عبد الرحيم كمال ليس مجرد كاتب مثقف وسيناريست استمرأ كتابة الدراما التلفزيونية على نهج الكاتب المدهش الراحل اسامة أنور عكاشة ، أو يسلك نفس الطريق الدرامي الذي سار عليه سلفه المبدع الصعيدي الراحل ايضا القاضي محمد صفاء عامر . بل استطاع ان ينحو بالدراما التلفزيونية الى شق طريق ثالث باسمه لا يمكن لأحد ان ينازعه عليه . ولان الكاتب عبد الرحيم كمال مثقف ، ملتزم ، ويعرف ما الذي يريده بالضبط فلم يجد اية غضاضة من الافصاح في مقدمة حلقاته التمثيلية الرمضانية " دهشة " عن ان الفكرة مستوحاة عن مسرحية الملك لير للكاتب الانجليزي الأعظم وليم شكسبير . والمدهش في العمل تلك الاجواء الاسطورية المستمدة من عبق شكسبير وانفاسه ، والتي تجسدت في تلك اللغة الشعرية التي امتلأت بها جنبات الحلقات والتي حملت في الكثير من افكارها ومعانيها تجليات صوفية بالغة العمق والدلالة ، ونصيب وافر من حكمة الحياة حيث يتصل الماضي بالحاضر في تكاملية مذهلة تعكس بقوة وحدة الانسان على مر العصور ، وذوبانه في الكون المتسع بغير شروط . وكما كان الملك لير شغوفا بسماع بناته يعبرن له عن حبهن ، كان باسل الحمد الباشا أو يحيى الفخراني يفعل ذلك ايضا ، وكما وزع الملك لير عند شكسبير ملكه على بناته اللاتي جارينه في شغفه ، وحرم الصغرى التي لم تنافقه ، فعل ذلك ايضا باسل الحمد الباشا حيث وزع ثروته كلها على ابنتيه الأكبر وحرم الصغرى التي اصرت على الزواج ممن تحب رغما عن ارادته . ويبدو ان هذا كل شبي يبدو متفقا عليه بين لير شكسبير ودهشة عبد الرحيم كمال ، وبعد ذلك حدث الافتراق واكتشفنا اننا بصدد عمل جديد ، كأنه مصري ، صعيدي قح ، مسرح احداثه قرية دهشة التي هي عبارة عن بضعة منازل تخنقها الجبال الوعرة المحيطة بها ، والفقر ، والخوف ، والاساطير على شاكلة الكثير جدا من قرى الصعيد في مصر حتى الآن . ومملكة باسل الحمد الباشا حاكمها بأمره ، ورجلها القوي العظيم صاحب القصر الفخم ، والمقبرة العظيمة التي يقول فقراء القرية عنها شعرا ، تبدو مثل القلعة الحصينة يحرسها رجال اشداء ولا يستطيع احد من الخدم الحلم بالاقتراب منها. وينجح مخرج العمل شادي الفخراني في ان يدخلنا الى هذا العالم الاسطوري ببراعة كبيرة ، فالأحداث ، وتفاعلات البشر تبدو امامنا في الكادرات كما لو كانت لوحات تشكيلية رائعة لرسام شديد البراعة والرقي ، وحينما تمعن النظر في تلك اللوحات تدهشك الدقة في كل شيء ، الملابس ، اكسسوارات الممثلين ، البيئة المحيطة من جبال وعرة ، وصحراء قاحلة شديدة البأس ، ومنازل وطرقات ، ودكاكين ، حتى الخمارات ودور اللهو ومنازل البغاء ، كل ذلك يبدو متسقا مع الاسطورة ، والبيئة ، والفكرة والدلالة ايضا . كان توظيف الاضاءة مدهشا وأخاذا . كما تدخلك ديكورات العمل عالم دهشة الفقير ورجاله ونسائه العبيد والخدم في مقابل الاسياد والوجهاء الذين يسيطرون على مقادير الامور في هذا البلد الغارق للثمالة في الضياع عن المدنية وحياة الدولة . وباسل الحمد الباشا شخصية العمل الدرامي المركزية أو لير عبد الرحيم كمال يبدو شخصية صعيدية قحة ، رجل قوي ، عصبي المزاج ، شكاك ، يشعر طول الوقت بزهو القوة والتحكم والسيطرة ، ويعتقد انه يمتلك الحكمة ، بناته بالنسبة اليه مركز الكون ، يسعى لاسترضائهم ، ويتلهف طول الوقت على سماع كلمات الحب منهم . عكست المشاهد الأولى مقدار تعلقه بابنته الصغرى " نعمت" ، ومقدار تعلق نعمت به . عاش حياته عصاميا ، بعد ان طرده اخوانه من ابيهم هوه وامه واخته والقوا بهم في الفراغ وحرموهم من كل شيء . عمل الباسل الطفل ، وظلت مسألة طرده بواسطة اخوانه غصة في حلقه حتى بعد ان كبر واتسعت اعماله ونفوذه ، واصبح الرجل الاسطوري في دهشة والمناطق المجاورة . لم ينس ابدا حقد اخوانه عليه وعلى والدته واخته ، وظل حقده عليهم كبيرا لدرجة ان ابنته الصغرى احبت ابن عمها ورفض الباسل تلك العلاقة ، وخيرها بينه وبين حبيبها . وطردها من جنته مقتنعا انها لا تحبه لأنها لم تمتثل لمشيئته التي انبنت على عدم التسامح والكراهية والحقد . ويتفجر صراع كبير داخله بسبب فراق ابنته ومحبوبته الصغرى ، وترتبك احواله وقراراته ، ويذهب الى ابنتيه الأكبر ويوزع عليهما ارضه وامواله ويحرم ابنته الصغرى من كل شيء ، ثم يذهب الى شركائه في اعماله معلنا لهم تقاعده وتصفية اعماله . ومن هذه اللحظة تتصاعد وتيرة الدراما والصراع ، وتتكشف نوازع النفس البشرية عن ابشع ما فيها ، غيرة الاخوات الشقيقات وحقدهن من اختهم الصغرى وتعلق والدهم بها ، وحقد ازواجهن وكراهيتهم غير المحدودة للرجل الكبير باسل حمد الباشا ، وهكذا يتواتر الصراع ونجد الرجل القوي يدور على بناته يتسول كلمة حب واحدة من غير جدوى ، ويكتشف الباسل الحمد الباشا انه عاش وهما كبيرا وان امواله كلها لم تجلب له حب ابنتيه ، بل تآمرا مع ازواجهن ضده . ويحسب للفنان يحيى الفخراني اداءه لهذه الشخصية المركبة ، المرتبكة بصورة ملفتة للاهتمام ، واظهر قدرا كبيرا من الاحترافية والحنكة ، على الرغم من المنولوج المسرحي الطويل الممل على الطريقة الشكسبيرية بعد انكشاف الواقع الجديد الذي يعيشه وتبدد الاوهام التي عايشها ردحا طويلا من الزمان . وعلى الجانب صارت الحوادث والحكايات الموازية للحدث الدرامي المركزي ، وربما سرقت منه الاضواء ، مثل شخصية راضي ولعبها الفنان الشاب فتحي عبد الوهاب باقتدار لافت وكان الابن غير الشرعي لعلام حمد الباشا شقيق باسل ولعب الدور الفنان الكبير نبيل الحلفاوي ، وكانت مباراة رائعة في فن التمثيل بين رجلين احدهم يحمل غلا وحقدا وكراهية وجاء سعيا للانتقام من والده علام الذي انبته من بين براثن غانية اثناء سنوات نزقه وتهوره ومجونه الذي فاق الحدود ، وآخر يعيش حاضره وايامه ، وينجح راضي في السيطرة على ابنه الوحيد وحيلته في كل دنياه وتدميره . الى جانب شخصية العمة سكن شقيقة الباسل والتي تعيش مع ذكرياتها وشبح زوجها المغدور به ، ومن خلاله خلقت لنفسها عالما رائعا من الاساطير والخيال آنس وحشتها الكاذبة ووحدتها وخفف عنها وطأة انشغال الاحبة عنها ، وشجنها المتواصل مع قصة حبها المجهضة والتي تسببت في بتر ساق حبيبها ومقتل زوجها . انه عالم مرتبك ومعقد على الطريقة الشكسبيرية تمكن عبد الرحيم كمال من نسجه على الطريقة المصرية في لوحة درامية مشوقة تكاملت بأداء متميز للفنانين الذين عكسوا فكرا وصورة اسطورية لعالم الصعيد الذي ليس غريبا عنا على اي حال ، ونذكر الفنانين الكبار سعيد طرابيك ، عايدة عبد العزيز ، وحنان مطاوع ، وياسر جلال ويسرا اللوزي وغيرهم ونسج الجو الاسطوري بموسيقاه الجميلة الفنان الكبير عمر خيرت . بقى ان نذكر بان الفنان القدير يحيى الفخراني قام بدور الملك لير على المسرح القومي عام 2002 من اخراج الفنان احمد عبد الحليم ولاقت المسرحية وقتها اقبالا جماهيرا لافتا ، وكأنه في لعبه المتميز لدور باسل الحمد الباشا في دهشه يستعيد ذكرياته وايامه الجميلة مع لير شكسبير وذلك الجمهور المصري الرائع الذواق للفن الاصيل وروعته . د. احمد الباسوسي