قصة . . . . ( من جزء واحد ) ذات مساء قريب . . أحسست أننى فى الحياة وحيد ، وفجأة إنتابنى شعور بالرغبة فى الخروج إلى الناس ، والحديث معهم . . إرتديت ملابسى ، وتأنقت ، وتعطرت ، ثم خرجت إلى الشارع ، لا أعرف أين وجهتى ، تركت قدماى تقودانى إلى حيث تريدان ، مشيت ومشيت نحو أطراف المدينة ، حيث الهدوء يعم ، والنسيم طيب وعليل . . الناس فى مدينتنا جميعاً يهرولون إلى خارج المدينة ، فى أماكن خضراء فسيحة ، لقضاء بعض الأوقات السعيدة ، بعيداً عن الضوضاء والضجيج . . أخذتنى قدماى إلى أحد هذه الأماكن ، جلست وحدى بعيداً ، أرقب الناس من حولى ، يضحكون ويمرحون فى هدوء ، دقائق وجاءنى شخص يسألنى ماذا أريد أن أحتسى ؟ طلبت كوباً من الشاى أؤنس به وحدتى ، دقائق أخرى وأحضر ذات الشخص ما طلبته ، ووضعه أمامى وإنصرف . . مرت لحظات وأنا أستمتع بوجودى بين الناس ، فى ذلك المكان الفسيح . وفجأة . . إقتربت منى سيدة ، فى منتصف الثلاثينات من عمرها ، على قدر من الجمال ، رشيقة ومتأنقة ، تبدو عليها علامات الراحة والهناء ، كانت بمفردها ، ألقت علىّ بالتحية فرددتها ، إستأذنت فى الجلوس بالمقعد الذى أمامى ، فأذنت لها ، جلست ثم نظرت إلىّ وكأنها تعرفنى ، أنا لا أعرفها ، ولكن يبدو أنها تعرفنى ، وقد قصد ت الجلوس معى والحديث إلىّ . . ولم تمر دقائق ، حتى بادرتنى بالقول : قالت ( بهدوء ) سائلة : ألست هو أنت؟ قلت: أنا ! ! ماذا تقصدين ؟ قالت : أقصدك أنت . . أنت صاحب الكلمات . قلت متسائلاً : أى كلمات تقصدين ؟ قالت : كلمات الحب والغرام والهيام . . قلت ( متعجباً ) : كما تريدين ! ! قالت ( مؤكدة ) : لا . . إنك هو . . أعرفك جيداً ، وكلنا نعرفك . . قلت : ومن أنتم إذن ؟ قالت : نحن معشر النساء . . قرأنا كلماتك كثيراً وكثيراً . . وأذابتنا حروفك من فرط روعتها . قلت : ومن أخبركِ عنى . . يا سيدتى ؟ قالت : أخبرنى عنك كل النساء ، اللاتى فضحت مشاعرهن بكلماتك ، وأخرجت للعلن مكنونات صدورهن . . نحن النساء فى مجالسنا لا تجمعنا سوى كلماتك ، ألهيتنا عن كل شئ فى الحياة ، حتى أنفسنا ألهيتنا عنها ، إلا عن حروفك وكلماتك . . قلت (مندهشاً ) : أإلى هذا الحد . . تشغل بالكن كلماتى ؟ قالت : بل أكثر . . وأكثر . . وأكثر ! ! قلت : إذن . . ماذاتريدين منى يا سيدتى ؟ قالت : أريدك أن تحدثنى . . إلق إلىّ وحدى بكلماتك . قلت : وعما تريديننى أن أحدثك ؟ قالت : حدثنى عن معشوقتك . . أريد أن أفضح مشاعرك . . مثلما تفضح مشاعرنا . قلت : وعن أى معشوقاتى تريدين الحديث ؟ قالت : وهل لك أكثر من معشوقة ؟ قلت : ياااااه . . إنهن كثيرا ت ، بعدد سنوات عمرى ! قالت : إذن . . حدثنى عن إحداهن . قلت : لا . . سوف أحدثكِ عن أكثرهن حباً وعِشقاً وجمالاً وبهاءً . قالت ( بلهفة ) : إذن . . حدثنى عنها . . هيا حدثنى . قلت : عرفتها . . فى منتصف عمرى ، كنت أبحث عنها كثيراً ، وكنت أدعو الله أن أقابلها ، وقد قابلتها ذات مساء ، فى إحدى ليالى الصيف بعد منتصف الثمانينات . . قالت : يااااه . . بعد منتصف الثمانينات ! ! إنها سنوات وسنوات يا صاحب الكلمات ! قلت : نعم . . منذ سنوات وسنوات ، إستجاب الله لدعائى ، وقد دعوته كثيراً أن ألقاها ، ولقيتها ، فكانت هى أكبر عشقى ، وهى حبى ، وكل غرامى وهيامى . . عرفتها فى إحدى ليالى الصيف ، وقت أن إشتد الحر ، فكانت لى مثل كوب ماء بارد فى لحظات ظمأ شديد ! ! قالت : صِفها لى . . حدثنى عن تلك التى مَنّيت نفسك بها ، حتى جمعكما الله . قلت : عندما أبصرت عيناى وجهها الجميل الخمرى المستدير . . وسمعت أذناى صوتها الهادئ الرقيق . . وقع حبها فى قلبى ، سلبت منى عقلى ، وإخترقت فؤادى . . سكنت فى صدرى ، جاورت أنفاسى . . أحاطت بقلبى ، وملكت كل كيانى ! ! قالت : ألهذا الحد عشقتها يا صاحب الكلمات ؟ قلت : بل وأكثر . . مرت الأيام والليالى ، إزداد حبى لها ، وتعلقى بها ، صارت عندى هى الماء والهواء ، والروعة والجمال ، والبساتين والجنان . . صارت عندى أحلى الأشياء وكل الأشياء ! قالت : حدثنى عن عيناها . . أعرف أن الرجال يعشقن عيون النساء . قلت : عيناها عسليتان ، أنظر فيهما ، تأخذانى إلى عالم فسيح جميل ، من البراءة والنقاء والصفاء . . أجزم لكِ بأن عيناها هى أحلى من عيون كل النساء ، كلمتنى عيناها أكثر مما كلمتنى شفتاها ، عيناها قتلتنى حباً فيها ، حتى صرت بها هيماناً ! ! قالت : حدثنى عن هدوئها . . ألم تقل لى أنها هادئة ؟ قلت : بلى . . هدوؤها عندى أشبه بهدوء جريان الماء على صفحة النهر . . إنها ظلت كالنسمة فى حياتى ، لسنوات وسنوات . . لم تغضبنى قط ، ولم تعاندنى قط ، ولم تشاكسنى قط . . أنظر إلى عينيها ، تعى سريعاً ما أريد . . إختصرت معها الكلمات ، فما بيننا لا تعوزه الكلمات . . إنها حبيبتى ، أسكن قلبها ، وتسكن روحى وفؤادى . قالت : أراك أحببتها كثيراً ، وأغرمت بها طويلاً ، وهِمت فى هواها سنيناً . قلت : لم أكن أملك إلا أن أحبها . . وأن أغرم بها ، وأن أهيم فيها . . فما كان فيها وبها ومعها ، لا يملك مثلى إلا أن يفتتن بها . . قالت سائلة : وهل حد ثت أحداً عنها من قبل ؟ قلت : لا . . . لم أحد ث عنها أحداً ! ! قالت : ولم ؟ ؟ وأنت صاحب الكلمات ، وتفضح مشاعرالنساء ،ألا تفضح مشاعر الرجال أيضاً ؟ قلت : ولم لا ؟ ؟ كلماتى كلها عن الحب والغرام والهيام . . والرجال تعشق تماماً كما النساء . . قالت : إذن . . لماذا لم تكتب عنها حتى الآن ؟ ؟ قلت : أخشى أن أكتب عنها . . فتحسدنى كل النساء على حبها . . النساء يغرن كثيراً يا عزيزتى ، ولغيرتهن فعل الشيطان ، وسحر السحرة والجان ، وحسدهن لا ينجو منه إلا من رحم الرحمن . . أمع كل هذا تريديننى أن أكتب عنها وعن حبى لها ؟ ؟ ويقرأه كل النساء . . تباً لك من إمرأة ! ! قالت ( وهى تضحك ) : معك كل الحق . . نحن النساء لا نطقن أبداً أن يُعشَق سوانا ، ولا أن يُمتدح فى الجمال غيرنا ، لا سيما بكلماتك البارعة الرائعة الساحرة يا صاحب الكلمات ! ! قلت : إذن . . كنت أنا على حق ، حين إحتفظت بحبى لها فى أعماقى . . فليس كل ما يعرفه المرء ينطق به لسانه . . هكذا نصحتنى أمى رحمها الله ، وعلمتنى الأيام ، وتجارب الحياة . قالت ( وهى تستدرجنى ) : أراك حدثتنى عنها كثيراً . . وأفضت فى وصف حبك لها كثيراً . . أبعد كل هذه السنوات ما زلت تحبها ؟ ؟ قلت : سوف أحبها أكثر وأكثر ، وأتمنى قربها أكثر وأكثر . . وكلما مرت السنون أحببتها أكثر. قالت : حتى بعد فراقكما ؟ قلت ( حانقاً ) : ومن قال لكِ أنى فارقتها ، أو هى فارقتنى ؟ مثلها لا يفارق مثلى أبداً . . ألم أقل لكِ أنها حبى وعشقى وغرامى وهيامى ؟ إنها جزء منى وأنا جزء منها . . فكيف لى أن أفارقها أو تفارقنى ؟ إنها بالنسبة لى كل شئ فى الحياة . . بل إنها كل الحياة ! ! قالت ( وهى تسترضينى ) : لا تغضب . . خانتنى الكلمات ، وأنا لست مثلك صاحبة الكلمات . قلت : لا بأس . . لا بأس . . قالت ( وهى شغوفة ) : أما زلت تعرفها كل هذه السنوات . . إنك الآن جاوزت الخمسين بقليل ؟ قلت : نعم . . إنى أعرفها منذ ست وعشرون عاماً . . إنها نصف عمرى تماماً . قالت : وكل هذه السنوات ، ما نالت من حبكما شيئاً ؟ ما أصابكما الملل ولا السأم ؟ قلت : وكيف تنال السنوات منى ومنها ، وهى منى وأنا منها ! ! قالت ( والفضول يكاد يقتلها ) : حدثتنى وحدثتنى وحدثتنى . . وحتى الآن لم تخبرنى من تكون حبيبتك ، ومعشوقتك ، وكل غرامك وهيامك ؟ ؟ إخبرنى هيا . . ياليتنى كنت هى ! ! قلت ( ممانعاً ) : لن أخبرك أبداً . . إنكن النساء لا أمان لكن أبداً . . أرى الفضول فى عينيك يكاد يقتلك ، ولن أنقذك من هذا القتل ! قالت ( وهى تلح ) : أخبرنى . . وأعدك ألا أخبر أحداً بما أخبرتنى . . قل لى من تكون حبيبتك ؟ معشوقتك ؟ بل أكثرهن جمالاً وبهاءً كما أخبرتنى ؟ قلت : أقسمى لى أولاً ألا تخبرى أحداً عنها ! ! قالت ( وهى تؤكد ) : أقسم لك . . ألا أخبر أحداً عنها أبداً . . أبداً ! ! قلت ( وأنا متردد ) : إنها . . . . إنها . . . . إبنتى الوحيدة ميادة . . ذات الخمس والعشرين ربيعاً ، قرة عينى وكل حياتى ، أجمل من رأت عيناى ، حبيبتى ومعشوقتى ، أكثرهن جمالاً و بهاءً. قالت ( وهى تتمزق من الغيظ ) : يالك من مُخادع ومراوغ . . أسألك عن معشوقتك ، فتحدثنى عن إبنتك ؟ ماذا أقول لك الآن ؟ لقد أغرت صدرى عليها ، حين حدثتنى عن حبك لها وعشقك ، جعلتنى أتمنى زوالها من العالم كله . . قلت : ومن أجل ذلك ما أردت أن أخبرك ، لولا أنك أقسمتِ لى . قالت : وهل للنساء قسم ، يا صاحب الكلمات ؟ أما علمتك الحياة ، ألا تأمن مَكر النساء ؟ قلت : علمتنى الحياة أشياءً كثيرة وكثيرة ، ومن كثرة ما علمتنى صرت أغفل عن بعضها ! ! قالت : ولكن . . كل النساء كن على حق ، عندما قلن عنك ما قلن ، وتحد ثن بما تحدثن ، وأخبرن بما أخبرن ، وحذرن مما حذرن . . ورغم ذلك تمنين أن يجلسن معك ويتحدثن إليك ، مثلما فعلت. قلت : وماذا قال عنى النساء ؟ وبم تحدثن ؟ وعما أخبرن ؟ ومما حذرن ؟ ولماذا تمنين ؟ قالت ( وهى تضحك ) : لن أخبرك أبداً ، وسوف أقتلك فضولاً ، كما قتلتنى حَسداً وغيرة ، أيها المُخادع المُراوغ الماكر اللئيم . . مُت بفضولك حتى تُقلع عن كلماتك فى مشاعر النساء ! ! قلت : أعدكِ أبداً . . ألا أقلع ، حتى أموت ! ! ! قالت ( وهى تنهض واقفة ) : أما أنا . . فأعدك ألا أخبر أحداً بما حدثتنى به ، وما فعلت معى ، لا من أجلك أنت وإبنتك . . ولكن من أجل ألاتحسدنى النساء ، على أننى قد جلست معك ، وتحدثت إليك ، وهن يتمنين ذلك مثلما تمنيت ، ولا أريد لإحداهن أن تنال منك ما نلت أنا . . إنهن يطاردن كلماتك فى كل الصفحات ، فكيف بهن إن قابلنك مثلى ؟ ؟ لن أعطيهن هذه الفرصة أبداً . . أبداً . وَدعَتنى . . وإستدارت . . وذهبت إلى حيث تمضى . . بعد أن حدثتها حديثاً ، لم أحدث به سوى نفسى . . وبعدها عاد إلىّ رشدى ، وقلت لنفسى : ماذا دهاك أيها الأبله السفيه ؟ أتخبر إمرأة عن حب عمرك ؟ وهل تؤتمن النساء على أسرار الحب والغرام ؟ ؟ ألم يعلمك الزمان ولا تجارب الحياة ، ألا تستودع سرك أحداً ؟ فما بالك لو كان هذا الأحد هو إمرأة ، والسر هو حب عمرك ؟ . . . نهضت واقفاً لأعود إلى بيتى ، وأنا أردد فى نفسى : بسم الله الرحمن الرحيم " قل أعوذ برب الفلق ، من شر ماخلق ، ومن شر غاسق إذا وقب ، ومن شرالنفاثات فى العقد ، ومن شر حاسد إذا حسد " صدق الله العظيم.