لستُ أدري كيف أنني ذات صدفة حاولت أن أفتح نوافذ عينيّ, لأطلّ على شرفات الضوء, وأشمّ رائحة الفجر.. فتصدّعت الرؤية في أزقة العتمة, وتاهت في سواد الستائر. أردت أن أمدّ يديّ بوصلة تحدد اتجاهاتي, فضحك قيدٌّ, وجلجلت نواقيس الخطر. رحت أختلج مثل سمكة تحاول إفلاتاً من شبكة, فإذا جسدي قطعة من طين متحجر, والدماء بركة ألمّ متخثّر. الليل مشرعةٌ أبوابه, والظلام أفعى تلتف حول عنقي. الصمت يطبع قبلة باردة على فمي ويختمه بشمع الموت. الخوف مضغة استعمرت أحشائي, رضعت بقايا دفء, فانتشت وتمردت وحشاً يبتلع صوتي, يئد صداه ويزيدني اختناقاً. حرذاسٌ على الدروب يقيسون المسافة بين الخطوة والخطوة. يحاصرني المكان كقبر.. لكنني حيّة! أسمع زقزقة النبض. أصرخ دون صوت, والدمع طيور تتأهب للتحليق, تجوب سماء الأحداق, ثم تبني أعشاشها عند سواحل العينين. حين تنعدم المساحة حولي, أنقلب إلى داخلي وعميقاً أغوص. تبدو أعماقي طليقة كنورس مهاجر يجتاز فضاءات مفتوحة من كلّ اتجاه, أفقاً لأفقٍ يأتي. مرساة حزن مخمور مخنوق البوح تتوسد رمال زمن مرّ مكبل اللحظات, وأكوام من كلمات لم تقل. ومثل حلم هارب رأيتها تطوف. مثل روح هجرت تابوت الجسد, تحتطب العتمة بفأس الصبح. كنت أعرفها, ولطالما شعرت بوجودها هنا في أعماقي. إنّها هي.. إنّها أنا! إنّها .. لست أدري! اتكأتْ دهشتي على ذراعين مشلولتين, ولم تقو على الاستغراب. امتدت يدها إلى رأسي ترفعه إلى أعلى.. إلى أعلى.. كراية يغرسها المنتصر في أرض حرّرها للتوّ. راحت نظراتي تتسكع على طرقات من بهاء, والأفكار تتراكض في ذهني: لعلّها إلهة الحب أو الخصب! ولربما كانت إلهة الخير أو الجمال! كانت تقفو آثار أفكاري, فابتسمت وقد أدركتْ حيرتي: -ما الحبّ والخصب والخير والجمال إلا بضع مفردات في قاموسي! رمقتني بحنان, وابتلعت غصّة تنزّ دمعاً, وقالتك -أين أنا قيكِ؟ أين وجودك؟! -ابتلعوه! -من تعنين؟ الرجل! -والموروث! -ومن أيضاً؟ - الخوف! -ثمّ! -الحياء! -ممّ؟ -منكِ.. من أنوثتي! -وماذا فعلتِ ليُرمى بك فتاتاً للخفافيش؟ -أردت لأفقي مدى! أردت لصوتي صدى! أردت حدوداً تنطبق على حدودهم.. رفضتُ الاحتواء.. أردت مساحة تعادل مساحتهم.. فالمساحة حرية! -وأين صباكِ؟ -كان مهراً يعطّر البراري بالصهيل, أجبروه على تعاطي المزارع الضيقة, فأدمن الانطواء! -والقلب؟ -حفرة في الصدر تجترّ دماءها! -والقلم؟ -امتدّ اسفنج أسود, وامتص النسغ حتى آخر قطرة! -والذاكرة؟ -أرشيف لنزف الأيام غارق في متاهة النسيان والرطوبة, وطحالب الصدأ تدبّ على الجذوع تعلنها مملكة على كلّ التفاصيل! -والرغبة؟ -وجبة سريعة نزدردها على عجل خلف أسوار الليل التي تغتال كلّ نسمة تشي بعطر الحبّ! -والأحلام؟ -أفرغوا جيوب غدي من أي حلم.. جمعوها وسمّروها على صليب من وجع, لتُحرق حية كالساحرات! هزّت رأسها بأسى وقالت: -كيف لقراصنة الضعف أن تحاصر قبطان العطاء -الضعف عرافة عجوز تسوّر خصرها بالتمائم, تنفث الوهن دخاناً ليقتات أنفاسك, ويسدّ كلّ طرقاتك بضباب اليأس. والسقوط ينتظر إشارتها ليبدأ طقوس الرقص العشوائي على جسدك! -ليس للينبوع أن يشكو جفافاً! ليس للجذور أن تلعن ظلمة ينبغي أن تفجّرها خضرة! وليس للبداية أن تعلن النهاية إلا لتبدأ من جديد! رشف الذهول كلماتي, فرحت أتعقب أنفاسها, وأقطف ندى حروفها: -الانثى حبة قمح تمتلك إرادة التلاشي في جوف الأرض, لتبعث من قاع الموت, وتكون أكثر امتداداً, وتختزن في خلاياها عبق الخلود. في البدء كانت الأنثى, والكون طفل بلا ذاكرة يحبو بين ذراعيها, فعلّمته أبجدية التاريخ, وكانت الأرض لوحة بيضاء, فنثرت ذاتها ألواناً وتضاريس وفصولاً. طافت حولي وأشارت إلى الركام: -ما هذا إلا غيمة تحاول العبث بوجه الشمس, والشمس تلاطفها, لكنذها حين تضيق بها ذرعاً تمدّ يدها, تعصر الغيمة, وتمسح بمائها مرايا الأفق لتتألق عيون الصفاء. الأنوثة يا طفلتي رداء من كلمات يعجز عن الإحاطة بجسد المعنى, وينحني ظهر الحروف تحت ثقله. تخجلين من أنوثتك!! أيخجل فجر من نوره؟! أتخجل دالية من عناقيدها؟1 كان الندى المتهاطل من كلماتها ينعش ذاكرتي, فإذا عبير النشوة يخترق مساماتي, وإذا قطار الصحو يعلن سفر كلّ الخلايا إلى مدن الشمس.. يجتاز مساحة وجودي مسرعاً, فأحسست بزلزال يسري عصياناً في جسدي, في كلّ شراييني. تنطلق الذات المتشرنقة فراشةً تنفض عنها بقايا خيوط, وتطلق جناحيها للمدى ينابيع لونٍ تصبّ في بحار الغد. من المجموعة القصصية : حين يأتي زمن الحب