، فمعناه أني فهمت كل شيء .. معناه أيضا .. أنّي كبُرتُ بما يكفي لأُدركَ بأن قليلاً من الإنكسار مفيدٌ للقلب ! ولا يُخْجلني أبدًا أن أعترف .. بأني أقطع صَلاتي أحياناً لأرهف السّمع لخطوات أبي وهو يتنقّل في شوارع الجنة ، باحثا عن بيتٍ يليق بأمي حين تلحق بهِ هناكَ ! أمي التي تسألني منذ أن رحل أبي : - هل يوجد في الجنة تنّور يدويّ ، فأبوكِ لا يستطعمُ خبز الأفران الحديثة ؟ ... أمي التي كانت تمشي حافية في أحلامها حتى لا تزعج نوم أبي .. وتجمع دوائر الحبّ من عينيْه قبل أن يستيقظ من النوم ثم تصنع منها مربىً تدهن بها قطع الخبز التي كنّا نتناولها في وجبة الإفطار ! أمي ... هي الوحيدة التي كانت تستطيع أن تدخل إلى "الأبد " دون أن يراها أحد ثمّ تعود منه محمّلة بسلال من الضوء ، نتحلّقُ حولَها .. نسألها عن شكل الأبدِ ؟؟ فتضحكُ مِلءَ أمومتها وهي تغزل لنا أقمصة من الضوء للسنواتِ القادمة. أمي أطفأت كل الأضواء حين مات أبي .. ولملمتْ " رائحته" من أرجاء البيت ثم وضعتها في إطار ذهبي وعلقتهُ في غرفتها. أمي لم تعرف أبدًا .. أن أبي اعترف لي - وهو بكامل قواه العقلية- بأنه أحبّني أكثر من كل إخوتي وبأن قسوته علي لم تكن إلاّ دوراً ثانويّا في مسرحية من تأليفه وإخراجهِ .. أمّي لا تستطيع أن تتصور بأنْ يكون أبي " غَيْرَ عادلٍ" ولوْ في لحظة حبّ !!! ... أبي ذلك الرجل الحكيم ، كان يعرف الكثير من الأمور .. كان يعرف مثلاً بأنّ الكراسي الفاخرة تُصنع من الأشجار الآيلة للسقوط . وأن أسماء بعض الاوطان مزورة كقناني السّكر الذائب التي يبيعها جارنا على أنها عسل . أبي كان يعرف أيضاً بأنه سيرحل قبل أن يسقط التاريخ من عينيه وكان يصلّي ويشكر الله كثيرا على تلك النعمة. .. الآن وقد مضى ستّ سنوات على رحيل أبي .. وبلغتُ أنا من العمر "زمنًا داعِشًيّا " أقول له : هنيئا لكَ موتكَ يا أبي ! ياسمينة حسيبي ( إلى أبي)