أعطوه حجرة في الجناح الجنوبي من غرف الخدمة ليكون قريبا من الإسطبل .. كان يتمني أن يكون في موضع بالقرب من البناء الأزرق لكن حظه شاء له أن يبتعد عنه .. وأصلا لم تكن السيدات لتسمحن لأحد بالاقتراب منه خطوة واحدة ! في تلك الليلة أكل " انطوان " طعاما طيبا ، عشاء وفيرا لذيذا وتمدد علي حشية لينة محشوة بما بدا له لفات من أقمشة ناعمة حريرية الملمس فأخذت الحشية تدغدغ جلده من أسفله محدثة أثرا ممتعا في جسده وهو يتقلب علي جانبيه طلبا للنوم .. فقد كان النوم عصيا رغم كل ما أحيط به من عوامل هناءة ! كان الفتي من النوع الفضولي المولع بدس أنفه في كل ما يراه ، خاصة لو كان شيئا لا يفهمه أو يدرك له معني .. وهو لا يستطيع أن يعثر ، بعد كل ما بذل من جهد في التفكير واستنطاق الأدلة وفحص الأمثلة القريبة ، علي معني لوجود هكذا بناء غريب متوحد منعزل في وسط حديقة القصر الشامخ الفسيح .. فهل هو قبر مثلا ؟! لكن لأي مبرر يبنون قبرا في ذلك المكان غير الملائم كليا .. هل هو نصب تذكاري لأحد أجداد الأسرة العظماء ؟! للأدميرال " هوراشيو نلسون " مثلا .. لكن يبقي السؤال معلقا بلا جواب شاف .. لأي غرض يوضع هذا البناء الغريب هنا ولما هو مصمت تماما .. كيف يدخلون إليه إذن ؟! دارت رأس الفتي الذي ثرثر مع نفسه داخل رأسه حتى أوجعته رأسه وأصابه الصداع .. قرر أخيرا أن يهجع وينام موفرا علي نفسه كل تلك المتاعب التي لا نفع فيها له ولا لغيره ! نام أخيرا ! نام ! لكنه صحا بعد أقل من ساعة علي أصوات غريبة آتية من خارج الغرفة التي يرقد فيها .. أصوات جياد مذعورة ! كانت ثمة جياد تحرن وتصيح غاضبة .. لكن لأي سبب ؟! أزاح الفتي الغطاء وهرع إلي الخارج .. لم يفعل ذلك بوحي من مهام عمله بل لأنه وقع في غرام أحصنة العائلة بمجرد أن رآها .. " إيمرت " الأبيض الشاهق الجميل و" والي " الذهبي الملكي المتغطرس .. كم هما جميلين وكم هما رائعين ومحببين ! هرع إلي الخارج إذن فوجد الخيل ثائرة بالفعل .. الغريب أن رئيس الإسطبل " غرانفيل " ولا أحد من مستخدميه المتعددين جاء علي صوت الجياد ليري ما يحدث .. الجميع بقوا في الداخل رغم ارتفاع صوت استغاثات الحيوانات العجماء ! في الإسطبل كان الجوادين في حالة هياج كامل وكلا منهما يحاول أن يفر من قيوده بطريقة جنونية .. لم يكن هناك شيء هنا .. لا شيء مثير للفزع فما الذي دهي هذين الجوادين ؟! تطلع " أنطوان " حوله وتفحص الإسطبل وما حوله فحصا كاملا وتمشي حول المكان فلم يجد شيئا غريبا أو دخيلا .. إنه عاجز عن الفهم الآن ! فجأة رأي " أنطوان " ضوء يقترب منه .. لم يعرف إن كان ضوء شمعة أم ضوء مصباح غاز فقد كان مكتوما وكأنه حوله سحابة ضبابية تحجب نوره وتمنعه من التوهج والانتشار .. لكن الضوء ، وحينما كان علي مسافة مناسبة ، كان كافيا لكي يري الفتي علي موجاته الضعيفة أن ثمة شخص يقترب .. شخص يحمل شمعة ويسير ببطء وهدوء ! أقترب الضوء وحامله أكثر وشهق " أنطوان " فزعا فقد رأي قدا نحيلا لامرأة تضع حجابا شفافا حول رأسها وتسير عابرة الحديقة إلي الناحية الأخري حيث يقع المبني الأزرق الغريب ! لا شيء قادر الآن علي منع الفتي من تتبعها ومعرفة ما يحدث بالضبط هنا ! بخطوات غير مسموعة علي العشب المبلل بماء المطر سار الفتي حذرا متتبعا الخطوات البطيئة الثقيلة لمن تسير ، أو يسير ، أمامه .. سارا حتى وجد نفسه بالقرب من المبني الأزرق وهناك توقفت السيدة التي يغطي الحجاب وجهها ورأسها وينسدل فضله ليغطي رقبتها وعينيها ! كيف تري الطريق وعينيها مغطاتين ؟! عجيب ! توقفت هناك ثم بدأت ترتعش وترتجف .. رفع " أنطوان " رأسه ليجد سحابة ثقيلة تحجب وجه القمر .. المطر قادم مرة أخري تلك الليلة ! عاد ينظر إلي حيث تقف المرأة فلم يجد لها أثرا ! اختفت تماما .. لكن البناء كان مفتوحا ! ثمة فتحة غريبة الشكل ، تبدو وكأنها جدار كامل تم إزاحته أو إزالته ، يشع منها نور واهن وتنبعث من داخلها أصوات خفيضة تنادي هامسة بصوت منغم غريب : " أرشي .. أرشي ! " كاد الفضول يقتل الفتي .. وبلا تفكير وجد نفسه يضع قدمه ليدخل ويري ما الذي يحدث في ذلك المكان الغريب .. لكنه شعر بيد ثقيلة تتشبث بكتفه من الخلف .. نظر خلفه مذعورا فوجد " جوديفا " ينظر إليه بوجه مرتعب غاضب .. هم الفتي بالاعتراض لكن الراعي المسن سحبه بقسوة وغلظة .. جذبه عبر الحديقة حتى أدخله إلي غرفته .. دخل خلفه بعد أن دفعه داخلا بقوة شديدة وغل ظاهر .. رماه داخلا ثم وضع أصبعه علي شفتيه محذرا وقال له مهددا : " لا تتجول داخل القصر ليلا .. مهما سمعت فلا تترك غرفتك .. أرشي أيضا كان فضوليا مثلك ! " تركه وذهب دون مزيد من التفسير .. وفي الصباح وجد " أنطوان " جمعا عدائيا صموتا يرفض جميع من فيه أن يفهمه شيئا أو يقدم له تفسير لأي شيء ! الحلقة القادمة مساء الخميس