مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    بعد قفزة مفاجئة.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالصاغة    «نتنياهو» يمضي وحده| واشنطن تنأى بنفسها.. وبايدن يحجب القنابل الأمريكية عن إسرائيل    الاحتلال يواصل إغلاق معبري رفح وكرم أبو سالم (فيديو)    من أجل بطاقة السوبر.. ماذا يحتاج برشلونة لضمان وصافة الدوري الإسباني؟    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    أحمد سليمان يكشف عن مفاجأة الزمالك أمام نهضة بركان    هل يشارك لاعب الزمالك في نهائي الكونفدرالية بعد وفاة والده؟    شبانة يهاجم اتحاد الكرة: «بيستغفلنا وعايز يدي الدوري ل بيراميدز»    36 ثانية مُرعبة على الطريق".. ضبط ميكانيكي يستعرض بدراجة نارية بدون إطار أمامي بالدقهلية-(فيديو)    «مش هيقدر يعمل أكتر من كدة».. كيف علّقت إلهام شاهين على اعتزال عادل إمام ؟    يوسف زيدان يفجر مفاجأة بشأن "تكوين": هناك خلافات بين الأعضاء    لطيفة تهنئ عادل إمام بعيد ميلاده: بحبك ل آخر يوم في حياتي    فاروق جعفر: واثق في قدرة لاعبي الزمالك على التتويج بالكونفدرالية.. والمباراة لن تكون سهلة    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    يوسف زيدان يهاجم داعية يروج لزواج القاصرات باسم الدين: «عايزنها ظلمة»    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    مدارس النصيرات بغزة في مرمى نيران الاحتلال ووقوع شهداء    فصائل عراقية تعلن استهدف موقع إسرائيلي حيوي في إيلات بواسطة الطيران المسير    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    محافظ جنوب سيناء ووزيرة البيئة يوقعان بروتوكول أعمال تطوير مدخل منطقة أبو جالوم بنويبع    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    حالة الطقس اليوم على القاهرة والمحافظات    ماذا قالت نهاد أبو القمصان عن واقعة فتاة التجمع وسائق أوبر ؟    قوات الإنقاذ تنتشل جثة مواطن سقط في مياه البحر بالإسكندرية    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    بعد الانخفاض الأخير لسعر كيلو اللحمة البلدي.. أسعار اللحوم اليوم الجمعة 17-5-2024 في الأسواق    ورشة عمل إقليمية تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي مدخلاً لإعادة هندسة منظومة التعليم»    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 17 مايو 2024    كمال الدين رضا يكتب: الكشرى والبط    اسكواش - خماسي مصري في نصف نهائي بطولة العالم    بعد عرضه في «كان» السينمائي.. ردود فعل متباينة لفيلم «Megalopolis»    كاميرا ممتازة وتصميم جذاب.. Oppo Find X7 Ultra    بنده السعودية.. أحدث عروض الهواتف المحمولة حتى 21 مايو 2024    الأمير تركي بن طلال يرعى حفل تخريج 11 ألف طالب وطالبة من جامعة الملك خالد    تعرف على.. آخر تطورات الهدنة بين إسرائيل وحماس    ميلاد الزعيم.. سعيد صالح وعادل إمام ثنائي فني بدأ من المدرسة السعيدية    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    لا عملتها ولا بحبها ولن نقترب من الفكر الديني.. يوسف زيدان يكشف سر رفضه «مناظرة بحيري ورشدي»    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة نقدية لقصص (عزَّاف النار) صدرت للأديب المصري / العربي عبد الوهاب
نشر في شموس يوم 17 - 01 - 2015

عندما شرع الكاتب الروسي جو جول في قراءة إحدى قطع شرائحروايةٍ لم يكن قد استكملها بعد على زميله الشاعر الروسي الشهير بوشكين ؛ وفى إحدىمساحات الصراع النفسي الإنساني في الرواية أشار الثاني بيده إشارة الاكتفاءمقاطعاً بعذابٍ عظيم " يا إلهي .. كم هي معذبة روسيا هذه " .
وعلى الرغم من أن بوشكين كان يعلم ما قد وصل إليه المجتمع الروسي من ترديهالاجتماعي والسياسي والطبقي في عصرٍ أشبه ما يكون في تلك الحقبة بالمجتمعاتالشرقية التي كانت تعاني الأزمة بكل مناحيها الاقتصادية
والاجتماعية والنفسية ، إلا أنه قد أثير أمام قسوة تجسيد جو جول لهذا المجتمع الذيوضعه في إطارٍ دلالي ونفسي بعد أن عالجه بقوة الصدق في العرض وابتعد به عن مغالاةوجمود الواقع ذاته ؛ والذي لا يصلح بمفرده أن يكون فناً أو إبداعاً على الرغم منمادته التي تشكل المادة الخام لتجسيد هذا الشعور الذي وصل ب بوشكين لحد الشفقةعلى المجتمع الروسي .
إذن .. على الرغم من أن الحياة هي المحتوي القابل لاحتواء كافة الفنون فعليناأيضاً أن نعتبر بالمثل أن
الإبداع يمثل المحتوي الخاص والمعقد لاحتواء الحياة .. ولن يتأتى ذلك صراحةً إلابعد اختزان هذه الحياة وإعادة
وضع صيغا أخري لها تضمن ذلك القدر من التأثير ، وإثارة الوجدان وجعل هذه الحياة –العادية جداً – بكل تفصيلاتها تبدو كأنها غريبة أو جديدة يدركها الإنسان بطريقالإبداع كما لو كان يتعرف عليها لأول مرة " كما أثار جو جول في نفس زميلهبوشكين تماماً " الأمر هنا لا بد أن يكون أكثر دقة وتخصيصاً ، إذ ينبغي أننستثني ذلك النمط أو ما يسمي بالسائد العام والمعتاد في الحياة ، والوقوف على أدقالتفصيلات النفسية التي يعجز العاديون أمام تفسيرها ؛ وهو ما قد يظهر جلياً في الفن على إطلاق عموميتهوعلى فن القص بشكل أكثر دقةٍ وخصوصية وتعميقاً ؛ من خلال التعريج علي لحظة مسروقةبمهارة لا تخلو هذه اللحظة غير العادية من إدراك لغة توفيقية ملاءمة ، واصطيادموقف فذ إشارة بمراحل الوقع ثم الأثر الذي يخلفه ذلك الوقع في نفس المتلقي .
وعلينا في البداية والنهاية أن نصيب الهدف بأسرع ما يمكن وبأقل الوسائل وأوفرها ،إنها دربة وقوة ومعايشة أو
فلنقل صراحةً : إن فن القص هو فن إتقان الحياة ، إنه أشبه ما يكون بطلعة جويةسريعة وخاطفة يتحقق من خلالها ذلك الهدف المنشود .
ولقد أصاب ذلك الهدف كثيرون في أجيال مختلفة ومتلاحقة ممن فجروا من المشهد اليوميالعادي بأحداثه النمطية المعتادة ذلك الانحراف النفسي بحثاً عن موقع الإنسان فيهوسط جلبة التراكمات اللا حصر لها ووسط حلبة الصراع الذي لا ينتهي بدءً من الإنساننفسه كمحورٍ بين كائنات ورموز وأماكن وأزمنة ومعادلات ومعطيات ومروراً بالعلاقةبينه وبين الأشياء التي تبدو بسيطة ومعقدة في ذات الوقت وانتهاءً بأخذ موقفهالأحادي من العالم المحيط به .
هذه ليست مقدمة لاستشراف عالم قصصي جديد بقدر ما هي مدخل أمهد فيه عن موقع القصبين باقي فنون القول متخذاً من مجموعة (عزاف النار)(1) للكاتب : "العربي عبدالوهاب " تكأة أو تطبيقاً لعددٍ من التنظيرات التي فرضت نفسها في الآونةالأخيرة علي ذلك الفن الجميل . محاولاً بذلك الاقتراب من عالم القص عند"العربي" من خلال مجموعته الأولي التي صدرت عن الهيئة العامة لقصورالثقافة في عددها الخامس والسبعون . كما أصنع لنفسي متسعاً أكثر رحابة للتعريج علىسواحل القصة القصيرة بمفاهيم تتراوح بين الاختلاف والاتفاق مع السائد العام ؛ والذي يدور حول صفة النص القصصي وعناصرهالفنية القديمة والمستحدثة ، وقضايا التوليد والتأويل التي انتقلت من الشعر إليالقص مؤخراً ، وقد يكون اختيار مجموعة (عزاف النار) أمراً به الكثير من التعمدالذي لا يخلو أيضاً من الترصد لكاتب من جيل التسعينات تداركاً لئلاً يسقط هذاالجيل تباعاً في وادي النسيان مهملاً ، كما لا يفوتني أن أنوِّه بأن الدراسة سوفتتسع لتضم عدداً من كتاب القصة القصيرة المتميزون في هذا الجيل ممن لديهم قدرةاستجلاب بصيرة جديدة تطل من نوافذ بكر لاستكشاف ورصد كل ما هو جديد ومبتكر في فنالقص شكلاً ومضموناً .
تضم مجموعة (عزاف النار) ثلاثة تقسيمات يتفرع من كل قسم عدد من القصص ذات الحجمالقصير نسبياً في معظمها (الصحراء)(رائحة الأشياء)(عزاف النار) ، وربما كان لهذاالتقسيم مبرراً في نفس الكاتب تداركاً منه للفصل بين نصوص البدايات والوسط والنصوصالحديثة نوعاً وهذا أمر مشروع سيما في الإصدار الأول للكاتب والذي يخضع فيهالترتيب دائما لحاسة توفيقية توازن بين نمط ورؤية كل نص وبين الهدف أو المرمي أوالقصد أو الوقع أو الأثر الذي يحدثه تباعاً في نفس المتلقي وتلك دربة ومهارة أخرى.
إن الدخول لعالم قصصي جديد من شأنه أن يستجلب معه العديد من الاطروحات والأسئلةأهمها على الإطلاق " ما هو الهدف العام ؟ " أو بمعني آخر " ما هيشرعية وجود النص ؟ ، أو نستطيع الطرح على عمومية إطلاقه وبمنحي نفسي إكلينيكي بحت" ما هي القوي النفسية الدافعة للدخول في هذا الفضاء وبهذه الكيفية وهذاالنمط بالذات ؟ " لاشك أن المسألة تحتاج لبرهان مقنع من قبل الكاتب نفسه ، إذسرعان ما تتغير وتتبدل الاتجاهات ويرسو النص القصصي في النهاية على لاشيء أوتستقيم المعطيات لتؤكد المطلوب مبرهنة على دافع قوي كان وراء كتابة ذلك النصالقصصي الكائن .. " من نقطة ما على البر يبدأ الناس طريقهم إلي السفينةلتحملهم
فوق الأمواج .. إنها تعني بداية رحلة في المجهول رغم معرفة القصد الذي لا يصلونإليه أحياناً "(2) .. نعم
إنها رحلة في المجهول ، وربما كان ذلك بداية تنشئة إحساس عام فرض نفسه على بعدقراءة المجموعة عدة مرات ، واتخذت منها موقفاً نفسياً دعاني لاتخاذ قرار بضرورةالتعامل مع هذه النصوص من زاويتين هامتين .
الأولي : زاوية تيار الشعور (المنولوج) داخل معظم نصوص المجموعة .
والثانية : زاوية الرصد النفسي بين التأويل والتوليد لخلق رؤية موازية ليستبالضرورة أن تفضي إلي الرؤية التي عمد إليها الكاتب نفسها ، فهذا المنهج التحليليوالتأويلي " يلغي قصد المؤلف ؛ لا بهدف فصله عن نصه فقط دون بديل منتج بللمعاينة القصد الحقيقي الذي تبوح به النصوص الخاضعة لمؤثرات هائلة ليس قصد المؤلفإلا واحداً منها في حساب الفروض والاحتمالات "(3(.
هذا الطابع يبدو ظاهراً في أغلب قصص المجموعة فنجد قصة (آية الصحراء) تتجاوز حدوداللغة الهادئة والطيعة والقصيرة إلي فضاءات أكثر وطأة لدلالة الطبقية وما لها منسطوة على مقدرات ذلك الإنسان التائه في الشوارع وبين إشارات المرور والعرباتوالملامح المكتنزة والضاحكة والساخرة في ظل التجسيد القوي للمعتقد الطبقي الغالبفي مجتمع هو أشبه في رحابته بصحراء شاسعة وفي سلطويته بازدحام إشارات المرور التيتحول دون وصول أصحاب الأحلام البسيطة في المجتمع إلي مراميهم العادية التي قد تكونلحظة مسكونة بالتحقق في عين هذه الأخرى التي تتناهي وتتحلل ككل الأشياء الظاهرة لتختلففي عين ذلك الباحث عن نفسه والمترقب لحال جديد .. إنه البحث .. البحث حتى الهلاك .. الجنون .. صفعةالحبيبة .. خيانة الصديق ..
سماجة الشرطي .. العربات الفارهة .. الأعين الموحشة .. الألسنة الخارجة من الأفواه؛ حتى تسقط دمعة على الرمل ، وتكون الإجابة أضيق من سم خياط في يد عجوز خذلتهالعيون الحادة القادرة .. إن قصة (آية الصحراء) وقصة (عصفور) وقصة (الممر) و(اسمجديد للألم) (مخلوقات الطين ) و(صورة لا تشبه الأصل) تعد حالات قصصية أكثر منهاأبنية أو محتويات سردية بالمعني الوظيفي لعناصر القص ؛ من هنا كان التجاوب معاللحظة من منظور إنساني/أخلاقي ، أو اجتماعي /طبقي مؤشراً دالاً على طغيان تيارالشعور (المنولوج) النفسي والوجداني داخل النسق القصصي عند العربي عبد الوهاب ،وربما ساهم المنولوج بقدر وفير في تشاعر العبارة وقصرها وإغلاقها أحياناً ، وتشاحنالعناصر المتحركة داخل السياق القصصي دون ترتيبها وتنميقها لتعطي بعداً عفوياًللصدق في التجاوب مع عدة لحظات هاربة تكمن جميعها في الطرف الآخر وهي المرأةمتعددة السمات في كل قصة .
وهذه الصيرورة التي تحكم غالبية قصص المجموعة تدفعني نحو إعادة البحث عن الفكرةالأساسية لكل قصة ، ومدي تنوعها وليس مجرد استنتاج رؤى وتوليد دلالات وتأويل عوالممن الرتوش والإشارات فهذا من شأن القصيدة بالدرجة الأولي لا القصة ، "ففيالقصة مهم للغاية أن يكون لدينا شيء يقال ، شيء جديد ومختلف كزهرة تتفتح في الحال"(4( فنري قصة (عصفور) في التصنيف الأول يعرج الكاتب على الحالة القصصيةبلسان حال عصفور صغير لا يمل البحث عن قدرة لمواجهة ذلك الخطر الداهم والدائموالمتمثل في قوي الدمار والفناء التي تهدد أمن المخلوقات الضعيفة في المجتمع البسيط ؛ حيث لم يجدبداً من الفرار بعيداً عن الطلل البادي كأنه انتهاء حتمي له كما كان لأبيه من قبل ؛ وكذا أقرانه الموطوءينبالأقدام .. إن القصة تريد أن تضع لمسة إنسانية عميقة على فكرة الأمان في أحقية ذلك المخلوق الضعيف أن يحيا بلامصادرة .. بلا رصاص .. بلا رصد .. بلا رجال يقتلعون الأشجار لإقامة كورنيش دونأدني مراعاة لعشرات العشوش الآمنة .
إن هذه الحالة تؤكد مدي تعاظم هذا الشعور في نفس الكاتب إزاء المجتمع الأكثرعمومية بالنظر في عين العصفور الهارب إلي إرادة يتحقق عندها العدل والأمان فيالمجتمع الإنساني . " فالخيال عنصراً أساسياً في القصة ، إنك لا تري أحداثالقصة ، بل القصة تبتعث لك رؤيا بالأحداث .. .. في القصة إذن عالم يعيش فيه ناس لايوجدون في الواقع بوصفهم كائنات موضوعية عضوية ، فأنت لا تراها ، وتدور فيه أحداثلا تقع أمامك وصفها حركات خارجية مشتبكة بعالم الأشياء الفيزيقية العينية لكننا لانلقي لذلك بالاً ونستسلم في راحة لتلك التخييلات صدقاً من نوع آخر وواقعاً أكثرواقعية ، وأن فيها حقيقة أخرى ، تلك الأوهام ؛ أمسُّ بنا من أقنعة الحقيقة"(5) فلا ضير أن تنبعث الفكرة من تأمل الموجودات أياً ما كانت شريطة أن تتآلفعناصرها في وحدة واحدة تصيب هدفاً مروعاً ويسيطر على أحاسيس ومشاعر المتلقي في حينهويترك أثراً في نفسه باقياً ، ولقد طوفت قصة (روبابيكيا) – والتي أعتبرها علامةداخل المجموعة اتساقاً وتكاملاً – في فلك القصة القصيرة ذات البعد النفسيوالإنساني الخاص بدءً وانتهاءً بشخصية "عم محمد " الذي يجسد به الكاتبفلسفة الرحلة الإنسانية من القوة إلي الضعف ومن السيطرة على الأشياء إلي مجردالنظرة المهزومة لهذه الأشياء إنها نظرة جديدة ك(نظرة) طفلة يوسف إدريس للوراء ،تلك النظرة الهزيلة المغلوبة المشبعة بالرغبة المصطرعة مع الحياة ، وبعد أن كان عممحمد محط كل الأنظار يصبح هو نفسه نظرة مستسلمة لإرادة لا يملك دونها غير أن يصطنع ابتسامة مشفق عليها في مواجهة "أم عصمت" التي لم توقد ناراً منذ أمدبعيد .. ولم يدفع ولدها معونة الشتاء في تضافر ساخرٍ وتهكم بالغ الألم يكون البطل مطالباً بحتمية تحريك الزمن للوراءلتتحقق رغبة الزوجة والابن ، ولأن ذلك مستحيلاً لابد أن يروض الزمن القادم بأكذوبةالمواراة والهدهدة بأنه فعلاً لا يزال قادراً على البقاء كما كان في الماضي وأنه لم يتقادم مثل كوبري أبو الريش ، والأتوبيس القديم ،والبنطلون القصير والمقعد الذي غرق فيه والبلوفر المثقوب والابتسامة الباهتة ،وكوب الشاي الفارغ إلا من رشفتين ، وحاجيات البيت والتخاذل وأم عصمت .. [ فلتمشعلى مهلك .. لا .. يجب أن ترحل في ذاكرتك للوراء ، لا تنفخ الهواء وتضيق صدرك هكذا] .. وفي لحظة الصمت هذه تنعدم القدرة على المواصلة وسد الاحتياجات في هذه السن ..تحمل الزوجة وابور الطهي لتقايض بائع الأشياء القديمة..
وكأن الكاتب الذي حرك هذه الشخوص ببراعة وإحكام يريد أن يصل بنا صراحة وعن عمد إليصوت المنادي البائع [ كل حاجة قديمة للبيع ] ليرتد صداها [ ديمة للبيع ] في دخيلةالقارئ نفسه : إنه لا يوجد من هو فوق سطوة الزمن ولا فرار من التقادم والانحناءمهما تعاظمت القوة وازدان العود تصالباً وخفة . فنري هنا كيف حققت القصة مبدأ(الوحدة) " وهو أساس جوهري من أسس بناء القصة القصيرة بناء فنياً ويشتمل وحدةالدافع ، وحدة الهدف ، وحدة الحدث ، ثم وحدة الانطباع ، وقد يصلح ذلك كقاعدة لايشذ عنها ، أن القصة القصيرة يجب أن تقوم على فكرة واحدة تعالج حتى نهايتهاالمنطقية بهدف واحد وطريقة واحدة حيث يجب أن تكون الفكرة الأساسية واضحة تماماً ،وينبغي أن تثير الاهتمام بمفردها دون النظر أو اعتبار لأي تعقيد آخر ، والفكرة هنالا تؤخذ في ذاتها على أنا منبع رئيسي للقصة القصيرة فإنها يجب أن تأتي من داخلالشخصية أو من صفاتها المميزة ، ويجب أن ترتفع مع الحادثة ، كما يجب أن تكتشف منالشعور الذي يود الكاتب أن يحمله لنا عن طريق القصة القصيرة "(6) .
فنجد في التصنيف الأول قصه (وهم الصحراء) تتواتر وسط طقس من الانفصال عن الذاتوالتداعي لحلقات إيهامية يداخلها تيار الوعي التي تتجسد في كادرات أو كولاجاتتقتحم ذاكرة البطل في لحظات حتمية ، ذلك المسافر ربما بلا هدف غير ما أعلنته القصةصراحةً وهي الرغبة في خلق طقس مهيب ؛ فيما هو بعيد عن أعين الناس وانفساح عالمأسطوري باستجداء ذلك العملاق ، وما تخلف عن النقاط الصغيرة من أناس غير عاديينوذلك من خلال الكتاب القديم الذي اصطحبه في رحتله غير الهادفة إلي الصحراء ،والواضح أن القصة لا تقف على مجرد التسليم بمحتواها الإيهامي وما ورد فيها من قويغير مألوفة وغير واقعية وإلا لتجاوزت خصائص التجاوب مع أحد أهم العناصر وهو عنصرالتجاوب الموضوعي مع الفكرة واستجلاء واقعها بصدق ، وهو ما يدعونا لتتبع بعضالدلالات الهامة للقصة والتي أري أنها تكمن في عنصري (الفعل) و (الحركة) وكلاهمابطلاً في القصة – إذا ما استبعدنا مؤقتاً تيار الشعور والتأويل – حيث يوازي الكاتببين عالمين مدهشين هما عالم الاستقراء الظاهري الواضح في تيار الوعي – سابق الذكر-0 وهنا يمكن أن تمثل كادراته قسطاً من الواقعية العادية بالإشارة إلي [ صورتهالمعلقة على الشباك] ، والتي تتبدد وراء دخان الجوزة ، وما إلي ذلك من تأكيد علىبيئة الحي الشعبي و [ بيوتاته ، وأمه التي نسي وداعها ، والعربة التي استقلها ،والسائق ، وشريط الموسيقي ، والجار الذي تفل ، والريح ، والرمل ، وأوتاد خيمتهالتي أوتدها في عراء الرمل .. إلخ ] ، أما العالم الآخر فهو العالم الاستنباطي(الميتافيزيقي) الكامن في الفناء الذهني للكاتب ، والإيغال فيما وراء الواقع منقوي عديدة تسيطر ، ولديها مقدرات خاصة بالإشارة إلي ذلك العملاق ، وتلك المخلوقاتالكثيرة التي أكد الكاتب جهامتها وامتناعها عن التجاوب مع هذا البطل خاصة بعد أناختفي الكتاب القديم؛ وهو القوة الوحيدة القادرة على السيطرة على هذه المخلوقات ..إن الكاتب قد حاول الاقتراب من منطقة الحدث بالفعل غير أنه فقد قدرته على التحكمفي طيات ما أراد أن يؤكده بالحركة ؛ فدعي للأشياء أن تتحرك من تلقائها ، وأن تتخلقفي تيارات غير مواتية ، وهنا يتولد نوع من التفاعل الحر فيما بين العالمين نستخلصمن هذا التفاعل : أن الإنسان من شأنه أن يصنع معطيات موته بيده عندما تضيع منهالقدرة على التحكم أو التجاوب مع عناصر الحياة ، وهذه القدرة أو هذا التجاوب يتمثلفي المنهج الكامن في طيات ذلك الكتاب القديم .
أما في قصة (اسم جديد للألم) فالأمر يختلف تماماً حيث يسيطر المنولوج النفسي علىهيكلية البناء القصصي فلا نجد قصة بالمعني السائد وإنما نتلكأ عبر مساحات قصصيةمفتوحة الطرفين يلعب فيها عنصر الرصد دوراً أساسياً بجانب التفعيل الجسدي أوإطلاقه إلي جانب تواتر الحواس نفسها فى محاولة تفسير هذه المدينة الخانقة التيجعلها الكاتب كظاهرة يجدر تفسير تدللها وعصيانها ، أو فلنقل إنها الحياة بشكل أعم.. فمن خلال أربعة إضاءات نفسية – كما راق للكاتب أن يعالجها – ؛ يتشظي الجسدوينتثر ، ثم يعود ليتوحد ويلتئم في مواجهة لحظة الاكتمال لهذه المدينة/الحبيبة/الحياة ؛ كمعادل لحقيقة وجوده واكتماله في لحظة اكتمالها وتحققها .. تلكالحاضرة علي البعد ولا تقترب ولا تختفي ، تلك الكائنة اللا وجود لها مطلقاً ،والتي تنتثر إزاءها مفردات جسده الذي يدب فيه الرغبة لاستعادة الحلم من خلالها .
إن الأمر هنا أشبه ما يكون بتأويل نص شعري من حيث الرؤية الضوئية وليس الشكلكمحتوي ، وفي مثل هذا النوع من القص يقوم المنولوج بخاصية التداعي والتوليد حيث لاوجود لأي فعل حركي درامي ؛ غير الصراع الذاتي المنبت من ذاتية الكاتب تجاه مرماهالأمثل أياً ما كان هذا المرمي أو الهدف ، الأمر لا يعنينا هنا وذلك بخلاف ماانبنت عليه قصة (روبابيكيا) مثلا فإننا نجد الحركة إلي جانب تيار الشعور يولداننوعاً من الصيرورة المكانية كثالوث البناء القصصي الذي يولد بالتفاعل بين العناصركلها ذلك الوقع أو الأثر الذي أكدنا عليه سابقاً ، " إن التحليل التأويلىيفترض أولاً أن ما في النص قد انفصل عن مؤلفه ، بمعني أن قصده أصبح بعيداً حينأنجز نصه وأطلقه حراً للقراءة ، وإذا كان ثمة قصد في عمليه التأليف فهو لا يكمن فينيات المؤلف : بل في تلك العلاقات المتشابكة بين ظاهر النص وباطنه ، بين الملفوظوالمكبوت ، المقول والمسكوت عنه "(7)
وفي قصة (مخلوقات الطين) فلا نزال بين السطور الأولي للقصة حتى نستشعر بالارتدادوالنكوص حيث التكوين الأول لعلاقة الطبيعة الثنائية بين آدم وحواء ، وبضمير الأنايستهل الكاتب قصته مؤكداً رغبته العارمة لأن يعيد تشكيل ملامح أنثاه منذ بدء الكونوكأنه يريد أن يرسم من خلال هذه الأنثى البدائية دليله نحو فك رموز تلك المرأةالقاهرة لقوته والمستلبة لكل مقدرات حياته ، إنه يرغب في تكوين جديد للعالم منخلالها ؛ هذا المفهوم الذي دعي الكاتب لتقسيم القصة إلي ثلاثةِ أجزاء مسبوقة بمدخلهو أشبه بالبرولوج المسرحي يصف فيه بلغة التداعي كيف يصل الإنسان لحد الفرقةوالدهشة والتوحد في ذاته إزاء وجود يستنفر وجوده فيصير شيئاً نكراً وتتوقف الأرضعن الدوران .
ثم يخوض في القطع الأول "صوت غناء يعيد" بنوعٍ من التناص للموروث الدينيليقارب بين تكوين المخلوقات
المحبة له وبين ما تخلف بداخله من توجس وخوف وحزن وفقد في صحراءه المديدة .. ربماتكون الرغبة في الحصول على مؤانسة الأخيار .. الوصول إلي يقظة الإدراك لكل بدايةتسير وفق منظومته الخاصة وتكويناته الصلصالية الجديدة التي يضمن ولائها في هيامه ونومه .
أما في القطع الثاني "ما قالته الأسلاف" فهو يمثل بانوراما سريعة وقصيرةللعبث الذي يعيشه الإنسان مما
يدفعه إلي السير نحو الهلاك لأنه لم يستمع إلي مكنوناته التي يظنها الكاتب لا تخطئبفطرتها والتي تعود لغة تيار
الشعور لتبرز حالة الوهن والضعف والانسياق التي تسيطر على الإنسان في شتى مقاصدهومراميه [ لم تكن ظامئاً للماء وشربت ، لم تكن بحاجة للوجد وعشقت حتى وصلت فتوصلتللنهايات .. الفناء من حولك ] ثم يعود الكاتب بضمير الأنا الفاعل متداركاً فشلخطاه ومحاولاته نحو الانتصار /العودة/التزاوج/التوحد مع قمر الزمان/المؤانسة ، تلكهي الحالة القصصية التي خلت من حبكة القص وعناصره وشابهت عالم القصيدة النثريةوأجوائها الأسطورية والرمزية والميتافيزيقية ، والنفسية ، وقد انتقلت عدوي تلكالحالة في عدد من الحالات القصصية (اسم جديد للألم) ( أحد ما )(الممر)(صورة لاتشبه الأصل)، ففي (الممر) يقف الكاتب في منطقة عدمية أو برزخية شديدة الظلمة ،تنعدم فيها مفردات ومعاني الحياة كالفرح والحزن ينشد فيها الخلاص من تلك الكتل اللحمية التي يزدحم بها ذلك الممر غير المحاط بإشارة أو علامة تدل عليهصراحة ؛
ربما أراد الكاتب مفهوماً جديداً للأزمة وهنا تسير المفاهيم وفق الحياة بمناحيها المتعددة ، أو أنهارتفع لشمولية المعني لما بعد الحياة فكان عبور الممر هو الوصول الحتمي للخلود [ أجساد تتلاصق .. مشكلة كتلةلحمية رهيبة لكائن هلامي تضربه سياط ملائكة غلاظ في يوم حشر ] ..
وقصة (صورة لاتشبه الأصل) تعرج على نفس نمطية افتقاد الحبيبة والدف بمعالجة تيار الشعور أوالمنولوج الداخلي حيث تتضح سلبيات عديدة أهمها عدم وجود حدث مؤثر وجديد إذا ماقورنت بقصة (روبابيكا) أو (العلب) أو (آية الصحراء) أو (عزاف النار) أو (العمامة)غير أن (صورة لا تشبه الأصل) تعد تجربة أكثر ذهنية فالكاتب يصنع خداعاً مزدوجاًبوهم الجلوس إلي حبيبته في الكازينو تلك الحبيبة التي تشبه المثل الذي يستكين فيذاكرة الكاتب ولكنه يأخذ تدريجياً في الاختلاف حين تعود الفتاة /الصورة إلي نقطةمتواضعة في محيط الكاتب بينما تظل الفتاة/الأصل/المثل باقٍ في مخيلته ودخيلته[سيدة بنات حواء] .
وكأن الكاتب صراحة يؤكد على أن ليس كل ما يسعي إليه الإنسان يدركه ، وتصبح الحقيقةوالواقع على غير شاكلة الحلم أو المثل ، وتنتهي القصة في النهاية على أن الصورةوالأصل معاً لا وجود لهما إلا في ذهن الكاتب الذي لا يزال فرداً يضع الطعام لنفسهويأكل بمفرده ." ويبدو أن الملمح الجوهري الذي لا تخطئه العين في هذهالعلاقات هو قيامها على أساس نوع من المفارقة التي تؤدي في لحظة معينة إلي حالة منالتألق المفاجئ لدي المتلقي ، يدرك عبرها بلون من الأسي الشفيف والدعابة اللطيفةمكمن الدلالة الفنية للقصة ، وربما يتم ذلك بتراكم صنوف عديدة من المفارقات التيتمضي في نفس الاتجاه "(8) ..(قول "وليام فان اكنور" : ننتظر منكاتب القصة أن يلم بحبكة وفن القصة كي يعيننا علي كشف ناحية من نواحي الحياةنجهلها من قبل أو على الأقل لا نعرفها بنفس الصورة التي يبرزها الكاتب . ، إن كلشخصية حية إنما تمثل مبدأ وقوة وحالة وروحاً ، فنجد شخصية اللاعب بالنار أو ..(عزاف النار) وهي قصة المجموعة ؛ نجدها تتميز بحضورها الدائم في المكان وطغيانهاعلى الحدث الواحد ، حيث تسير في إطار تكتيكي بين الواقعة والأثر ؛ ذلك الدرب الذيسارت عليه غالبية المجموعة إن جاز لي أن أستثني فقط قصتين (وهم الصحراء) فيالتصنيف الأول للمجموعة و (العمامة) في تذييل القائمة وهاتان القصتان سوف يتمإخضاعهما قدر الإمكان للتأويل – منهج هذه الدراسة - ، ولكني أري أنهما يبعدان عنطابع وصبغة المجموعة التي اعتمدت على التوليدية في معظمها أكثر من اللغة السرديةوالوصف السائد وجعل المكان نمطياً والاحتفاء بالعناصر الكلاسيكية للقصة من موضوعله بداية ووسط ونهاية وتشويق وخلافه .. أما في قصة (عزاف النار) فإن الكاتب ينتحيمنحي يشبه الانشطار الحدثي أو الحركي ، والإيهام بأن هناك عالم خاص يقارب الطقوسأو الشعائر من خلال الاستهلال الموحي باستدعاء رمز تراثي ديني وهو (يوسف الصديق)الذي راودته امرأة العزيز عن نفسه فيقول في الجملة الاستهلالية [ إذ يتفرد بغرفته.. تنفرد به ] رغم ما وضح بشكل قوي من شُقَّةٍ وتباعد عن هذا المفهوم أو ذلكالتناص حيث تجسدت أبعاد وعوالم شخصية ذلك العزاف مقرونة بالخداع الحركي – وهو جزءمن دلالة المعني – فنلاحظ دور التداعيات التي حركت الشخصية من ذاتيتها وأسرجوانيتها إلي آفاق أرحب بتعدد الأمكنة [بحر مويس ، كازينو النهر ، الشوارع علىامتدادها ، الأزقة ، الميادين] رغم أن ذلك التجوال البصري ليس إلا تجوالا ذهنياًإيهامياً ؛ وأن العزاف بطبيعة الحال لم يغادر غرفته جالساً وسط حلقة من الأصدقاءالوهميين ، ومن هنا كان لابد من تدارك أن النار التي يعزفها ذلك الرجل هي الحقيقةالوحيدة داخل هذه الحلقة أو الحضرة بالمفهوم (الزاري) وأن الحلم والوهم معاً ينتصبانفي كل شيء يقع تحت بصر هذا العازف أو فلنقل : العابث .. وشرط تحقق وجود الإنسانداخل هذه الحلقة – التي تنفرج وتنقبض وتزيد وتنقص – مرهون بالخطر والصعب والتضحيةأحياناً ..
إن أنسنة العلاقة بهذه الكيفية من شأنه أن يقترب بهذه الشخصية (الهاملتية) نوعاًإلي دائرة الصراع الجواني
بأبعاده النفسية الحادة وبعيداً عن الموقف الدراماتيكي والتشنجات تؤكد القصة أنالإنسان في كل نزعاته الإنسانية نحو الوصول إلي الانتماء ، الحب ، التواجد ، السيطرة ، التفوق ، التوافق النفسيوالحسي معاً ، لابد أن يكون عزافاً ماهراً للنار أولاً وقد لا يصل في النهاية ، إن فلسفة هذه القصة تشابهإرادة (شيخ) همنغواي أو إرادة
(سيزيف) في تكرار المحاولة وهما طابعا الحياة التي يعنيها مفهوم الإرادةوالاستمرار ودون الانجراف مع
عبارات القصة المدموجة الناقصة أحياناً بفعل نفسي سيطر على الكاتب ، ودون الانخداعالبصري بتعدد المكان أو الإيحاءات الحوارية ، وهو منحي أشبه ما يكون بأدب الصمتوالفراغ ..
" يقول بعض النقاد المحدثين إن نموذج القصة القصيرة الذي يمكن له أن ينطبقبشكل ما على جميع الحالات يتمثل في ثلاث نقاط : حالة توازن في العلاقات القائمةبين الأطراف لا يلبث أن يعتريها خلل ما يعصف بهذا التوازن ، ثم تأخذ الحياة دورتهاويعود توازن من نوع جديد مخالف لما كان عليه الأمر في الحالة الأولي "(9).
نجد هذه العلاقات كذلك في قصة (العلب) ولكننا نلحظ هنا أن الكاتب لم يصنع ذلكالتوازن الداعي لاستقامة الحياة ، وقد دعي لتيار الشعور واستسلم لبعض المشاهداتالتفصيلية لليوم الواحد في ظل الضيق والبيروقراطية والتلوث والقاذورات والازدحاموالخطر ، والضعف في مواجهة ذلك الخطر من خلال تلك الجولة التفصيلية المقرونةبالتبعة والمشبعة بشهوة الخلاص من تلك العلب لكنه بدلاً من أن يبشر بالإصلاح منخلال القصة نجده يستسلم لهذه السطوة من المشاهدات فيشعر بضيق العالم حواليه فيمقابل شسوع أحلامه وتعددية رغباته في حيزٍ أشبه بالعلب .
وكما يؤكد د. صلاح فضل أنه "من الصعب على المتلقي أن يستجلي هذا النموذج بيسرفي بعض الحالات لمرهقة الدقيقة نتيجة للحرية القصوي التي يتمتع بها المبدع فياختيار وسائل العرض وزوايا التصوير وضبط إيقاع الأحداث وتغطيته لمساحاتها الزمنية، لكن تظل أمامنا فرصة للكشف عن البنية القصصية عن طريق تحليل العلاقة بين مستويين، الأول مباشر : وهو طريقة تتابع القول القصصي في سطور مكتوبة أمامنا وتراوحه بينوصف المكان والشخصيات ، وسرد الحكايات والأحداث ، وإقامة الحوار التمثيلي بينالأطراف ، والمستوي الثاني غير مباشر : وهو العالم الذي تتصوره نتيجة لهذا القولوطريقة انتظامه في مراتب تتكيف طبقاً لعلاقته بالمستوي الأول وما يفضي به منبيانات جمالية وعناصر قيمية "(10( و قصة (درجات متعاقبة) من القصص ذات الطابعاللغوي /الحركي الهادئ ، فالعنوان يوحي بهذا الانتظام في العلاقات الداخلية للحدثالذي يتصاعد من خلال شخصيتي بائع الكتب ، والشاب الذي يشتري مكتبة من الكتبيمتلكها رجل آخر يسكن أحد الطوابق العالية ، فيتوسط بائع الكتب وتتم البيعة وتنتقلالمكتبة كلها عدا (رواية) اشترط البائع أن يحتفظ بها ، ومع انتقال الكتب من الطابقالعالي عبر هذه الدرجات المتعاقبة تتبدل الكتب النادرة الأصيلة إلي المجلاتوالإصدارات المبتذلة والكتب التجارية ، وكأن الكاتب يجسد التردي الذي يتعرض لهالكتاب كمعادل للعقل وما يحيط به من محاولات لتدميره وفناءه ، وفي قصة ( العمامة) بتقليدية السرد وعفوية المعالجة فإنها قد ارتكزت على المشهدالجنائزي عبر الطقس الريفي المعهود – والذي أجاده الكاتب لحد بعيد – فكانت الجنازة حارة جداً ؛ والميت هو الحلم، هو الأمل ، هو العزيمة، هو الغد .. أو لنقل هو (العمامة)/المعادل ، حيث يرويالكاتب بالشكل السردي الطبيعي كيف مات الحلم الذي يشبه ذلك الصبي الصغير الذي يلعبهو وأطفال القرية ثم تجذبهم حركة الجنازة وصوت الطبول نحو تتبع الحشد الذي تتقدمهالسيدة /الأم حاملة بين يديها الجثة/ العمامة /الحلم ، وتنعي ولدها في تردد أصواتالأخريات في الخلف [ ابكي عليه وعددي ، دا كان مقامي ومشهدي ] ، وبينما يتم الحفرلدفن الجثة يقفز الصبي والأولاد ويختطفون العمامة ويجرون بها بعيداً عبر حقولالبرسيم ، وفي هذه اللحظة بالذات تصمت الطبول الجنائزية ، وتكفكف الأم دمعها بكمجلبابها وهي تنظر الأولاد الفرحين بالعمامة .
ولاشك أن هذا الطابع يجعلنا نرتد لعالم القص عند يوسف إدريس ذلك العالم المشبعوالغني بالتقنيات الدلالية
والتأويلية والقيمية الرائعة والذي غاب في هذا الجيل لحساب تقنيات أخري تصاعدتبوازع التجديد وابتكار وسائل جديدة وتقنيات أخري للقص ، وربما أراد الكاتب في هذهالقصة وهي آخر قصة في مجموعته (عزاف النار) أن يجعلها المعادل الموضوعي المشتركالأوحد لكل مشاهداته القصصية السابقة ، على الرغم من التحفظ على تقليدية القص بهامما ينحيها في ركن خاص بعيداً عن منهجيتنا التي أشرت إليها سابقاً على أنها ستعنيبالمقام الأول على التوالد والتأويل وإنتاج الدلالات والرؤي القصصية الموازية منخلال خيط المنولوج الذي استساغه العربي عبد الوهاب فأبحر به داخل تيار شعوره فكانترؤاه القصصية رؤي عامة وشمولية تماماً كتفعيل النص الشعري باختلاف المعالجة ،ومحاولة أنسنة العلاقات مما استجلب معه ضرورة النظر إلي قصص المجموعة من منظار نفسي دقيق متغاضياً عن تطابق عناصر القصة الأساسية لهذهالنصوص باعتبارها تحمل هماً نفسياً وإنسانياً مشترك مما يمهد الدخول إلي المجموعةكسلسلة منفصلة متصلة لمشاهد عديدة تمر مسرعة صامتة على كادر يبرز - من خلالالتتابع النفسي للأحداث المتعاقبة - عدة حالات تسيطر على شخص واحد لكنها تحتفظلنفسها بالتجدد المستمر والقابلية للتأويل تاركة في نفس القارئ أثراً باقياً .
الهوامش:
(1) عزاف النار / قصص ، العربي عبد الوهاب .. الهيئة العامة لقصور الثقافة/إبداعات ، العدد 75 ، منتصف
ديسمبر 1998.
(2) البئر والعسل / كتابات معاصرة في نصوص تراثية ، حاتم الصكر /الهيئة العامةلقصور الثقافة ، كتابات نقدية (69( ص 163 .
(3) السابق .
(4) موت الأحلام في زهرة البستان / د. عبير سلامة ، مجلة القصة ، عدد 97 ، يوليه .أغسطس . سبتمبر 1999 .
(5) ما وراء الواقع / ادوار الخراط . هيئة قصور الثقافة، كتابات نقدية ، التخاييلفي فن القصة ص 65 .
(6) الحلقة المفقودة في القصة القصيرة / د. سيد حامد النساج ، الهيئة العامة لقصورالثقافة ، كتابات نقدية(1) ، ص 16 ، أغسطس 1990 .
(7) البئر والعسل / مرجع سابق ، ص 8 .
(8) إنتاج الدلالة الأدبية / قراءات في الشعر والقصة والمسرح / د. صلاح فضل ، هيئةقصور الثقافة ، كتابات
نقدية ص 142 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.