لن تستطيع الذاكرة المصرية .. أن تنسى أو تتناسى تجربة محمد على باشا حاكم مصر المستنير ( الذى لا يعرف القراءة ولا الكتابه ) فى إدارة البلاد ، وطموح هذا الرجل الذى أراد لمصر أن تكون دولة عُظمى لا تقل عن كبريات الدول الأوروبيه ، وكيف أرسى هذا المستنير مبادئ التخطيط والإداره .. ومفاهيم التنمية والتمدين فى رؤية مستقبلية لبناء الوطن بسواعد أبنائه وهو ليس مصرياً !! ، لن يستطيع التاريخ أن ينسى أو يتناسى .. كيف جمع هذا الحاكم المالك لقيم الوعىّ والإدراك .. بعض الصبية الواعدة من الحوارى ومن دور الأيتام ومن على شطآن التّرع فى ريف مصر .. وأرسلهم بعد أن تربّوا وتعلّموا إلى أوروبا لكى يستزيدوا ويتحلّوّا بخلائق وطبائع المُتحضرين ، لقد مرّت سنوات قليلة وأصبح معظم هؤلاء الصِبية قادة لإدارة مصرية متفوّقه كان من نتائجها .. هذا التنوير الذى حدث فى أوائل القرن العشرين .. عندما أشرقت على أيديهم شمس القومية المصرية بفضائل ابنائها فى كل المجالات ، لقد كان أحد هؤلاء الصبية الشيخ محمد عبده ، هذا الإمام العظيم الذى أصبح نموذجاً لرجل الدين العالِم والمُفكر والفيلسوف .. فقد امتلك الحِكمة فى إدارة الشرائع والعقيدة بثقة واقتدار .. يستأنس من روح الدين .. تديّناً يليق وكرامة الإنسان ، وتألّقت دراساته فى الفِكر التشريعى والسياسى والإجتماعى ، واعتنائه الحضارى بدور الأُسرة وتعليم المرأة ، وكذلك مناقشة مشاكلها فى مواجهة ظواهر الطلاق وتعدد الزوجات ، ثم هذا الدور التاريخى للإمام العظيم فى الإصلاح الدينى وتحرير العقل المصرى من قيود التبعيّة والتقليد الأعمى ، إلى جانب دوره الدائم والمُستنير نحو الإصلاح الأدبى واللُغوى وإحياء علوم وآداب التراث ، ولا ننسى له الدور الحضارى فى معالجة الآراء المتباينة بينه وبين جمال الدين الأفغانى وبشير رضا وسعد زغلول وعبد الله النديم .. وغيرهم ، وعندما استفتى الشيخ محمد عبده فى شأن الرسم والنحت والتصوير .. كتب فى مقال له نُشر فى مجلة المنار عن دور الصور والآثار فى جزيرة صقلية يقول فيه : ولهؤلاء القوم حِرص على حِفظ الصور المرسومه ، كما يوجد فى دور الآثار عند الأمم الكبرى مالا يوجد عند الأمم الصغرى .. هل تدرى لماذا ؟ إذا كنت تدرى السبب فى حفظ سلفك للشعر فى دواوين .. وما عاناه الأوائل فى جمعه وترتيبه .. أمكنك أن تعرف السبب فى محافظة القوم على هذه الرسوم والتماثيل ، فإنهما ضرب من الشعر الذى يُرى ولا يُسمع ، فحفظ هذه الفنون والآثار حفظ للعلم فى الحقيقة ، والشكر واجب لصاحب الإبداع فيها ) ، لقد أضاء هذا العالم الجليل بآرائه طرائق كثيرة لمنهج مُتّزن من التدين المُستنير .. الذى يتوافق مع رسالة الإنسان فى إعمار الدنيا ودعم القيم والمُثل العليا بين المسلمين وبين أنفسهم .. ثم بين المسلمين وبين غير المسلمين ، وكأنه يُذكّرنا بوصايا رسول الله عليه الصلاة والسلام للمسلمين .. والخاصة بأهل الكتاب .. والتى تُعتبر نموذجاً لخلائق الدين القويم . لقد كان الإمام مرجعاً لا ينْضب فى عطائه المُتألق فى الشئون العامة ، وكذلك الرُّشد الذى يلتمع فى معظم كتبه ومقالاته ودراساته حول العلوم السلوكيه ، فلقد أرسى قواعداً لقراءة الأنفس وتبيان فضائلها ونقائصها حين قال : ( الكبير .. يرى نفسه من موقعه أكبر .. فيتواضع ويرقّ ، أمّا الصغير .. فيرى نفسه من موقعه أصغر .. فيتعالى ويجترئ على الآخرين ) !! حقاً .. تلك الرؤية الثاقبة التى تُفصح عن حقائق من تتوارى حقيقتهم خلف مظاهر السّلطة والجاه والمال والملامح والأزياء ، فالكبير .. هو الواثق فى قدره وقيمته وعلمه ، ودائماً يتواضع ويرقّ .. أما الصغير .. فهو الضعيف الذى يعلم حقيقة قدره وقيمته .. فيلجأ للإختباء بصفاته .. بالتعالى واجترائه على الآخرين ، ( وبالطبع لا علاقة للأعمار بهذا القياس ) . لكم عانينا وما زلنا نُعانى من هؤلاء الصِّغار .. الذين تبوّأوا مناصب فى إدارة حياتنا .. فى فترات غاب فيها الوعىّ ، أفسدوا فيها .. بقيمتهم الضعيفه أيامنا وغالباً وهم لا يعلمون وللأسف لا يزالون . المصدر : جريدة نهضة مصر .