِ. وبالعودة بالزمن إلى شهر مايو من عام 1969 صدرت تعليمات إلى اللواء أركان حرب سعد زغلول عبدالكريم قائد الفرقة 19 بإتمام الاستعداد للعبور قبل نهاية أكتوبر من عام 1969 ويكون العبور بأسلوب التفجير بالمدفعية أو الصواريخ، إلا أنه وأثناء شرح الخُطَّة وَجَدَ اعتراضًا من أحدِ قادةِ التشكيلات وهو الضابط باقي زكي يوسف، الذي اقترح فكرة تحطيم الساتر الترابي بالمياه، وبالطبع تغير مَجْرَى الاجتماع من القائد الكبير الذي يشْرَحُ خُطَّةَ العبورِ ودَوْر كل قائدِ مجموعةٍ فيها إلى الاستماع والمناقشة من الضابط الأصغر في الرتبة، وذلك لأنه يملك حلًا لِمَا هو مُخَطَّطٌ له. وَدَعَنَا نُحلِّلُ هنا نتائج هذا الاجتماع… فخلال 12 ساعة وصلت الفكرة إلى قائد الجيش الذي وافق عليها، وطلب كتابة تقرير مُفَصَّل بطريقةِ التنفيذِ، وبعْد يومين وصلت الفكرة إلى رئيس الجمهورية الذي صدَّق عليها بالموافقة وتعديل الخُطَّة. هذا هو "التفكير خارج الصندوق"، أو بمعنى أكثر دقة إن "المشورة تصْنَعُ الرؤية الثاقبة للأمور". ولم تتوقف القصة على فكرة من ضابط مهندس "عبقري" إلى قائده، بل إن تجربة تحطيم الساتر الترابي تم تنفيذها 200 مرة على أنواع مختلفة من التربة، وكان توفيق الله – سبحانه وتعالى – للمجتهد؛ لأنه كلما كان الساتر أعلى كلما سهَّل فتح ممر به باستخدام الماء. عبقرية القائد بدأت بالرئيس جمال عبدالناصر الذي احتضن الفكرة، وكان من المرونة الاستماع للرأي والرأي الآخر، واستمرت هذه العبقرية إلى الرئيس محمد أنور السادات الذي أصَرَّ على دقة التدريب وعدم التَعَجُّل وتنفيذ خُطَّة الخداع الاستراتيجي التي أبهرت العالم أجمع. ومن الطريف أن آخر تجربة تمت في جزيرة البلاح في يناير من عام 1972 أي في القناة وأمام العدو الذي لم يستوعب ما يجري من تدريبات. عزيزي القارئ إنَّ وَصْفَ عبقريةَ القائد امتد أيضًا إلى كيفية إعداد العُدَّة للمعركة على المستويات كافة، وتَحَمُّل الضغط النفسي، وتحويل الطاقة السلبية إلى "فعَّالة" قادرة على العبور. الحمد لله.. أثبتت مصر أنها قادرة بقيادتها وشعبها وجيشها على عبور أي مانع، ودعوني أقول: "لولا الهزيمة لما تفجَّرت طاقات وَهِمَمِ الشعب المصري بهذه العبقرية. أ.د أسامة إمام رئيس قسم نظم المعلومات بكلية الحاسبات جامعة حلوان