لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    اليوم.. «محلية النواب» تناقش طلب إحاطة بشأن إزالة 30 عقارًا بالإسماعيلية    الريال السعودي يواصل التراجع مقابل الجنيه بالبنك الأهلي اليوم الثلاثاء    بنك مصر يوقع عقد قرض طويل الأجل ب 990 مليون جنيه مع إيديتا للصناعات الغذائية لتمويل خطوط إنتاج جديدة    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم    محافظ جنوب سيناء: نسعى للنهوض بالسياحة العلاجية وشرم الشيخ تتميز بتنوعها السياحي    طهران تصدر تحذيرات مشددة للدبلوماسيين الإيرانيين في الخارج    آخر مستجدات جهود مصر لوقف الحرب في غزة والعملية العسكرية الإسرائيلية برفح الفلسطينية    مبعوث أممي يدعو إلى استئناف المحادثات بين إسرائيل وحماس    زلزال يضرب محيط مدينة نابولي جنوبي إيطاليا    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    10 لقطات لا تنسى في موسم الدوري الإنجليزي 2023-2024 (صور)    رقم تاريخي لعدد أهداف موسم 2023/24 بالدوري الإنجليزي    الحالة الثالثة.. التخوف يسيطر على الزمالك من إصابة لاعبه بالصليبي    بشير التابعي: معين الشعباني لم يكن يتوقع الهجوم الكاسح للزمالك على نهضة بركان    أول صور لحادث سقوط سيارة من أعلى معدية أبو غالب في المنوفية    بالأسماء، إصابة 18 عاملًا في انقلاب ميني باص بالشرقية    موعد عرض مسلسل دواعي السفر الحلقة 3    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    جهات لا ينطبق عليها قانون المنشآت الصحية الجديد، تعرف عليها    التأخيرات المتوقعة اليوم فى حركة قطارات السكة الحديد    موعد إجازة عيد الأضحى 2024 في مصر: توقيت وقفة عرفات وعدد أيام العطلة    تراجع سعر الفراخ البيضاء واستقرار البيض بالأسواق في منتصف الأسبوع الثلاثاء 21 مايو 2024    حمدي الميرغني يحيي ذكرى رحيل سمير غانم: كنت ومازلت وستظل أسطورة الضحك    تعليم الوادى الجديد تحصد المركز الثامن بالمسابقة البحثية للثقافة الإسلامية    بعد رحلة 9 سنوات.. ماذا قدم كلوب لفريق ليفربول؟    جامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية تنهي كافة الاستعدادات لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    ننشر بالأسماء ضحايا حادث العقار المنهار بالعياط    براتب 5000 جنيه.. وزارة العمل تعلن عن وظائف جديدة بالقاهرة    قبل طرحه في السينمات.. أبطال وقصة «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    عاجل.. مصرع شاب إثر غرقه بمياه نهر النيل بمنشأة القناطر    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: صناعة الدواء مستقرة.. وصدرنا لقاحات وبعض أدوية كورونا للخارج    وزير الصحة: مصر تستقبل 4 مواليد كل دقيقة    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    المقاومة الفلسطينية تستهدف قوات الاحتلال قرب مفترق بلدة طمون جنوب مدينة طوباس    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق شقة سكنية بالعمرانية    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    رفع لافتة كامل العدد.. الأوبرا تحتفي وتكرم الموسيقار عمار الشريعي (تفاصيل)    مصطفى أبوزيد: تدخل الدولة لتنفيذ المشروعات القومية كان حكيما    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    على باب الوزير    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شرح الحكم العطائية
نشر في شموس يوم 22 - 01 - 2014

الباب الأول: (قُلْ اللّه ثم ذَرْهُمْ فى خوْضِهم يلعبونَ)
(مِنْ عَلاَمِة الاِعْتِمِاد على العَمَلِ نُقْصانُ الرجَّاءِ عِند وَجُودِ الَّزلَل).
الاعتماد على الشيء: هو الاستناد عليه والركون إليه، والعمل: حركة الجسم أو القلب، فإن تحرك بما يوافق الشريعة سمي طاعة، وإن تحرك بما يخالف الشريعة سمي معصية. والأعمال عند أهل الفن على ثلاثة أقسام: عمل الشريعة، وعمل الطريقة، وعمل الحقيقة. أو تقول عمل الإسلام وعمل الإيمان وعمل الإحسان. أو تقول عمل العبادة، وعمل العبودية، وعمل العبودة: أي الحرية.
أو تقول عمل أهل البداية، وعمل أهل الوسط، وعمل أهل النهاية. فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تشهده.
أو تقول: الشريعة لإصلاح الظواهر، والطريقة لإصلاح الضمائر، والحقيقة لإصلاح السرائر. وإصلاح الجوارح بثلاثة أمور: بالتوبة والتقوى والاستقامة. وإصلاح الظواهر باجتناب النواهي، وامتثال الأوامر. وإصلاح الضمائر بالتخلية من الرذائل والتحلية بأنواع الفضائل. وإصلاح السرائر وهي هنا الأرواح: بذلها وانكسارها، حتى تتهذب وترتاض بالأدب والتواضع وحسن الخلق.
ولا يعتمد المريد فى سلوكه على نفسه ولا على عمله ولا على حوله وقوته، وإنما يعتمد على فضل ربه وتوفيقه وهدايته وتسديده. قال تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة). وقال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله، قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فالاعتماد على النفوس من علامة الشقاء والبؤس، والاعتماد على الأعمال من عدم التحقق بالزوال، والاعتماد على الكرامة والأحوال من عدم صحبة الرجال، والاعتماد على الله من تحقق المعرفة بالله. وعلامة الاعتماد على الله أنه لا ينقص رجاؤه إذا وقع في العصيان، ولا يزيد رجاؤه إذا صدر منه إحسان.
أو تقول: لا يعظم خوفه إذا صدرت منه غفلة كما لا يزيد رجاؤه إذا وقعت منه يقظة، قد استوى خوفه ورجاؤه على الدوام، لأن خوفه ناشئ عن شهود الجلال ورجاؤه ناشئ عن شهود الجمال، وجلال الحق وجماله لا يتغيران بزيادة ولا نقصان، فكذا ما ينشأ عنهما. بخلاف المعتمد على الأعمال إذا قل عمله قل رجاؤه وإذا كثر عمله كثر رجاؤه لشركه مع ربه وتحققه بجهله، ولو فني عن نفسه وبقي بربه لاستراح من تعبه وتحقق بمعرفة ربه.
والدلالة على الله هي الدلالة على نسيان النفس، فإذا نسيت نفسك ذكرت ربك. قال تعالى: "واذكر ربك إذا نسيت". أي ما سواه، وسبب التعب هو ذكر النفس والاعتناء بشئونها وحظوظها. وأما من غاب عنها فلا يلقى إلا الراحة. وأما قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في كبد" أي في تعب فهو خاص بأهل الحجاب.
أو تقول خاص بأحياء النفوس، وأما من مات فقد قال تعالى فيه: "فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم". أي فروح الوصال، وريحان الجمال، وجنة الكمال. وقال تعالى: "لا يمسهم فيها نصب" أي تعب، ولكن لا تدرك الراحة إلا بعد التعب، ولا يحصل الظفر إلا بالطلب. "حفت الجنة بالمكاره".
وقال في حل الرموز: ثم اعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات، حتى تقطع ست عقبات، العقبة الأولى فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية، العقبة الثانية فطم النفس عن المألوفات العادية، العقبة الثالثة فطم القلب عن الرعونات البشرية، العقبة الرابعة فطم النفس عن الكدورات الطبيعية، العقبة الخامسة فطم الروح عن البخورات الحسية، العقبة السادسة فطم العقل عن الخيالات الوهمية، فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية، وتلوح لك في العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية، ويلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلات القربية، وتطلع لك في العقبة الخامسة أنوار المشاهدات الحبية، وتهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية، فهنالك تغيب بما تشاهده من اللطائف الأنسية عن الكثائف الحسية، فإذا أرادك لخصوصيته الإصطفائية، سقاك بكأس محبته شربة تزداد بتلك الشربة ظمأ، وبالذوق شوقاً، وبالقرب طلباً، وبالسكر قلقاً اه.
(تتميم) اشكل على بعض الفضلاء قوله تعالى: "ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون" مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" الحديث.
والجواب: أن الكتاب والسنة وردا بين شريعة وحقيقة. أو تقول بين تشريع وتحقيق، فقد يشرعان في موضع ويحققان في آخر في ذلك الشيء بعينه، وقد يحققان في موضع ويشرعان فيه في آخر، وقد يشرع القرآن في موضع وتحققه السنة، وقد تشرع السنة في موضع ويحققه القرآن، فالرسول عليه السلام مبين لما أنزل الله قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" فقوله تعالى: "ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون" هذا تشريع لأهل الحكمة وهم أهل الشريعة وقوله صلى الله عليه وسلم لن يدخل أحدكم الجنة بعمله هذا تحقيق لأهل القدرة وهم أهل الحقيقة كما أن قوله تعالى: "وما تشاؤن إلا أن يشاء الله" تحقيق. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا هم أحدكم بحسنة كتبت له حسنة" تشريع.
والحاصل أن القرآن تقيده السنة والسنة يقيدها القرآن، فالواجب على الإنسان أن تكون له عينان إحداهما تنظر إلى الحقيقة، والأخرى تنظر إلى الشريعة، فإذا وجد القرآن قد شرع في موضع فلا بد أن يكون قد حقق في موضع آخر أو تحققه السنة، وأذا وجد السنة قد شرعت في موضع فلا بد أن تكون قد حققت في موضع آخر أو حققها القرآن، ولا تعارض حينئذ بين الآية والحديث ولا إشكال.
وهنا جواب آخر: وهو أن الله تعالى لما دعا الناس إلى التوحيد والطاعة على أنهم لا يدخلون فيه من غير طمع فوعدهم بالجزاء على العمل، فلما رسخت أقدامهم في الإسلام أخرجهم عليه الصلاة والسلام من ذلك الحرف ورقاهم إلى إخلاص العبودية والتحقق بمقام الإخلاص، فقال لهم "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" والله تعالى أعلم. وهنا أجوبة لأهل الظاهر لا تجدي شيئاً.
(إرادتُك التَجْرِيد مع إقامِة اللّه إيَّاك فى الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامَةِ اللّه إيَّاك فى التجْريِد انحِطاطٌ عن الهِمَّة العَلِيَّة).
التجريد في اللغة: هو التكشيط والإزالة، تقول جردت الثوب، أزلته عني. أما التجريد عند الصوفية فهو على ثلاثة أقسام: تجريد الظاهر فقط، أو الباطن فقط، أو هما معاً. فتجريد الظاهر: هو ترك الأسباب الدنيوية، وخرق العوائد الجسمانية، والتجريد الباطني: هو ترك العلائق النفسانية، والعوائق الوهمية. وتجريدهما معاً: هو ترك العلائق الباطنية، والعوائد الجسمانية.
أو تقول تجريد الظاهر: هو ترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله، وتجريد الباطن هو ترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله، وتجريدهما هو إفراد القلب والقالب لله. والتجريد الكامل في الظاهر: هو ترك الأسباب، وتعرية البدن من معتاد الثياب. وفي الباطن هو تجريد القلب من كل وصف ذميم، وتحليته بكل وصف كريم.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي اله عنه: آداب الفقير المتجرد أربعة: الحرمة للأكابر، والرحمة للأصاغر، والإنصاف من نفسك، وعدم الإنتصار لها.
وآداب الفقير المتسبب أربعة: موالاة الأبرار، ومجانية الفجار، وإيقاع الصلاة في الجماعة، ومواساة الفقراء والمساكين بما يفتح عليه. وينبغي له أيضاً أن يتأدب بآداب المتجردين، إذ هو كمال في حقه.
ومن آداب المتسبب إقامته فيما أقامه الحق تعالى فيه من فعل الأسباب، حتى يكون الحق تعالى هو الذي ينقله منها على لسان شيخه إن كان، أو بإشارة واضحة كتعذرها من كل وجه، فحينئذ ينتقل للتجريد. فإرادته التجريد مع إقامته تعالى له في الأسباب الشهوة الخفية، لأن النفس قد تقصد بذلك الراحة ولم يكن لها من اليقين ما تحمل به مشاق الفاقة. فإذا نزلت واضطربت ورجعت إلى الأسباب فيكون أقبح لها من الإقامة فيها، فهذا وجه كونها شهوة، وإنما كانت خفية لأنها في الظاهر أظهرت الانقطاع والتبتل، وهو مقام شريف، وحال منيف، لكنها في الباطن أخفت حظها من قصد الراحة أو الكرامة أو الولاية أو غير ذلك من الحروف، ولم تقصد تحقيق العبودية وتربية اليقين، وحال منيف، لكنها في الباطن أخفت حظها من قصد الراحة أو الكرامة أو الولاية أو غير ذلك من الحروف، ولم تقصد تحقيق العبودية وتربية اليقين، وفاتها أيضاً الأدب مع الحق حيث أرادت الخروج بنفسها ولم تصبر حتى يؤذن لها. وعلامة لإقامتها فيها دوامها له مع حصول النتائج، وعدم العوائق القاطعة له عن الدين. وحصول الكفاية بحيث إذا تركها حصل له التشوف إلى الخلق والاهتمام بالرزق، فإذا انخرمت هذه الشروط انتقل إلى التجريد.
وأما المتجرد إذا أراد الرجوع إلى الأسباب من غير إذن صريح فهو انحطاط من الهمة العلية إلى الهمة الدنية، أو سقوط من الولاية الكبرى إلى الولاية الصغرى. قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: قال لي شيخي سيدي العربي: يا ولدي لو رأيت شيئاً أعلى من التجريد وأقرب وأنفع لأخبرتك به، ولكن هو عند أهل هذه الطريقة بمنزلة الإكسير الذي قيراط منه يغلب ما بين الخافقين ذهبا كذلك التجريد في هذه الطريق اه.
وسمعت شيخ شيخنا رضي الله عنه: يقول معرفة المتجرد أفضل وفكرته أنصع، لأن الصفا من الصفاء والكدر من الكدر، صفاء الباطن من صفاء الظاهر، وكدر الباطن من كدر الظاهر، وكلما زاد في الحس نقص في المعنى.
وفي بعض الأخبار: إذا أخذ العالم شيئاً من الدنيا نقصت درجته عند الله وإن كان كريماً على الله، وأما من إذن له في السبب فهو كالمتجرد إذ صار حينئذ سببه عبودية.
والحاصل أن التجريد من غير أذن سبب، والسبب مع الإذن تجريد وبالله التوفيق.
تنبيه هذا الكلام كله مع السائرين، وأما الواصلون المتمكنون فلا كلام عليهم، إذ هم رضي الله عنهم مأخوذون عن أنفسهم، يقبضون من الله ويدفعون بالله، قد تولى الحق تعالى أمورهم، وحفظ أسرارهم، وحرس قلوبهم بجنود الأنوار، فلا تؤثر فيها ظلم الأغيار، وعليه يحمل حال الصحابة في الأسباب رضي اله عنهم ونفعنا ببركاتهم آمين.
واعلم إن المتسبب والمتجرد عاملان لله، إذ كل واحد منهما حصل له صدق التوجه إلى الله تعالى.حتى قال بعضهم: مثل المتجرد والمتسبب كعبدين للملك، قال لأحدهما اعمل وكل، وقال للآخر إلزم أنت حضرتي وأنا أقوم لك بقسمتي، ولكن صدق التوجه في المتجرد أقوى لقلة عوائقه وقطع علائقه كما هو معلوم. ولما كانت همة الفقير المتجرد لا تخطيء في الغالب، لقوله عليه السلام: "إن لله رجالاً لو أقسموا على الله لأبرهم في قسمهم". قال شيخنا: ولله رجال إذا إهتموا بالشيء كان بإذن الله. وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله".
(سَوَابِقُ الهِمَمِ لا تخْرِقُ أسْوِاَر الأقَدَار)
السوابق: جمع سابقة، وهي المتقدمة. والهمم جمع همة، والهمة: قوة انبعاث القلب في طلب الشيء والاهتمام به، فإن كان ذلك الأمر رفيعاً كمعرفة الله وطلب رضاه سيمت همة عالية، وإن كان أمراً خسيساً كطلب الدنيا وحظوظها سميت همة دنية، وسوابق الهمم من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي الهمم السوابق لا تخرق أسوار الأقدار: أي إذا اهتم العارف أو المريد بشيء وقويت همته بذلك، فإن الله تعالى يكون ذلك بقدرته في ساعة واحدة حتى يكون أمره بأمر الله. وفى الحديث الصحيح: (فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً، إن سألني أعطيته).
قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال بنقض العزائم.
قال تعالى:(وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله).
وقال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر).
وقال تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله).
وقال صلى الله عليه وسلم:(كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس).
أي النشاط للفعل، وأشعر قوله سوابق أن الهمم الضعيفة لا ينفعل لها شيء وهو كذلك في الخير والشر، وفي استعارته الخرق والأسوار ما يشعر بالقوة فى الجانبين، لكن الحاصر قاهر فلا عبرة بقوة العبد القاصر، وإذا كانت الهمة لا تخرق أسوار الأقدار فما بالك بالتدبير والاختيار.
(أرِحْ نَفْسَك من التدَبير، فما قام به غيرُك عنك لا تقُمْ به أنت لنفسك)
التدبير في اللغة: هو النظر في الأمور وأواخرها. وفي الاصطلاح: هو كما قال الشيخ زروق رضي الله عنه: تقدير شئون يكون عليها في المستقبل بما يخاف أو يرجى بالحكم لا بالتفويض، فإن كان مع تفويض وهو أخروي فنية خير، أو طبيعي فشهوة، أو دنيوي فأمنية.
فاقتضي كلامه أن التدبير على ثلاثة أقسام: قسم مذموم، وقسم مطلوب، وقسم مباح. فأما القسم المذموم: فهو الذي يصحبه الحزم والتصميم سواء كان دينياً أو دنيوياً لما فيه من قلة الأدب وما يتعجله لنفسه من التعب، إذ ما قام به الحي القيوم عنك لا تقوم به أنت عن نفسك، وغالب ما تدبره لنفسك لا تساعده رياح الأقدار، وتعقبه الهموم والأكدار، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الروح والراحة في الرضى واليقين)، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: (لا تختر من أمرك شيئاً، واختر أن لا تختار، وفر من فرارك، ومن كل شيء إلى الله تعالى. (وربك يخلق ما يشاء ويختار).
وقال أيضاً: إن كان ولا بد من التدبير فدبر أن لا تدبر، وقيل: من لم يدبر دبر له. وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: من أوصاف الولي الكامل أن لا يكون محتاجاً إلا إلى الحال الذي يقيمه مولاه في الوقت، يعني ما له مراد إلا ما يبرز من عنصر القدرة اه. فكلام هؤلاء السادات محمول على ما إذا كان بالنفس مع الجزم، وإما ما كان مع التفويض فليس بمذموم ما لم يطل.
أما القسم المطلوب، فهو تدبير ما كلفت به من الواجبات، وما ندبت إليه من الطاعات، مع تفويض المشيئة والنظر إلى القدرة، وهذا يسمى بالنية الصالحة. وقد قال عليه الصلاة والسلام:"نية المؤمن خير من عمله". وقال أيضاً حاكياً عن الله سبحانه: (إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة)، وهذا مفهوم قول الشيخ فما قام به غيرك، إذ ما لم يقم به عنك وهو الطاعة لا يضرك تدبير.
وأما القسم المباح: فهو التدبير في أمر دنيوي أو طبيعي، مع التفويض للمشيئة والنظر لما يبرز من القدرة، غير معول على شيء من ذلك، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (التدبير نصف العيش).
بشرط أن لا يردده المرة بعد المرة، فالقدر المباح منه هو مروره على القلب كالريح يدخل من طاق ويخرج من أخرى، وهذا هو التدبير بالله، وهو شأن العارفين المحققين. وعلامة كونه بالله أنه إذا برز من القدرة عكس ما دبر لم ينقبض ولم يضطرب.
( اجتهادُك فيما ضُمِنَ لك، وتَقْصيرك فيما طُلِبَ منك دَلِيلٌ على انطِمَاسِ البصيرة منك).
الاجتهاد في الشيء: استفراغ الجهد والطاقة في طلبه، والتقصير: هو التفريط والتضييع، والبصيرة ناظر القلب، كما أن البصر ناظر القالب، فالبصيرة لا ترى إلا المعاني، والبصر لا يرى إلا المحسوسات. أو تقول: البصيرة لا ترى إلا اللطيف، والبصر لا يرى إلا الكثيف. أو تقول البصيرة لا ترى إلا القديم، والبصر لا يرى إلا الحادث. أو تقول البصيرة لا ترى إلا المكون، والبصر لا يرى إلا الكون. فإذا أراد الله فتح بصيرة العبد أشغله في الظاهر بخدمته، وفي الباطن بمحبته فكلما عظمت المحبة في الباطن والخدمة في الظاهر قوى نور البصيرة من المعاني اللطيفة والأنوار القديمة. وإذا أراد الله خذلان عبده أشغله في الظاهر بخدمة الأكوان، وفي الباطن بمحبتها، فلا يزال كذلك حتى يطمس نور بصيرته، فسيتولى نور بصره على نور بصيرته، فلا يرى إلا الحس، ولا يخدم إلا الحس، فيجتهد في طلب ما هو مضمون من الرزق المقسوم ويقصر فيما هو مطلوب منه من الفرض المحتوم. ولو كان بدل الاجتهاد استغراقاً، وبدل التقصير تركاً لكان بدل الطمس عمى وهو الكفر والعياذ بالله. لأن الدنيا كنهر طالوت ولا ينجو منها إلا من لم يشرب أو اغترف غرفة بيده لا من شرب على قدر عطشه فافهم.
(لا يَكُنْ تأخرُ أمَدِ العطاء مع الإلْحاح فى الدعاء مُوجِباً ليأسك، فهوَ ضَمَنَ لك الإجابة فيما يختار لك لا فيما تختار لنفسك، وفى الوقت الذى يُرِيُد لا في الوقت الذي تريد).
الإلحاح في الشيء هو تكرره من وجه واحد، والدعاء: طلب مصحوب بأدب في بساط العبودية لجناب الربوبية، والموجب للشيء ما كان أصلاً في وجوده، واليأس قطع المطامع.
اعلم أن من أسمائه تعالى القيوم، وهو مبالغة في القيام، فقد قام تعالى بأمر خلقه من عرشه إلى فرشه، وعين لكل مظهر وقتاً محدوداً وأجلاً معلوماً، ولكل واحد شكلاً معلوماً ورزقاً مقسوماً. "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". فإذا تعلق قلبك بحاجة من حوائج الدنيا والآخرة، فارجع إلى وعد الله، واقنع بعلم الله، ولا تحرص، ففي الحرص تعب ومذلة. وإن كان ولابد من الدعاء فليكن دعاؤك عبودية لا طلباً للحظ، فإذا تركت الحظوظ صبت عليك الحظوظ، وإن غلب عليك وارد الطلب وطلبت شيئاً ثم تأخر عنك وقت العطاء فيه، فلا تتهم الله في وعده حيث قال: "ادعوني استجب لكم". ولا تيأس من نواله ورفده، فإن الله قد ضمن لك الإجابة فيما يريد من خير الدنيا وخير الآخرة، وقد يمنعك لطفاًً بك لكون ذلك المطلب لا يليق بك. كما قال الشيخ أبو الحسن: اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم، فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم.
واعلم أن النفس والعقل والروح والسر شيء واحد، لكن تختلف التسامي باختلاف المدراك، فما كان من مدارك الشهوات فمدركه النفس، وما كان من مدارك الأحكام الشرعية فمدركه العقل، وما كان من مدراك التجليات والواردات فمدركه الروح، وما كان من مدارك التحقيقات والتمكنات فمدركه السر والمحل واحد، وإخماد الشيء خفاؤه بعد ظهوره.
إذا وعدك الحق تعالى بشيء على لسان الوحي أو الإلهام من نبي أو ولي أو تجل قوي فلا تشك أيها المريد في ذلك الوعد إن كنت صديقاً، فإن لم يتعين زمنه فالأمر واسع، وقد يطول الزمان وقد يقصر، فلا تشك في وقوعه وإن طال زمنه، وقد كان بين دعاء سيدنا موسى وهارون على فرعون بقوله: "ربنا أطمس على أموالهم" الآية. أربعون سنة على ما قيل، وإن تعين زمنه ولم يقع ذلك عند حلوله فلا تشك في صدق ذلك الوعد، فقد يكون ذلك مترتباً على أسباب وشروط غيبية أخفاها الله تعالى عن ذلك النبي أو الولي لتظهر قهريته وعزته وحكمته.
(إذا فَتَحَ لك وُجْهَةً من التَّعَرُّفِ فلا تُبَالِ معها إن قَلَّ عملُكَ، فإنه ما فتحها لك إلاَّ وهو يريد أن يتعرف إليك، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك والأعمال أنت مهديها إليه؟ وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك).
فتح هنا: بمعنى هيأ ويسر، والغالب إستعماله في الخير، فأشعر الإتيان به هنا أن جهة التعريف من الأمور الجميلة، والوجهة: هي الجهة، والمراد هنا الباب والمدخل. والتعرف: طلب المعرفة، تقول تعرف لي فلان: إذا طلب مني معرفته، والمعرفة: تمكن حقيقة العلم بالمعروف من القلب حتى لا يمكن الإنفكاك عنه بحال، والمبالاة التهمم بفوات الشيء.
إذا تجلى لك الحق تعالى باسمه الجليل أو باسمه القهار وفتح لك منها باباً ووجهة لتعرفه منها، فاعلم أن الله تعالى قد اعتنى بك وأراد أن يجتبيك لقربه ويصطفيك لحضرته، فالتزم الأدب معه بالرضى والتسليم، وقابله بالفرح والسرور. ولا تبال بما يفوتك بها معها من الأعمال البدنية، فإنما هي وسيلة للأعمال القلبية، فإنه ما فتح هذا الباب إلا وهو يريد أن يرفع بينك وبينه الحجاب. ألم تعلم أن التعرفات الجلالية هو الذي أوردها عليك لتكون عليه وارداً، والأعمال البدنية أنت مهديها إليه لتكون إليه بها واصلاً، وفرق كبير بين ما تهديه أنت من الأعمال المدخولة والأحوال المعلومة، وبين ما يورده عليك الحق تعالى من تحف المعارف الربانية والعلوم اللدنية. فطب نفساً أيها المريد بما ينزل عليك من هذه التعرفات الجلالية والنوازل القهرية، ومثل ذلك كالأمراض والأوجاع والشدائد والأهوال، وكل ما يثقل على النفس ويؤلمها كالفقر والذل وأذية الخلق وغير ذلك مما تكرهه النفوس، فكل ما ينزل بك من هذه الأمور فهي نعم كبيرة ومواهب غزيرة تدل على قوة صدقك، إذ بقدر ما يعظم الصدق يعظم التعرف.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشدكم بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل".
وإذا أردا الله أن يطوى مسافة البعد بينه وبين عبده سلط عليه البلاء حتى إذا تخلص وتشحر صلح للحضرة كما تصفى الفضة والذهب بالنار لتصلح لخزانة الملك، ومازال الشيوخ والعارفون يفرحون بهذه النوازل ويستعدون لها في كسب المواهب.
واعلم أن كل هذه التعرفات الجلالية هي اختبار من الحق ومعيار للناس، وبها تعرف الفضة والذهب من النحاس، فكثير من المدعين يظهرون على ألسنتهم المعرفة واليقين، فإذا وردت عليهم عواصف رياح الأقدار ألقتهم في مهاوي القنط والإنكار. من ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.
فائدة: إذا أردت أن يسهل عليك الجلال فقابله بضده وهو الجمال فإنه ينقلب جمالاً في ساعته. وكيفية ذلك: أنه إذا تجلى بإسمه القابض في الظاهر فقابله أنت بالبسط في الباطن فإنه ينقلب بسطاً، وإذا تجلى لك بإسمه القوي فقابله أنت بالضعف، أو تجلي بإسمه العزيز فقابله بالذل في الباطن، وهكذا يقابل الشيء بضده قياماً بالقدرة والحكمة. وكان شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول: ما هي إلا حقيقة واحدة إن شربتها عسلاً وجدتها عسلاً، وإن شربتها لبناً وجدتها لبناً، وإن شربتها حنظلاً وجدتها حنظلاً، فاشرب يا أخي المليح ولا تشرب القبيح اه. ومعنى كلامه رضي الله عنه هو كما تقدم: كما تقابله يقابلك والله تعالى أعلم.
(تَنَوَّعَتْ أجنْاسُ الأعمال بتنوع وارِداتِ الأحوال)
تنوع الشيء: تكثيره، والأعمال هنا عبارة عن حركة الجسم، والواردات والأحوال عبارة عن حركة القلب، فالخاطر والوارد والحال محلها واحد وهو القلب. لكن ما دام القلب تخطر فيه الخواطر الظلمانية والنورانية سمي ما يخطر فيه خاطراً، وإن انقطعت عنه الخواطر الظلمانية سمي ما يخطر فيه وارداً أو حالاً، فإضافة أحدهما إلى الآخر إضافة بيانية وكلاهما يتحولان، فإن دام ذلك سمي مقاماً.
قد تنوعت أجناس الأعمال الظاهرة بتنوع الأحوال الباطنية. أو تقول: أعمال الجوارح تابعة لأحوال القلوب، فإن ورد على القلب قبض ظهر على الجوارح أثره من السكون، وإن ورد عليه بسط ظهر على الجوارح أثره من الخفة والحركة، وإن ورد على القلب زهد ظهر على الجوارح أثره وهو ترك وإحجام أى تأخر، وإن ورد على القلب رغبة وحرص ظهر على الجوارح أثره وهو كد وتعب، وإن ورد على القلب محبة وشوق ظهر على الجوارح أثره وهو شطح ورقص، وإن ورد على القلب معرفة وشهود ظهر على الجوارح أثره وهو راحة وركود، إلى غير ذلك من الأحوال وما ينشأ عنها من الأعمال. وقد تختلف هذه الأحوال على قلب واحد فيتلون الظاهر في أعماله، وقد يغلب على قلب واحد حال واحد فيظهر عليه أثر واحد، فقد يغلب على الشخص القبض فيكون مقبوضاً في الغالب، وقد يغلب عليه البسط كذلك إلى غير ذلك من الأحوال.
قاعدة: النسك الأخذ بكل مسلك من الفضائل من غير مراعاة لغير ذلك، فإن رام التحقيق في ذلك: أي النسك فهو العابد، وإن مال للأخذ بالإحوال فهو الورع، وإن آثر جانب الترك طالباً للسلامة فهو الزاهد، وأن أرسل نفسه في مراد الحق فهو العارف، وإن أخذ بالتخلق والتعلق فهو المريد اه.
وقال في قاعدة أخرى: لا يلزم من إختلاف المسالك إختلاف المقاصد، بل يكون متحداً مع إختلاف مسالكه كالعبادة والزهادة والمعرفة مسالك لقرب الحق على سبيل الكرامة وكلها متداخلة، فلا بد للعارف من عبادة وإلا فلا عبرة بمعرفته إذ لم يعبد معروفه، ولا بد له من زهادة وإلا فلا حقيقة عنده إذ لم يعرض عما سواه، ولا بد للعابد منهما إذ لا عبادة إلا بمعرفة: أي في الجملة، ولا فراغ للعبادة إلا بزهد والزاهد كذلك إذ لا زهد إلا بمعرفة أي في الجملة، ولا زهد إلا بعبادة والأعاد بطالة. نعم من غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد، أو النظر لتصريف الحق العارف، والكل صوفية، والله أعلم اه.
(الأعْمالُ صَوَرٌ قائِمةٌ، وأرواحهُا وجود سِرِّ الإخلاص فيها)
الأعمال هنا: عبارة عن الحركة الجسمانية أو القلبية، والصور: جمع صورة، وهو ما يتشخص في الذهن من الكيفيات. والروح: السر المودع في الحيوانات، وهو هنا عبارة عما يقع به الكمال المعتبر في الأعمال. والإخلاص: إفراد القلب لعبادة الرب، وسره لبه، وهو الصدق المعبر عنه بالتبرى من الحول والقوة، إذ الإخلاص نفي الرياء والشرك الخفي، وسره: نفي العجب وملاحظة النفس، والرياء قادح في صحة العمل، والعجب قادح في كماله فقط.
الأعمال كلها أشباح وأجساد، وأرواحها وجود الإخلاص فيها، فكما لا قيام للأشباح إلا بالأرواح وإلا كانت ميتة ساقطة، كذلك لا قيام للأعمال البدنية والقلبية إلا بوجود الإخلاص فيها، وإلا كانت صور قائمة وأشباحاً خاوية لا عبرة بها، قال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء" وقال تعالى:"فاعبد الله مخلصاً له الدين".
والإخلاص على ثلاث درجات: درجة العوام، والخواص، وخواص الخواص. فإخلاص العوام: هو إخراج الخلق من معاملة الحق مع طلب الحظوظ الدنيوية والأخروية كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور، وإخلاص الخواص: طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية، وإخلاص خواص الخواص إخراج الحظوظ بالكلية. فعبادتهم تحقيق العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، أو محبة وشوقاً إلي رؤيته.
قال الشيخ أبو طالب رضي الله عنه: الإخلاص عند المخلصين إخراج الخلق من معاملة الحق، وأول الخلق النفس، والإخلاص عند المحبين: أن لا يعملوا عملاً لأجل النفس وإلا دخل عليها مطالعة العوض أو الميل إلى حظ النفس. والإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال، وعدم السكون والإستراحة إليهم في الأحوال. وقال بعض المشايخ: صحح عملك بالإخلاص وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة اه. وقال بعض العارفين: لا يتحقق الإخلاص حتى يسقط من عين الناس ويسقط الناس من عينه. ولذلك قال آخر: كلما سقطت من عين الخلق عظمت في عين الحق، وكلما عظمت في عين الخلق سقطت من عين الحق، يعني مع ملاحظتهم ومراقبتهم. وسمعت شيخناً يقول ما دام العبد يراقب الناس ويهابهم لا يتحقق إخلاصه أبداً. وقال أيضاً: لا تجتمع مراقبة الحق مع مراقبة الخلق أبداً، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه اه.
والحاصل لا يمكن الخروج من النفس والتخلص من دقائق الرياء من غير شيخ أبداً والله تعالى أعلم.
(ادْفِنْ وُجُودَك في أرْضِ الخُمُولِ، فَمَا نَبَتَ مما لم يُدْفَنْ لا يتم نتَاجُه).
الدفن: هو التغطية والستر، والخمول: سقوط المنزلة عند الناس، ونتاج الشجرة: ثمرتها، استعير هنا للحكم والمواهب والعلوم التي يجتنيها العبد من المعرفة بالله، وذلك عند موت نفسه وحياة روحه.
استر نفسك أيها المريد وادفنها في أرض الخمول حتى تستأنس به وتستحليه، ويكون عندها أحلى من العسل، ويصير الظهور عندها أمر من الحنظل، فإذا دفنتها في أرض الخمول وامتدت عروقها فيه، فحينئذ تجني ثمرتها ويتم لك نتاجها، وهو سر الإخلاص والتحقق بمقام خواص الخواص. وأما إذا لم تدفنها في أرض الخمول وتركتها على ظهر الشهرة تجول، ماتت شجرتها أو سقطت ثمرتها، فإذا جني العارفون ما غرسوه من جنات معارفهم من العلوم، وما دفنوه من كنوز الحكم ومخازن الفهوم بقيت أنت فقيراً سائلاً أو سارقاً صائلاً.
وقال بعض العارفين: كلما دفنت نفسك أرضاً أرضاً سماً قلبك سماء سماء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبوا عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره في قسمه".
وبجب على من ابتلى بالجاه والرياسة أن يستعمل من الخراب ما يسقط به جاهه وإن كان مكروهاً دون الحرام المتفق عليه بقصد الدواء، كالسؤال في الحوانيت أو الديار، والأكل في السوق وحيث يراه الناس، وكالرقاد فيه، وكالسقي بالقربة، وحمل الزبل على الرأس بوقاية، وكالمشي بالحفاء، وإظهار الحرص والبخل والشح، وكلبس المرقعة، وتعليق السبحة الكبيرة، وكل ما يثقل على النفس من المباح أو المكروه دون الحرام.
قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وكما لا يصلح دفن الزرع في أرض رديئة لا يجوز الخمول بحالة غير مرضية. وقياس ذلك بالغصة لا يصح، لأن فوت الحياة الحسية مانع من كل خير واجباً ومندوباً، وتفويتها مع إمكان إبقائها محرم إجماعاً، لقوله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". بخلاف الخمول لا يفوت به شيء من ذلك، إنما يفوت به الكمال، وهو نفي الجاه والمنزلة، وأصله الإباحة اه. وأجاب بعضهم بأنه إذا حاز لفوت الحياة الفانية، فأولى أن يجوز لفوت الحياة الدائمة وهي المعرفة فتأمله. ولقد سمعت شيخناً رضي الله عنه يقول: الفقير الصديق يقتل نفسه بأدنى شيء من المباح، والفقير الكذاب يقع في المحرم ولا يقتلها، وكان كثيراً ما ينهي عن الأحوال الظلمانية ويقول: عندنا من المباح ما يغنينا عن المحرم والمكروه.
وأما السؤال فإنما هو مكروه أو حرام، لقصد قوت الأشباح مع الكفاية، وأما لقصد قوت الأرواح فليس بحرام. وقد ذكر القسطلاني في شرح البخاري عن ابن العربي الفقير، أنه واجب على الفقير في بدايته فانظره. وقد ذكره في المباحث الأصلية مستوفي فانظره
فإن قلت هذا الخراب الذي ذكرت فيه شهرة أيضاً، إذ الخمول هو الخفاء عن أعين الناس وهذا فيه ظهور كبير. قلت:الخمول هو إسقاط المنزلة عند الناس وكتمان سر الولاية، وكل ما يسقط المنزلة عندهم وينفي تهمة الولاية فهو خمول، وإن كان في الحس ظهوراً، والظهور في الخمول.
(ما نفع القَلْبَ شيء مثلُ عُزلةٍ يدخل بها ميدان فكرة).
النفع إيصال الفائدة، والقلب: القوة المستعدة لقبول العلم، والعزلة: انفراد القلب بالله، وقد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس وهو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب في الغالب إلا إذا انفرد القالب، وميدان: مجال الخيل استعيرها هنا للأفكار، إذ ترددها في مواقعها كتردد الخيل في مجالها، والفكرة: سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان.
لا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحمية والفكرة كالدواء فلا ينفع الدواء من غير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء. فلا خير في عزلة لا فكرة فيها، ولا نهوض لفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفرغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جولان القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكر تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه. وغاية صحته وهو الذي سماه الله القلب السليم.
قال تعالى في شأن القيامة: "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم".
واعلم أن في الخلوة عشر فوائد:
الأولى: السلامة من آفات اللسان، فإن من كان وحده لا يجد معه من يتكلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "رحم الله عبداً سكت فسلم، أو تكلم فغنم".
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: إذا رأيت الفقير يؤثر الخلوة على الإجتماع، والصمت على الكلام، والصيام على الشبع، فأعلم أن حبجه قد عسل، وإذا رأيته يؤثر الخلطة والكلام والشبع على ضدها، فأعلم أن حبجه خاوي. وقال في القوت: وفي كثرة الكلام: قلة الورع، وعدم التقوى، وطول الحساب، ونشر الكتاب، وكثرة الطالبين، وتعلق المظلومين بالظالمين، وكثرة الأشهاد من الكرام الكاتبين، ودوام الإعراض عن الملك الكريم، لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان، وفيه الكذب، وفيه الغيبة والنميمة، والزور والبهتان، ثم قال: وفي الخبر أكثر خطاياً ابن آدم في لسانه، وأكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم خوضاً في مالاً يعني اه.
الفائدة الثانية: حفظ البصر، والسلامة من أفات النظر، فإن من كان معزولاً عن الناس سلم من النظر إليهم وإلى ما هم منكبون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها. قال تعالى: "ولا تمدن عينيك إلي ما متعنا به أزواجاُ منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه".
فتمنع بذلك النفس من التطلع إليها والإستشراف لها ومنافسة أهلها. وقال محمد بن سيرين رضي الله عنه: إياك وفضول النظر فإنها تؤدي إلى فضول الشهوة. وقال بعض الأدباء: من كثرت لحظاته دامت حسراته. وقالوا: إن العين سبب الحين: أي الهلاك. ومن أرسل طرفه أقتنص حتفه، وإن النظر بالبصر إلى الأشياء يوجب تفرقة القلب اه.
الفائدة الثالثة: حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض.
قال بعض الحكماء: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راءاهم، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا فهلك كما هلكوا. وقال بعض الصوفية: قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة. قلت: لا بد لي، قال: فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي، قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذا لعله يكون. قال: يا هذا تنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطالين، وتسكن إلى الهالكين وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع غير الله. هيهات، هذا لا يكون أبداً، ثم غاب عني.
وقال القشيري: فأرباب المجاهدة إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الرديئة لم ينظروا إلى المستحسنات أي من الدنيا، قال وهذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضة.
الفائدة الرابعة: حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله، وسبب محبته عند مولاه. لقوله صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس".
ولا شك أن من انفرد عن الناس ولم ينظر إلى ما هم فيه من الرغبة في الدنيا والإنكباب عليها، يسلم من متابعتهم في ذلك ويسلم من متابعة الطباع الرديئة والأخلاق الدنيئة، وقل من يخالطهم أن يسلم من ما هم فيه.
الفائدة الخامسة: السلامة من صحبة الأشرار، ومخالطة الأرزال، وفي مخالطتهم فساد عظيم وخطر جسيم.
ففي بعض الأخبار: مثل الجليس السوء كمثل الكير إذا لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه. وقال سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه: الجلسة مع غير الأخيار ترذل ولو تكون صافياً.
أوحى الله تعالى إلى داوود عليه السلام: يا داوود مالي أراك منتبذاً وحدانياً فقال: إلهي قليت الخلق من أجلك، فقال يا داوود كن يقظان، وارتد لنفسك إخواناً، وكل أخ لا يوافقك على مسرتي فلا تصحبه، فإنه لك عدو يقسي قلبك ويباعدك مني اه.
فإن أردت الصحبة فعليك بصحبة الصوفية، فإن صحبتهم كنز لا نفاد له. قال الجنيد رضي الله عنه: إذا أراد الله بعبد خيراً أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء. وقال آخر: والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح.
الفائدة السادسة: التفرغ للعبادة والذكر والعزم على التقوى والبر، ولا شك أن العبد إذا كان وحده تفرغ لعبادة ربه وانجمع عليها بجوارحه وقلبه لقلة من يشغله عن ذلك. قال في القوت: وأما الخلوة فأنها تفرغ القلب من الخلق، وتجمع الهم بالخالق، وتقوي العزم على الثبات ألخ كلامه.
الفائدة السابعة: وجدان حلاوة الطاعات، وتمكن لذيذ المناجاة لفراغ سره. قال أبو طالب: ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما يجده في العلانية، وحتى يكون أنسه في الوحدة وروحه في الخلوة، وأحسن أعماله في السر.
الفائدة الثامنة: راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب بالاهتمام بأمرهم ، وتعب البدن بالسعي في أغراضهم، وتكميل مرادهم وإن كان في ذلك الثواب، فقد يفوته ما هو أعظم وأهم، وهو جمع القلب في حضرة الرب.
الفائدة التاسعة: صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة، فإن للنفس تولعاً وتسارعاً للخوض في مثل هذا إذا اجتمعت بأرباب الدنيا وزاحمتهم فيها.
الفائدة العاشرة : التمكن من عبادة التفكر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة. وفي الخبر: تفكر ساعة خير من عبادة سبعين ساعة.
وكان عيسى عليه السلام يقول: طوبي لمن كان كلامه ذكراً، وصمته تفكراً، ونظره عبرة، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
وقال كعب: من أراد شرف الآخرة فليكثر من التفكر. وكان أفضل عبادة أبي الدرداء التفكر، وذلك لأنه يصل به إلى حقائق الأشياء وتبيين الحق من الباطل، ويطلع بها أيضاً على خفايا آفات النفوس ومكائدها وغرور الدنيا ويتعرف بها وجوه الحيل في التحرز عنها والطهارة منها.
(كيف يُشْرِقُ قَلْبٌ صور الأكوانُ منطبعةٌ في مِرْآتِه؟).
يشرق: أي يستنير ويضيء، وصور الأكوان: أشخاصها وتماثيلها الحسية والمعنوية، والأكوان: أنواع المخلوقات دقت أو جلت، ومنطبعة: أي ثابتة. وأنطبع الشيء في الشيء: ظهر أثره فيه، والمرآة بكسر الميم: آلة صقيلة ينطبع فيها ما يقابلها، فكلما قوى صقلها قوى ظهور ما يقابلها فيها، واستعيرت هنا للبصيرة التي هي عين القلب التي تتجلى فيها الأشياء حسنها وقبيحها.
جعل الله قلب الإنسان كالمرآة الصقيلة ينطبع فيها كل ما يقابلها وليس لها إلا وجهة واحدة، فإذا أراد الله عنايته بعبد شغل فكرته بأنوار ملكوته وأسرار جبروته، ولم يعلق قلبه بمحبة شيء من الأكوان الظلمانية والخيالات الوهمية، فانطبعت في مرآة قلبه أنوار الإيمان والإحسان، وأشرقت فيها أقمار التوحيد وشموس العرفان.
وإذا أراد الله تعالى خذلان عبد بعدله وحكمته أشغل فكرته بالأكوان الظلمانية والشهوات الجسمانية، فأنطبعت تلك الأكوان في مرآة قلبه، فأنحجب بظلماتها الكونية وصورها الخيالية عن أشراق شموس العرفان وأنوار الإيمان. فكلما تراكمت فيها صور الأشياء إنطمس نورها واشتد حجابها، فلا ترى إلا الحس ولا تتفكر إلا في الحس، فمنها ما يشتد حجابها، وينطمس نورها بالكلية، فتنكر وجود النور من أصله، وهو مقام الكفر والعياذ بالله. ومنها ما يقل صداها ويرق حجابها، فتقر بالنور ولا يشاهده، وهو مقام عوام المسلمين، وهم متفاوتون في القرب والبعد وقوة الدليل وضعفه، كل على قدر يقينه، وقلة تعلقاته الدنيوية، وعوائقه الشهوانية، وخيالاته الوهمية.
وفي الحديث "إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وإن الإيمان كما يخلق الثوب الجديد" الحديث. وفي حديث آخر" لكل شيء مصقلة ومصقلة القلوب ذكر الله". وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر صقلت، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله". "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" أو كما قال عليهالصلاة والسلام.
وإذا علمت أن القلب ليس له إلا وجهة واحدة، إذا قابلها النور أشرقت، وإذا قابلتها الظلمة أظلمت، ولا تجتمع الظلمة والنور أبداً علمت وجه تعجب الشيخ بقوله: كيف يشرق قلب بنور الإيمان والإحسان وصور الأكوان الظلمانية منطبعة في مرآة قلبه؟ فالضدان لا يجتمعان. قال الله تعالى: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه". فما لك أيها الفقير إلا قلب واحد، إذا أقبلت على الخلق أدبرت عن الحق، وإذا أقبلت على الحق أدبرت عن الخلق، فترحل من عالم الملك إلى الملكوت، ومن الملكوت إلى الجبروت، وما دمت مقيداً في هذا العالم بشهواتك وعوائدك فلا يمكنك الرحيل إلى ربك.
(أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟)
الرحيل هو النهوض والإنتقال من وطن إلى وطن. وهو هنا من نظر الكون إلى شهود المكون، أو من الملك إلى الملكوت، أو من الوقوف مع الأسباب إلى رؤية مسبب الأسباب، أو من وطن الغفلة إلى اليقظة، أو من حظوظ النفس إلى حقوق الله، أو من عالم الأكدار إلى عالم الصفا، أو من رؤية الحس إلى شهود المعنى، أو من الجهل إلى المعرفة، أو من علم اليقين إلى عين اليقين، أو من عين اليقين إلى حق اليقين، أو من المراقبة إلى المشاهدة، أو من مقام السائرين إلى وطن المتمكنين. والمكبل هو المقيد، والمراد بالشهوات كل ما تشتهيه النفس وتميل إليه.
الرحيل مع التكبيل لا يجتمعان، فما دام القلب محبوساً بالميل إلى شيء من هذا العرض الفاني ولو كان مباحاً في الشرع فهو مقيد به ومكبل في وطنه، فلا يرحل إلي الملكوت، ولا تشرق عليه أنوار الجبروت، فتعلق القلب بالشهوات مانع له من النهوض إلي الله لاشتغاله بالالتفات إليها، وعلى تقدير النهوض معها تكون مثبطة له عن الإسراع بالميل إليها، وعلى تقدير الإسراع، فلا يأمن العثار لأنس النفس بها، ولذلك ترك الأكابر لذتها.
قال الشيخ زروق رضي الله عنه: قلت هذا إن تعلق القلب بطلبها قبل حصولها وإلا فلا، لعدم تعلق القلب بها. وقد تقدم في حقيقة التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة. وكان شيخناً رضي الله عنه يقول: إن شئتم أن نقسم لكم لا يدخل عالم الملكوت من في قلبه علقة اه.
(أم كيف يطمع أن يدخل حضرةَ اللّه وهو لَمْ يَتَطَهَّرْ من جَنَابة غفلاته؟)
الحضرة: هي حضور القلب مع الرب. وهي مقسمة على ثلاثة أقسام: حضرة القلوب، وحضرة الأرواح، وحضرة الأسرار. فحضرة القلوب للسائرين. وحضرة الأرواح للمستشرفين، وحضرة الأسرار للمتمكنين. أو تقول: حضرة القلوب لأهل المراقبة، وحضرة الأرواح لأهل المشاهدة، وحضرة الأسرار لأهل المكالمة. وسر ذلك أن الروح ما دامت تتقلب بين الغفلة والحضرة كانت في حضرة القلوب، فإذا استراحت بالوصال سميت روحاً وكانت في حضرة الأرواح، وإذا تمكنت وتصفت وصارت سراً من أسرار الله سميت سراً وكانت في حضرة الأسرار.
الحضرة مقدسة منزهة مرفعة لا يدخلها إلا المطهرون، فحرام على القلب الجنب أن يدخل مسجداً الحضرة، وجنابة القلب غفلته عن ربه. قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا": أي لا تقربوا صلاة الحضرة وأنتم سكارى بحب الدنيا وشهود السوى، حتى تتيقظوا وتتدبروا ما تقولون في حضرة الملك، ولا جنباً من جماع الغفلة وشهود السوى حتى تتطهروا بماء الغيب.
(أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟)
الرجاء: تمنى الشيء مع السعي في أسبابه وإلا فهو أمنية، والفهم: حصول العلم بالمطلوب، ودقائق الأسرار غوامض التوحيد . والتوبة: الرجوع عن كل وصف ذميم إلى كل وصف حميد، وهذه توبة الخواص. والهفوات: جمع هفوة وهي الزلة والسقطة.
فهم دقائق الأسرار لا يكون أبداً مع وجود الإصرار، أو تقول: فهم غوامض التوحيد لا يكون إلا بقلب فريد، من لم يتب من هفواته ، ويتحرر من رق شهواته، فلا يطمع في فهم غوامض التوحيد، ولا يذوق أسرار أهل التفريد.
قال أحمد بن أبي الحواري: وسمعت شيخي أبا سليمان الداراني رضي الله عنه يقول: إذا اعتادت النفوس ترك الآثام، جالت في الملكوت ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علماً.
قال أحمد بن حنبل: صدقت يا أحمد وصدق شيخك، ما سمعت في الإسلام بحكاية أعجب إلى من هذه: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم".
وقيل للجنيد رضي الله: عنه كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال: بتوبة تزيل الإصرار، وخوف يقطع التسويف، ورجاء يبعث على مسالك العمل، وإهانة النفس بقربها من الأجل وبعدها من الأمل، فقيل له بماذا يصل إلى هذا؟ فقال: بقلب مفرد فيه توحيد مجرد اه.
فإذا إنفرد القلب بالله وتخلص مما سواه فهم دقائق التوحيد وغوامضه التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها ولا تفشى إلا لهم، وقليل ما هم، ومن أفشى شيئاً من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه وتعرض لقتل نفسه.
(الكَوْنُ كله ظُلْمَةٌ، وإنما أَنَاَرَهُ ظهورُ الحق فيه).
الكون ما كونته القدرة وأظهرته للعيان، والظلمة ضد النور وهي عدمية والنور وجودي، وأناره أي صيره نوراً، وظهور الحق تجليه.
الكون من حيث كونيته وظهور حسه كله ظلمة، لأنه حجاب لمن وقف مع ظاهره عن شهود ربه، ولأنه سحاب يغطي شمس المعاني لمن وقف مع ظاهر حس الأواني، وإليه أشار الششتري بقوله: لا تنظر إلى الأواني، وخض بحر المعاني، لعلك تراني، فصار الكون بهذا الإعتبار كله ظلمة، وإنما أناره تجلي الحق به وظهوره فيه، فمن نظر إلى ظاهر حسه رآه حساً ظلمانياً، ومن نقد إلى باطنه رآه نوراً ملكوتياً، قال الله تعالى "الله نور السموات والأرض".
فتحصل أن قول الشيخ الكون كله ظلمة إنما هو في حق أهل الحجاب، لإنطباع ظاهر صور الأكوان في مرآة قلوبهم. وأما أهل العرفان، فقد نفذت بصيرتهم إلى شهود الحق، فرأوا الكون نوراً فائضاً من بحر الجبروت، فصار الكون عندهم كله نوراً، قال الله تعالى: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" أي من نور ملكوته وأسرار جبروته، أو من أسرار المعاني القائمة بالأواني. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله احتجب عن أهل السماء كما احتجب عن أهل الأرض، وإن أهل الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه أنتم، وإنه ما حل في شيء ولا غاب عن شيء" اه.
وهذه المعاني إنما هي أذواق لا تدرك بالعقل ولا بنقل الأوراق، وإنما تدرك بصحبة أهل الأذواق فسلم ولا تنتقد.
ثم قسم الناس في شهود الخلق على ثلاثة أقسام: عموم، وخصوص، وخصوص الخصوص، فقال: (فمن رأى الكون ولم يشهد فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار) فأهل مقام البقاء يشهدون الحق بمجرد وقوع بصرهم على الكون، فهم يثبتون الأثر بالله ولا يشهدون بسواه، إلا أنهم لكمالهم يثبتون الواسطة والموسوطة، فهم يشهدون الحق بمجرد شهود الواسطة أو عندها بلا تقديم ولا تأخير ولا ظرفية ولا مظروف.
وقال الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه لأبي الحسن رضي الله عنه: "يا أبا الحسن حدد بصر الإيمان تجد الله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقرب هو وصفه، وبحيطة هي نعته ،وبعد عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب بالمسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وأمحق الكل بوصفه: الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو هو: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان" اه.
وقال بعضهم: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه ولم أره حديثاً، وإنما هو من قول بعض العارفين: فأهل السير من المريدين يشهدون الكون، ثم يشهدون المكون عنده. وبأثره فيمتحق الكون من نظرهم بمجرد نظرهم إليه وهذا حال المستشرفين. وأهل مقام الفناء يشهدون الحق قبل شهود الخلق بمعنى أنهم لا يرون الخلق أصلاً، إذ لا ثبوت له عندهم لأنهم لسكرتهم غائبون عن الواسطة. فانون عن الحكمة، غرقي في بحر الأنوار، مطموس عليهم الآثار. وفي هذا المقام قال بعضهم: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله، وأهل الحجاب من أهل الدليل والبرهان إنما يشهدون الكون ولا يشهدون المكون لا قبله ولا بعده، إنما يستدلون على وجوده بوجود الكون وهذا لعامة المسلمين من أهل اليمين، قد أعوزهم: أي فاتهم وجود الأنوار ومنعوا منها، وحجبت عنهم شموس المعارف بسحب الآثار بعد طلوعها وإشراق نورها، لكن لا بد للشمس من سحاب وللحسناء من نقاب.
(مِمَّا يَدُلُّك على وجود قَهْرِهِ سبحانه أنْ حَجَبَك عَنْهُ بما ليس بِمَوْجُودٍ معه).
من أسمائه تعالى القهار، ومن مظاهر قهره احتجابه في ظهوره، وظهوره في بطونه، وبطونه في ظهوره، ومما يدلك أيضاً على وجود قهره أن احتجب بلا حجاب وقرب بلا اقتراب، بعيد في قربه، قريب في بعده، احتجب عن خلقه في حال ظهوره لهم، وظهر لهم في حال احتجابه عنهم، فاحتجب عنهم بشيء ليس بموجود وهو الوهم، والوهم أمر عدمي مفقود، فما حجبه إلا شدة ظهوره، وما منع الأبصار من رؤيته إلا قهارية نوره، فتحصل انفراد الحق بالوجود ، وليس مع الله موجود. قال تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه".
واسم الفاعل حقيقة في الحال. وقال تعالى: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن". وقال تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله" وقال تعالى: "وهو معكم أينما كنتم". وقال تعالى: "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" وقال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وقال تعالى "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله" الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يا عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله: إما إنه مرض عبدي فلان فلم تعده، فلو عدته لوجدتني عنده، ثم يقول: يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني، ثم يقول أستسقيتك فلم تسقني" الحديث.
فدل الحديث على أن هذه الهياكل والأشخاص خيالات لا حقيقة لها، فهي أشبه شيء بالظلال.
(كان اللّه ولا شئ معه)
1– كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء؟
والظاهر هو الباطن: ما بطن في عالم الغيب هو الذي ظهر في عالم الشهادة، فحياض الجبروت متدفقة بأنوار الملكوت، انظر جمالي شاهداً في كل إنسان، الماء يجري نافداً، في أس الأغصان، تجده ماء واحداً، والزهر ألوان، يا عجباً كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف، عجبت لمن يبغي عليك شهادة، وأنت الذي أشهدته كل شاهد.
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء؟
بباء الجر أي تجلي بكل شيء فلا وجود لشيء مع وجوده فكيف يحجبه شيء والغرض أن لاشيء يحجبه.
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء؟
بقدرته وحكمته، القدرة باطنة والحكمة ظاهرة، فالوجود كله بين قدرة وحكمة، وبين جمع وفرق، وقد تقدم قول بعضهم: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه، أي بقدرته وحكمته، فلولا ظهور أنوار الصفات ما عرفت الذات، ولولا الحس ما قبضت المعنى، ولولا الكثيف ما عرفت اللطيف.
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر لكل شيء؟
بلام الجر: أي المتجلي لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته، ولما تجلى لكل شيء، وعرفه في الباطن كل شيء، وسبح بحمده كل شيء، فلم يحجبه شيء عن شيء، قال الله تعالى: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده".
يقول بلسان حاله: سبحان المتجلي لكل شيء، الظاهر بكل شيء، يفقهه العارفون ويجهله الغافلون.
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء؟
فكل ما ظهر فمنه وإليه فكان في أزله ظاهراً بنفسه ثم تجلى لنفسه بنفسه، فهو الغني بذاته عن أن يظهر بغيره أو يحتاج إلى من يعرفه غيره فالكون كله مجموع، والغير عندنا ممنوع.
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر كل شيء؟
إذ لا وجود للأشياء مع وجوده ولا ظهور لها مع ظهوره، وعلى تقدير ظهورها فلا وجود لها من ذاتها فلولا ظهوره في الأشياء ما وقع عليها أبصار.
من لا وجود لذاته من ذاته ... فوجوده لولاه عين محال
فالعبد في حالة الحجاب تكون نفسه وجودها عنده ضرورياً، ووجود الحق تعالى عنده نظرياً، فإذا عرف الحق وفني عن نفسه وتحقق بزوالها صار عنده وجود الحق ضرورياً ووجود نفسه نظرياً، بل محال ضروري. قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: إنا لننظر إلى الله ببصر الإيمان والإيقان، فأغنانا عن الدليل والبرهان، وإنا لا نري أحداً من الخلق، فهل في الوجود أحد سوي الملك الحق، وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً اه.
زاد في لطائف المنن ومن أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إلى الله، فليت شعري هل لها وجود معه حتي توصل إليه، أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له، وإن كانت الكائنات موصلة له فليس ذلك لها من حيث ذاتها، لكن هو الذي ولاها رتبة التوصيل فوصلت فما وصل إليه غير إلهيته، ولكن الحكيم هو واضع الأسباب وهي لمن وقف معه، ولا ينفذ إلى قدرته عين الحجاب، فظهور الحق أجلي من كل ما ظهر إذ هو السبب في ظهور كل ما ظهر، وما اختفى إلا من شدة ما ظهر.
*ومن شدة الظهور الخفاء*
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الواحد الذى ليس معه شيء؟
لتحقق وحدانيته أزلاً وأبداً: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان "أإله مع الله تعالى الله عما يشركون" أفي الله شك فكل ما ظهر للعيان فإنما هو مظاهر الرحمن قال صاحب العينية رضي الله عنه:
تجلى حبيبي في مرائي جماله ... ففي كل مرءاً للحبيب طلائع
فلما تجلى حسنه متنوعاً ... تسمى بإسماء فهن مطالع
فالحق تعالى واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فلا شيء قبله، ولا شيء بعده، ولا شيء معه.
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء؟
قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد". وقال تعالى: "ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون". وقال تعالى " وكان الله على كل شيء رقيباً وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى".
وقربه تعالى قرب علم وإحاطة وشهود لأقرب مسافة، إذ لا مسافة بينك وبينه وتقدم في الحديث: "وإن الله ما حل في شيء ولا غاب عن شيء". وقال سيدنا علي كرم الله وجهه: الحق تعالى ليس من شيء، ولا في شيء، ولا فوق شيء، ولا تحت شيء، إذ لو كان من شيء لكان مخلوقاً، ولو كان فوق شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان تحت شيء لكان مقهوراً اه. وقيل له يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان ربنا، أو هل له مكان؟ فتغير وجهه وسكت ساعة ثم قال: قولكم أين الله سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان، ثم خلق الزمان والمكان، وهو الآن كما كان دون مكان ولا زمان اه.
وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: قيل لي يا علي بي قل، وعلى دل، وأنا الكل اه. هذا كما في حديث البخاري.
يقول الله تعالى: "يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار" وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر". وتفسيره ما في الحديث قبله والله تعالى أعلم.
كيف يتصور أن يحجبه شيء ولولاه لما ظهر وجود كل شيء؟
قال تعالى: "وخلق كل شيء فقدره تقديراً" وقال تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" فكل ما ظهر في عالم الشهادة فهو فائض من عالم الغيب، وكل ما برز في عالم الملكوت فهو فائض من بحر الجبروت، فلا وجود للأشياء إلا منه، ولا قيام لها إلا به، ولا نسبة لها معه، إذ هي عدم محض، وعلى توهم وجودها فهي حادثة فانية ولا نسبة للعدم مع الوجود ولا للحادث مع القديم.
يا عجباً كيف يظهر الوجود في العدم؟ أم كيف يثبت الحادث مع من له وصف القدم؟
فالوجود والعدم ضدان لا يجتمعان، والحادث والقديم متنافيان لا يلتقيان، وقد تقرر أن الحق واجب الوجود، وكل ما سواه عدم على التحقيق، فإذا ظهر الوجود أنتفي ضده وهو العدم، فكيف يتصور أن يحجبه وهو عدم؟ فالحق لا يحجبه الباطل. قال تعالى: "فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال". فلا وجود للأشياء مع وجوده فانتفى القول بالحلول إذ الحلول يقتضي وجود السوي حتى يحل فيه معنى الربوبية، والفرض أن السوي عدم محض فلا يتصور الحلول وإلى هذا أشار في العينية بقوله
ونزهه في حكم الحلول فما له ... سوى وإلى توحيده الأمر راجع
والقديم والحادث لا يلتقيان، فإذا قرن الحادث بالقديم تلاشي الحادث وبقي القديم. قال رجل بين يدي الجنيد رضي الله عنه: الحمد لله ولم يقل رب العالمين، فقال له الجنيد كمله يا أخي، فقال له الرجل: وأي قدر للعالمين حتى يذكروا معه؟ فقال الجنيد: قله يا أخي، فإن الحادث إذا قرن بالقديم تلاشي الحادث وبقي القديم اه. فقد تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم إذ لا يثبت الحادث مع من له وصف القدم، فأنتفى القول بالاتحاد إذ معنى الاتحاد هو إقتران القديم مع الحادث، فيتحدان حتى يكونا شيئاً واحداً وهو محال، إذ هو مبني أيضاً على وجود السوى، ولا سوى، وقد يطلقون الإتحاد على الوحدة كقول ابن الفارض:
وهامت بها روحي بحيث تمازجا ... إتحاداً ولا جرم تخلله جرم
فأطلق الإتحاد على إتصال الروح بأصلها بعد صفائها، ولذلك قال بعده ولا جرم تخلله إلخ، فتحصل أن الحق سبحانه واحد في ملكه، قديم أزلي باق أبدي، منزه عن الحلول والإتحاد، مقدس عن الشركاء والأضداد، كان ولا أين ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وسئل أبو الحسن النوري رضي الله عنه: أين الله من مخلوقاته؟ فقال: كان الله ولا أين والمخلوقات في عدم فكان حيث هو، وهو الآن حيث كان، إذ لا أين ولا مكان، فقال له السائل وهو علي بن ثور القاضي في قصة محنة الصوفية فما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة؟ فقال: عز ظاهر، وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به وصادرة عنه، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها، قال له: صدقت، فأخبرني ماذا أراد الله بخلقها؟ قال: ظهور عزته وملكه وسلطانه، قال: صدقت، فأخبرني ما مراده من خلقه، قال: ما هم عليه، قال: أو يريد من الكفرة الكفر؟ قال: أفيكفرون به وهو كاره؟ ثم قال: أخبرني ماذا أراد الله باختلاف الشيع وتفريق الملل؟ قال: أراد إبلاغ قدرته، وبيان حكمته، وإيجاب لطفه، وظهور عدله وإحسانه اه. المراد منه وفيه إشارة إلى أن تجليات الحق على ثلاثة أقسام: قسم أظهرهم ليظهر فيهم كرمه وإحسانه، وهم أهل الطاعة والإحسان. وقسم أظهرهم ليظهر فيهم عفوه وحلمه، وهم أهل العصيان من أهل الإيمان. وقسم أظهرهم ليظهر فيهم نقمته وغضبه، وهم أهل الكفر والطغيان، فهذا سر تجليه تعالى في الجملة، والله تعالى أعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.