"عندما يقف العالم على ساقين قويتين.. فوق أرض نظيفة من الشرور.. وينظر بعين الحب الى الطبيعة.. فيرعى الطفل والزهرة.. كما يرعى الوحش والأفعى.. عندما يستطيع أن يفتح أجفانه للشمس.. وهي بريئة من الجرم والخطيئة.. عند ذاك.. يستطيع أن يرتفع الى السماء.. بلا صواريخ أو سفن فضاء.. وما أتعس الانسان عندما يتطلع الى النجوم.. وأقدامه تغوص في الوحل". عباراتي هذه التي كنت قد حملّتها روايتي (رواية المستقبل).. تحضرني الآن وأستعيدها وأنا أنظر الى موجة الأفلام الغربية التي تجتاحنا في دور العرض وعلى شاشة التلفاز.. أفلام تحفل بالخوارق واللامنطق.. ومن يتابع ما تنتجه السينما الغربية والأميركية على وجه التحديد متمثلة بهوليود التي لعبت دوراً في السياسة أكثر من البيت الأبيض.. أقول من يتابع يسترعي انتباهه هذا الكم المفزع من أفلام الخيال الذي يسير في مسار الأسطورة حيناً، والخرافات أحياناً. ومن منا لا يحب السينما؟ ومن منا لم يزر صالاتها عشرات أو مئات المرات.. وكم افتتنا بأفلام بعينها دون غيرها.. ولكن بعد أن تجاوزنا زمن الميثولوجيا، والخرافات، والأساطير فها هي موجتها تعود إلينا وبكثافة، وكأننا مانزال نخرج من عباءة الأسطورة بينما واقعنا تجاوزها بمئات السنوات. وأتساءل وأنا أرى الخوارق تتجسد في فيلم طويل تحتفي به دور العرض.. لماذا يتجه الفكر في الغرب الآن الى مثل هذه الموضوعات تحديداً؟.. وكان قد سبقها الفيلم الأشهر في عالم السينما وهو (هاري بوتر) وقد فتح الباب عريضاً لكل الخوارق، والسحر، والأساطير حتى ما اقتبس منها من كتاب الخيال الأكثر ثراءً على الإطلاق وهو (ألف ليلة وليلة).. وهنا لا ننكر أن الكاتبة (ك. ج. رولينغ) قد برعت في توليفتها هذه التي استغرقت سبعة كتب ضخمة تحولت فيما بعد الى سبعة أفلام سينمائية طويلة تكاد لا تغفل شيئاً من قصص الجنيات، وقصص الخيال إلا وطوته بين صفحاتها. واذا كنت سأصل الى جواب الى مثل هذه التساؤلات.. فلا أجد أمامي مبرراً لها إلا بجواب واحد يسعفني: وهو أن استغراقنا في عالم لا يحكمه سوى منطق المادة، والأرقام التي تصدمنا بحقيقتها وواقعيتها ما جعل الإنسان منا أكثر توقاً لما يتجاوز هذا الواقع الذي تحكمه المادة بكل مفرداتها. وأذكر كتاباً صغيراً لكاتب أمريكي هو في الحقيقة رواية بعنوان (قصة حب) كتبها (ايريك سيغال) في السبعينات من القرن الماضي، ونال عليها شهرة واسعة، وترجمت الى لغات عدة.. لم تكن في الحقيقة أكثر من قصة بسيطة في طرحها، وتكاد قصة الحب فيها تكون عادية ومألوفة إلا أن التوقيت الذي ظهرت فيه تلك الرواية جعلتها تتصدر قائمة المبيعات آنذاك.. توقيت كان أبعد ما يكون فيه الناس عن موضوعات الحب والعاطفة.. حتى أصبح كالتميمة التي كانوا يعلقونها على صدورهم أو فوق أبواب بيوتهم. وها نحن الآن في زمن أصبحنا فيه أبعد ما نكون عن الخيال فهل ستصبح تلك الخوارق تميمة لنا نعلقها على شاشاتنا لتزيد من اضطرابنا وتشتت عقولنا، ومشاكلنا البيئية والحياتية تكاد تغمرنا؟ واذا كانت الميثولوجيا الرومانية والإغريقية تبحث في تفسير الظواهر الطبيعية، وترجعها الى مشيئة الآلهة فتتقرب منها بالقرابين والنذور فإن الانسان المعاصر قد وصل الى أجوبة حاسمة لمثل هذه الأمور حتى باتت من البديهيات التي يعرفها كل فرد. والسينما الغربية كانت من قبل قد اجتاحتها ولاتزال ولو بنسبة أقل موجة العنف في أفلامها حتى وصلت بها الى حد العنف غير المبرر أو المجاني إن صح التعبير، والعنف لمجرد العنف حتى يألف المشاهد مناظر الدم، والقتل، والتدمير، وكأنها مرحلة تمهد في قادم الأيام الى أحداث جسام قد تأخذ حيزها في مساحة الحياة. أما الان فالسؤال مازال يلح عن سبب التوجه نحو الظواهر الخارقة في السينما الغربية وتلك التهويمات واللامنطق في رسم الشخصيات والاحداث، وكأنه التكريس من جديد لفلسفة سوبرمان (نيتشه) أو الانسان الأعلى.. ولكن بشكل جديد.. أم أنه السوبرمان الذي لا يتقن الإستعلاء فقط بل إنه زاد الى مهاراته الخوارق؟.. أم أنه الخواء الروحي الذي يعيشه الغرب في وقت ما عاد فيه الفرد يرفع رأسه نحو السماء.. بل إن الرأس لتنحني دوماً باتجاه جاذبية الأرض.. وأعود لأكرر: وما أتعس الانسان عندما يتطلع الى النجوم.. وأقدامه تغوص في الوحل".