عيار 21 الآن بالمصنعية.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 31 مايو بالصاغة بعد الانخفاض    رئيس مجلس النواب الأمريكي يصف إدانة ترامب بأنها «يوم مخزٍ في تاريخ أمريكا»    الطيران الحربي الإسرائيلي يقصف محيط مسجد في مخيم البريج وسط قطاع غزة    انفجارات عنيفة تهز صنعاء والحديدة إثر غارات للتحالف الأمريكي البريطاني    بوليتيكو: بايدن وافق سراً على استخدام كييف للأسلحة الأمريكية    شولتس لا يتوقع صراعاً مع روسيا    عمر كمال: لست في خلاف مع حسام حسن.. وتحت أمر المنتخب    محامي الشحات: سنقوم بالاستئناف ضد الحكم الصادر.. ولم يتم التواصل معي بشأن الصلح    الداخلية تنفى زيادة رسوم استخراج رخصة القيادة    استعلم الآن برقم الجلوس.. نتيجة الشهادة الإعدادية محافظة القليوبية 2024 الترم الثاني    «الحرمان من الامتحان و7 سنين حبس».. وزير التعليم يحذر من الغش في الثانوية العامة    اتحاد الناشرين المصريين ينعي والدة وزيرة الثقافة    5 معلومات عن زوج الفنانة ياسمين رئيس    رسميا.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الجمعة 31 مايو بعد الانخفاض في البنوك    مستشار اتحاد الكرة: حسين الشحات من حقه الاستئناف خلال 10 أيام    شحاتة: هذا سر الغمزة أمام الأهلي.. وكنت أراسل عبد الله السعيد ولكنه لا يرد    أحمد حمدي يكشف سر احتفال دعم فلسطين في نهائي الكونفدرالية    بحضور وزير الرياضة وعلام، منتخب مصر يخوض ثاني تدريباته استعدادا لمواجهة بوركينا فاسو (صور)    شيكابالا: حمدي مولود في الزمالك.. ولابد من حل أزمة الشيبي والشحات بطريقة مُرضية    "قمة عربية وكأس مصر".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    ضبط مصنع أعلاف بدون ترخيص بمركز القنطرة غرب بالإسماعيلية    عاجل - قرارات جديدة بشأن حصة الفرد من الخبز المدعم    مصر في 24 ساعة| حقيقة رفع الدعم عن الوقود والكهرباء.. ورسائل عاجلة لطلبة الثانوية العامة    رفسة حصان تتسبب في كسر جمجمة طفل في الدقهلية    وزير التعليم يطمئن طلبة الثانوية العامة.. ويؤكد: الامتحانات من بنك الأسئلة والتصحيح مُحكم    ضبط عاطل استولى على 750 ألف جنيه من 4 أشخاص لتوظيفها في تجارة الأخشاب بسوهاج    صحة الدقهلية تحذر المواطنين من تناول "سمكة الأرنب" السامة    «مواصفات الامتحان».. تصريح مهم للتعليم بشأن امتحانات الثانوية العامة 2024 (فيديو)    «ناتو» يرحب بالشركات العميقة مع الدول في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ    البابا تواضروس الثاني يستقبل وفد رهباني روسي    كيف يمكن للكواكب أن تساعدك على اختيار المسار المهني المناسب لك؟    انطلاق مهرجان روتردام للسينما العربية بحضور بشرى وهشام ماجد وباسل الخطيب.. تكريم دريد لحام.. المهرجان يوجه التحية للقضية الفلسطينية.. وروش عبد الفتاح مدير المهرجان: نبنى جسرا بين السينما العربية وهولندا.. صور    عمر خيرت يهدي محبيه حفل موسيقي مجاني لمرور 40 عاماً على مسيرته    أحمد الجمال يكتب: دراما السفّاح    «الإفتاء» توضح فضائل الحج.. ثوابه كالجهاد في سبيل الله    د.حماد عبدالله يكتب: حينما نصف شخص بأنه "شيطان" !!    فردوس عبد الحميد : الفن ليس له علاقة بالإغراء أو الأعمال الشهوانية (فيديو)    بالصور.. إنهاء خصومة ثأرية بالمنيا بتقديم 2 مليون جنيه شرط جزائي    شاهندة عبدالرحيم تهنئ الإعلامية آية عبدالرحمن بحصولها على الماجستير في الإعلام التربوي    في اليوم العالمي للتدخين.. لماذا ينجذب الشباب لأجهزة التبغ المسخن؟    لمدة تتخطى العام ونصف.. طريقة حفظ الثوم في الفريزر والثلاجة    بعد رفع سعر رغيف الخبز المدعم .. أفضل طريقة لعمل العيش البلدي في المنزل    الصحة والحيوية.. فوائد تناول زيت الزيتون «على الريق»    أخبار × 24 ساعة.. وزير التعليم: تطوير مناهج الثانوية العامة خلال عامين    حدث بالفن| حفل زفاف ياسمين رئيس وفنانة تنتقد منى زكي وبكاء نجمة بسبب والدها    وزير المالية: 60% تراجعا بإيرادات قناة السويس.. وعلينا مسئولية أمام الله والمواطن    سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء في ختام الأسبوع الجمعة 31 مايو 2024    كيف يتصدى القانون لجرائم التنمر الجماعي؟    إبسويتش تاون يربط مدرب سام مرسى بعقد جديد لمدة 4 مواسم    بعد جدل سرقة سيف تمثاله.. كيف ألهمت تجربة سيمون زعماء التحرر من الاستعمار؟    التنظيم والإدارة: إتاحة الاستعلام عن موعد الامتحان الإلكتروني للمتقدمين ب3 مسابقات للتوظيف    مديرية العمل بالمنيا تناقش اشتراطات السلامة والصحة المهنية    علي جمعة يوضح أفضل الأعمال في شهر ذي الحجة    «الإفتاء» توضح شروط الأضحية في الحج بالتفاصيل    «بيت الزكاة والصدقات»: صرف 500 جنيه إضافية مع الإعانة الشهرية لمستحقي الدعم الشهري لشهر يونيو    رئيس جامعة كفر الشيخ يترأس لجنة اختيار عميد «طب الفم والأسنان»    «التضامن»: طفرة غير مسبوقة في دعم ورعاية ذوي الإعاقة نتيجة للإرادة السياسية الداعمة (تفاصيل)    نقابة الأطباء البيطريين: لا مساس بإعانات الأعضاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي السّباعي يكتب مدونّات امرأة أرملة وينتصر للجندي المجهول
نشر في شموس يوم 09 - 12 - 2014


بقلم الأديبة الأردنية:سناء الشعلان
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عن دار ميزوبوتاميا للطّباعة والنشر والتوزيع صدر في العاصمة العراقية بغداد المجموعة القصصية " مدوّنات أرملة جندي مجهول"،وهي مجموعة قصصية جديدة للقاص العراقي علي السباعي،أبدع لوحة غلافها الفنان التشكيلي محمود فهمي عبود.والمجموعة تقع في 114 صفحة من القطع المتوسّط،وتتكوّن من أربعة معقودة تحت عنوان مدوّنة،وهي على التّوالي :مدوّنة الحرب،مدونة الحصار،مدوّنة الحبّ،مدوّنة التّيه.
باب المدخل إلى هذه المجموعة القصصّية هي كلمة غلافها الخلفيّ للقاص العراقيّ علي السّباعيّ الذي يقول:" واجهتُ نَفسي بالأسئلةِ،ماذا تعني القصةُ وهي تترسَّمُ آثار الحرب والحصارَ والحبَ والتيه؟وماذا تعني القصةُ وهي تترسمُ بصمات ِ الإنسانِ عندما ينْسَحبُ أمام ذاتهِ؟!سؤالُ كونيُ؟يحملُ طعمَ كلَّ المراراتِ التي لا تفارقُ نسغَ حياتنا إنْ كانَ هُنالك في الحياة منْ وجودٍ".
وهذا المدخل الخلفي لهذه المجموعة القصصيّة يقودنا نحو الحالة النفسيّة والفكرية والشّعورية التي ينطلق السّباعي منها في كتابة مجموعته هذه التي تقمّص فيها شخصيتين لا شخصيّة واحدة،أيّ أنّه استدعى المرأة والرّجل كي يرسم ملامح معاناة ومأساة الشّعب العراقيّ الذي يعيش منذ عدّة عقود في معاناة لا حدود لها،لاسيما معاناة الحرب التي خلّفت إرث حزن عملاق في ذاكرة الشّعب العراقيّ،وقد استدعى المرأة الأكثر معاناة في الشّعب العراقيّ،وهي المرأة الأرملة،كما استدعى زوجها الجندي الذي دفع حياته ثمناً للحروب والمآسي والتّصفيات العسكريّة.
والسّباعي يتولّى الحديث بصوت المرأة الأرملة عبر تفويضها له بذلك في القصة القصيرة الأولى "وصايا امرأة توشّحت بالرّماد" إذ يقول :"دموعُها شاهدٌ حيٌ وهي توصيني على تدوينِ عذاباتِ الناس الذين َ يمشون َ بجانب ِ الحائط ِ في بلد ٍ طيب ٍ ؛ وهم يحرثون أرض َ خيباتِه بمرارات ِ الواقع ِ وهباءاتِه ... وكان العراقيون المصلّبين َ في جذوع ِ نخله ِ المنقعر يسقونَها بدماءِ جراحاتِهم ،لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقت ِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالم ِ القبيح ِ الذي نعيشه ُ".
ومايكاد السّباعي يقدّم لنا هذه القصة القصيرة وثيقة إبداعيّة وقانونيّة لحقّه بتدوين عذابات الأرملة عبر تفويضها له بذلك حتى ينزلق مباشرة إلى داخل الجنديّ العراقي مستعرضاً عوالم عذابه وانكسارات وجوده وأشكال سحقه وظلمه ومصادرة حقوقه بالحياة بالمعارك طاحنة قد زُجّ بها زجّاً على امتداد عدّة عقود،وهو بذلك ينطلق من إيمانه الرّاسخ بأنّ الانزلاق إلى الرّجل لا يكون إلاّ عبر المرأة،وأنّ اكتشاف المرأة لا يكون إلاّ عبر بوابة الرّجل،وما توأمة حزنهما ومصيرهما إلاّ فهم حقيقيّ لشكل الوجود البشريّ الذي يتكوّن حقيقة من لحمة الرّجل والمرأة.
ولأنّ معاناة الرّجل العراقي ّهي معاناة المرأة العراقيّة،ولأنّ الجندي المجهول الذي مضى إلى الموت قهراً وظلماً هو فجيعة المرأة العراقيّة،فإنّ السّباعي بدأ بسرد قصص هذا الجنديّ عبر ذاكرة المرأة التي جعلها الحافظة لكلّ الحكايا،وقد عرض حكايا الجندي المجهول عبر عدّة قواطع قصصيّة سمّاها"مدوّنات"،وأعطاها الأسماء التّاليّة: مدوّنة الحرب،مدونة الحصار،مدوّنة الحبّ،مدوّنة التّيه.
وقد خلق السّباعي من حالة التّعميم المقصودة في العنوان بوابة للتخّصيص،فهو لم يحدّد من تكون هذه المرأة الأرملة،ولا حدّد اسم ذلك الجنديّ المجهول؛كي تكون تلك الأرملة هي العراقية الأرملة في أصقاع العراق كلّها،وكي يكون الجندي المجهول هو الجنديّ العراقيّ الذي لقي حتفه في المعركة بغض النّظر عن اسمه أو ديانته أو منبته أو منزلته الاجتماعيّة أو الثّقافيّة،وحواره مع المرأة في القصّة القصيرة الأولى من المجموعة:" وصايا آمرأةٍ توشَّحتْ بالرمادِ" يقودنا نحو قصر هذه المجموعة على معاناة العراقيّ والعراقيّة:"وكان العراقيون المصلّبين َ في جذوع ِ نخله ِ المنقعر يسقونَها بدماءِ جراحاتِهم ، كانتْ دموعُهم النازفة ُ
برقيّاتٍ من جحيمه ِ ... زامنتْ بكاءَ الأرملة ِ المتّشحة ِ برماد ِ الفجيعة ِ تبكي يومها الدامي في بلاد ِ وادي الرافدين ، سَألتُها مذهولا ً : كيف تبكين َ ؟ ! أجابتْ بشفتين ِ راجفتين ِ شاحبتين ، ودموعُها منهمرة ٌ من عينيها السومريتين ِ الرافضتين ِ لعراق ِ القهر ِ : العين لا تبكي إلاّ إذا بكى القلب ُ ، والقلب ُ لا يبكي إلاّ إذا أشتدَّ وقع ُ الهم ِّ عليهِ ، كم كانَ
همِّيْ ثقيلاً يطبقُ على قلبي .
علّقتُ مهموما ً :
ليسَ مِن َ السهلِ نسيان ُ كل ِّ ما مرَّ بنا من أحزانٍ .
شاطَرتني حزني َ قائلة ً :
أقتنص هذه ِ اللحظات ِ ؟ !!
بُحتُ لها وأنا أُمْسِكُ رماد َ فجائِعَنا :
ليتك ِ تدركين َ كم هو ثقيلٌ هم ُّ الوطن ِ ؟
قالتْ بلحظة ِ بوح ٍ باذخة ِ الدهشة ِ :
دوّنْ . . . دموع َ الناس ِ بوصفِها الخيط الرفيع الذي يربط ُ بين َ الحياة ِ والحلم ِ .
استفهمتُ :
لِمَ ؟ !
قالتْ ناصحة ً :
لأنّكَ متى تأخّرتَ عن الإمساكِ بتلكَ اللحظاتِ المدهشةِ من محنتِنا ... ستفقدُها إلى الأبد ِ .
لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقت ِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالم ِ القبيح ِ الذي نعيشه ُ".
ومنذ" مدوّنة الحرب" نقرأ في أسفار الجندي المجهول الذي يتناوب على أصناف المعاناة والحرمان،فيسرد السّباعي علينا ابتداء قصة" عازفٌ نسيَ عُودَه"،إذ يقول فيها:"كان معي جنديٌ إبان حرب ثماني السنوات في جبهةِ القتالِ ،لم يكن مقاتلاً شرساً ، كان عازفَ عودٍ موهوباً ، مُبدعاً، لا يجيدُ القتالَ... أثناءَ المعاركِ الطاحنةِ وما أكثرَها وأثناءَ اشتدادِ القصفِ كان يعزفُ لنا نحنُ إخوانَه المقاتلين أجملَ الألحان ، يضربُ على عودهِ بلا تعبٍ ، بمتعةٍ وإبداعٍ أبداً لا يكررُ نفسَه ... أُعلنَ وقفُ إطلاقِ النارِ في 8/8/1988 راحَ يدندن فرحا بانتهائِها.. وإذا بقذيفةٍ إيرانيةٍ تسقطُ على موضِعه وهو يعزُف ... تقتلٌه".
وقبل أن نستسلم لأحزان هذا الجنديّ المفجوع بنفسه وفرحه،ينقلنا السّباعي إلى أحزان المرأة العراقيّة إذ يقول في قصّة"أرملة" :" زمنَ الحرب . كنا نقفُ طوابيرَ لشراءِ الخبزِ ، كانَ الناسُ يصطفونَ صفين اثنين ... صفاً للنساء وآخر للرجال ، كان طابورُ النسوة طويلاً جدا كأنه أفعى سوداء ، وصفُ الرجالِ يتكونُ من ثلاثةِ أشخاصٍ مسنين وأنا ، جاءت أرملةٌ و اصطفتْ في طابورِنا ، خلفي مباشرةً ، أمرهَا صاحبُ المخبز المصريِ الجنسية أن تقفَ في طابورِ النساءِ ، فقالتْ بحدةٍ وهي تٌعَدِّلُ من وضعِ عباءتها السوداء الكالحة :وهل هنالك رجال حتى أقف في صفهم ".
وبعد ذلك يسرقنا السّباعي سريعاً إلى تضحيات ذلك الجندي العراقيّ الذي عاش شجاعاً ومات بطلاً،وأجاد أن يحوّل الموت والخراب إلى جمال ونخيل وحياة،إذ يقول في قصّة "ثأر":"جاهدَ جدي ضدَ الإنكليز ... كان يقتلُ الجنديَ البريطانيَ ويأخُذ سلاحَه وعتاده ويدفنُه في بستانِه ويزرعُ فوقَ جثتهِ نخلةٍ ... صارت فسيلاتُ النخيل تملأ بستانهَ ... تحتَ كلِ تالةٍ يرقدُ جنديٌ انكليزيٌ، قَتلهُ جدي ... غادَرنا البريطانيون ... كبرَ النخيلُ ... مات جدي... كبرنا ... شاخ نخيلُنا ... احتلّنا الإنكليزُ ثانيةً ... قاموا باقتلاعِ كل نخيل جدي".
والسّباعي في هذه المجموعة القصصّية المميّزة عندما شرع في كتابتها كان على وعي إبداعيّ كامل بأدواته وغايته،ولذلك اختار فنّ القصّة القصيرة جدّاً ليجري بنا في قصص لا نهاية لها ومعاناة عريضة تتوافر على أحداث يكاد السّرد الممتدّ لا يتسع لها،ولكنّ الجريّ فيها عبر ومضات القصّة القصيرة جدّاً قد يتيح لنا رؤية أوسع عبر مساحات شاسعة زمنياً ومكانيّاً وحدثيّاً عبر جري لا ينتهي،ولهاث متقطع لا من الجري المتواصل في سرد حكايا المعاناة بل من الألم والقهر الذي يحاصر المتلقّي عندما يتورّط في هذا القصص المحزنة.
وتقنيّة الجري- إن جاز التّعبير- في عوالم هذه المجموعة القصصيّة تجعلنا نطوّف في مفاصل حروب شتّى خاضها العراقيّ من الحرب ضدّ الاستعمار الإنجليزيّ إلى الحرب مع إيران إلى حرب الخليج.السّباعي لا يتوقّف عند تفاصيل حياة الجندي العراقيّ، بل يقودنا كلّ منا من يده ليجوب به تفاصيل معاناة الإنسان العراقيّ التي تأتي الحرب إليه إن لم يذهب هو إليه،ونرى ذلك جليّاً في قصّة"حظ عاثر ":"تهدم منزل صديقي الكائن خلف الفندق الذي رسمت على أرضية مدخله صورة بوش الأب ... نتيجة قصف القوات الجوية الأمريكية لهذا الفندق ... أصيب صديقي بالقصف وطار نصف قحف رأسه ...رقد في المستشفى سنه ونصف السنة ... تركته زوجته وقد أخذت معها أولاده ... هو ألان يشحذ في الشوارع".
وهذه التّفاصيل تنقل لنا الفجيعة في أقبح صورها وأبشع ملامحها كما نرى في قصّة" رأي":"دويٌ هائلٌ هَزَ قلبَ العاصمةِ ... إثرَ انفجارِ سيارة ٍمفخخةٍ ... تناثرتْ أجسادُ المارةِ ... انهارتْ واجهاتُ ألأبنيةِ المحيطةِ ... تحطمت السياراتُ ... بدأنا بلم أشلاء الناس ... عثرتُ على قَدَمِ رجلٍ يمنى يغطي ظاهرَها وشمٌ ازرقُ ملطخٌ بالدماءِ والوحلِ ... مسحتُها بباطنِ كفي اليمنى:كُتِبَ بالوشمِ الأزرقِ " كلُ النساءِ تحتَ قدمي ما عدا أمي ".
ولا يفوت السّباعي في هذه المجموعة القصصيّة أن يلوّح بكلّ جرأة بصراعات الإنسان العراقيّ إبّان الحروب الطوّيلة والكثيرة التي عاشها،وهو يطرح هذه الصّراعات بصراحة في قصّته:" رزمة أسئلة":"جارُنا الهاربُ من الخدمة العسكرية ... كان يسكر كل ليلة من ليالي حرب ألثمانينيات حد الثَمَل ...يبدأ بعتاب أمه :- لِمَ ولدتِني في قارة آسيا ... لِمَ ولدتني في العراق ... لِمَ ولدتني في الناصرية ... ولِمَ ولدتني في شارع عشرين ... ولِمَ أنا هارب؟!"
وهو في الوقت نفسه يتحدّث عن حلم الجندي العراقيّ الذي غادر الحياة،ولكنّه لازال يحلم بأن يكون حيّاً ليمارس حياته بكلّ تلقائيّة دون سطوة الموت الذي سارق عمره منه.وهذا الحلم هو امتداد لحلم كلّ جنديّ عراقيّ دُفع به إلى درب الموت،وحُرم من حقه في الحياة،فيقول في قصّة " جندي":" بعد انتهاء المعركة ، جندي يخرج من كيس الموتى ويقول لزملائه:-مهلا مازلت حياً".
"مدوّنة الحرب" في هذه المجموعة القصصّية تجوب بنا أقاصي الموت والقتل والخوف في مساحات الحرب،وتنقل لنا أدق تفاصيل الحياة اليوميّة إبان تلك الحروب في ظلّ صراعات نفسيّة يعيشها الإنسان العراقيّ في كلّ لحظة في أتون هذه الحروب التي تزرعه في عوالم من القهر والاستلاب والعذاب.أمّا "مدونة الحصار" فهي تسجّل لنا أدق ملامح جناية هذا الحصار على الإنسان العراقيّ إلى الحدّ الذي جعله يتمنّى أن يكون حماراً وفق ما نقرأ في قصة "إنسان" إذ يقول:" ذات حصار ...كنت انظر إلى الحمار ... وأحسده"
وفي أجواء كهذه تتخلّخل المعايير كلّها،وتتحرّك البُنى كاملة نحو الانهيار والدّمار كما نرى في قصة "تجار ميزوبوتاميا" :"دلفتْ إلى مقهى التجارِ ... امرأةٌ مقوسةُ الظهرِ ...تستجدي ... لم يُعْطِها احدٌ شيئاً ... ألحت في طلبهِا ... نَهَرَها صاحبها :-أخرجي ... ألا تخجلين ... أنتِ وسطَ الرجال ... عيب ... ؟ !!قالتْ بمرارةٍ وحزنٍ غريبين في أثناءَ مغادرتهِا و كانت تَهُز يدها اليمنى باستهزاءٍ قَلَ نظيرهُ :وأينَ همْ الرجال ؟"
لقد رسم لنا السّباعيّ أصدق الصّور الإنسانيّة للإنسان العراقيّ إبّان أزمة الحرب التي يعيشها،وتخفّى خلف قصص الآخرين ليقول لنا إنّها قصص العراقيين جميعاً بل إن بعضها هي قصّته هو بشكل أو بآخر وفق صرخته المؤلمة في قصّة"أنا" إذ يهتف بها بألم وفجيعة :" طيورٌ رماديةٌ قويةٌ مهيبةٌ تحلقُ في سماءِ الزوراء ،متخذةً في طيرانها الانسيابي شكلَ دائرةٍ واسعةٍ كلما استمر تحليقُها كانت الدائرةٌ تضيقُ،وكان بينهن طائرٌ واحدٌ ابيضُ رشيقٌ وجميلٌ جدا ،وَضَعْنَه في منتصفِ الدائرةِ التي قد صَنْعنَها بطيرانهِن ... كانَ ذلكَ الطائرُ الأبيضُ أنا ".
أمّا في" مدوّنة الحبّ: فإنّ السّباعي يقدّم لنا الحبّ العراقيّ الكسير الذي لا يفرح قلب به كما يجب بسبب الحرب ومعاناتها،حتى بات هذا الحبّ ليس إلاّ صورة من صور الموت والدّمار والفراق،فيشجي القلب،ويحرق الرّوح،ويحرم من متعة اللقاء والفرح ولمّ الشّمل كما نرى في قصّة" عرس" إذ نقرأ فيها قصة حبّ ترحل مع الموت:" قبيل زفافِهما ... عريسٌ ينتظرُ عروسَه أمام مصففةَ الشعرِ ...تسودُ شارعَ الكرادةِ فرحةٌ ملونةٌ ... بأحلى الأغاني والرقصات ... انفجرتْ سيارةٌ مفخخةٌ ... هَزَتْ بغدادَ".
وهذا الحبّ قد تشّوه في الذاكرة العراقيّة بسبب الحرب والمعاناة والحصر والقهر والاستلاب،فمسخ ليغدو صورة من أبشع صور الحياة التي تدمي الرّوح كما نرى في قصّة "مشاجرة" :"تشاجرَ مع زوجتهِ ...أرادَ أغاضَتَها ... فقتلَ ابنَته ذاتَ الربيعين".
إن السّباعي في مجموعته القصصّية هذه قد نجح في أن ينقل إلينا دوار الألم الذي يعتمل في نفسه،ويعيشه في ذاكرته،ويتقاسمه مع العراقيين أجمعين،وعندئذ أخذنا في رحلة جهنميّة مضنية في " مدوّنة التّية" التي تعتّم أرواحنا بملامح حياتنا مستلبة عاشها العراقيّ في تفاصيل حياته المعيشة عبر عقود من الاستبداد،ويكفي أن نقف قبالة صورة قصّة "وجبة" لنصرخ بآهات وجع العراقيين المنكوبين بحيواتهم وأعمارهم وأفراحهم المسروقة":في حديقةِ الحيواناتِ الخاصة التي يملُكها عدي صدام ،يُطْعِمُ الجنودُ الأمريكييوُن ثلاثةَ أسودٍ جائعةٍ نعاما وغزلاناً حيةً ، أما القططُ فتغفو تحتَ لافتةٍ كَتبَ عليها الجنودُ :
((من يُضْبَط وهو يعتدي على أيٍ من حيواناتِنا، سيكونُ وجبتهَا المقبلةَ)).
وفي هذا التّيه المضني يضعنا السّباعي أمام أسئلة الحيرة ودروب الضّياع إذ يلقي علينا قصّة"غارس"،ولنا أن نأوّلها بما نشاء وكيفما نشاء،والمغزى في وجدان السّباعيّ :"رجلٌ في عقدهِ السادس ، طَفَحَ به الكيلُ بعد الحوادث الطائفيةِ الداميةِ عام ألفينِ وستة ، جَمَعَ كلَ صورَ الطاغيةِ في مدينتهِ الطيبة،الناصريةِ الغافيةِ على نهرِ الفراتِ ،وقامَ بغرسِها وسطَ سوحِها وحدائِقها المجدبةِ وخرائبهِا ،وراحَ كل يوم يجلبُ الماءَ من فراتها إلى صورهِ التي غَرَسَها ،وسقاها على أملِ أن تُنْبِت واحداً مثلَ صدام".
أزعم أنّني قرأتُ الكثير من الإبداع القصصّي عند القاص العراقيّ علي السّباعيّ إلاّ أنّ هذه المجموعة قد أكّدت أنّ المبدع قد يتفوّق على نفسه،وأنّه قد يكون في منتج إبداعي ما قد سرق النّار من جبل أولمب الإبداع.ليس من درب نحو هذه المجموعة سوى عبر الإنسان العراقيّ وعبر معاناته التي كست ذاكرته بالخراب والحزن والألم والفجيعة والضّنى،وليس لنا عندما نقرأ هذه المجموعة القصصّية إلاّ أن نقول للسباعيّ:مرّة أخرى قد أبدعت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.