يلتهب الشارع تحت قدمّي ، يسبح جسدي في أوهام يخلقها الحرّ الزائد ، تسيطر على مراكز الإحساس أفكار وهواجس عجزت عن إسكاتها... أرض قاحلة، تأبى أن تحيا ، تموت طائعة غير عاصية ، أشجار عارية تتقصف أغصانها مع كل هبة ريح ، ثمة أمور يقف المرء عاجزا مترددا عن التفكير بها أو تفسيرها، صخور صلدا تتناثر هنا وهناك تسدّ كل المنافذ ... جدران يكسوها الكسل والخمول، تقودني خطاي الواهنة إلى مقهى تربعت فوق بابه الأخضر الداكن _ ربما تكون هذه البقعة الوحيدة الخضراء في هذا المكان_ لافتة كبيرة ، وجدت صعوبة في تهجي حروفها " مقهى الغياب" . تسحرني تفاصيل المكان ، تبدو في أقبح صورها ... جفاف ...يباس...غياب... غياب تسبح فيه روحي ، تنسل من أطراف أصابعي ، وأرى نفسي فتاتا ...بل ذرات تعانق الرياح. أفكار ورؤى مبعثرة تدفعني من هوة إلى أخرى ، ويظل حبل الحياة يتدلى قرب أيدينا ... أجرُّ قدماي إلى داخل المقهى، تتفحص عيناي المكان بحذر شديد ، تدوران مثل كاميرا تلفزيونية ، من زاوية إلى أخرى ، ترصدان كل صغيرة وكبيرة . المقهى يخلو تماما من الحياة ...تتناثر في زواياه مقاعد ومناضد علاها الغبار ، جدرانه مزينة بلوحات زيتية تراكمت على وجوهها مرارة السنين والأيام ، أتأملها ، أحاول الولوج إلى دهاليزها ومعرفة أسرارها ، زجاجات فارغة ملقاة في أماكن كثيرة ، يثرثر عقلي كثيرا وهو يتفحص المكان ، يدرسه بعناية فائقة ، ويخرج بلا شيء . هواجس المكان تحاول أن تنال من ذاكراتي ، فأسمع نفسي تهذي . أجلس وأنا ما زلت أتفقد المكان ، أضع حقيبتي التي أثقلت كاهلي فما عدت على حملها ، أضعها بجانبي بلطف شديد ، أحاول أن استرخي ، أن أترك العنان لخيالي ، وأي خيال بعد هذا ... بقيت عيناي تدوران ..أبحث عن حياة ، أرهف السمع عسى أذني تقع على صوت ، على همس، السكون أكل المكان ، والصمت فرخ في كل زواياه وعشش، كابوس ثقيل ، نسيت أنني كنت قبل لحظات يكاد يقتلني العطش. جسدي لا يقوى على الحراك ، يحتاج إلى الماء ، من منا ينكر فائدة الماء ، أبحث عن مصدر للماء ، المصادر كثيرة ولكنها لا تحمل في داخلها إلا الجفاف ، أي مكان هذا !!! هل أبحث عن مكان آخر ، هل كل الأماكن أصابها الجفاف ، جسدي أنهكته الأيام والأحلام أصبح لا يقوى على المسير ، إذاً هو الاستسلام ، ما أقبح أن نستسلم أما هزائمنا ، ليكن هذا المقهى آخر المساحات التي تدوسها قدمي . العطش .... العطش إلى الحياة ... إلى همسة تعيد تتدفق الدماء إلى عروقي الغارقة في الاستسلام ...إلى رائحة تذيب ما تراكم من الحقد والكراهية لهذه الدنيا ... أضع رأسي على الطاولة التي أمامي غير مكترث بغبارها وقذارتها ... فالقذارة تصبح أحيانا طقسا عاديا مألوفا ، هو النوم ، هكذا يجب أن نستسلم لمصائرنا ، نخلع كل ثياب الأمل ونلقي بروؤسنا الخاوية وننام . تستيقظ أجزاء جسدي على أصوات ، أرفع رأسي ، أفتح عيني على اتساعهما ، ناس...بشر يدخلون إلى المقهى ، كلهم يحملون حقائب سفرهم ، الغبار يعلو وجوههم ، آثار السفر تعانق أجسادهم الهشة ، خطاهم قد أتعبتها الليالي والطرقات الوعرة ، عيونهم من تحت قبعاتهم تاهت في رماد السنين الأيام ، ها هم يجلسون على المقاعد المتناثرة ....يسحبون مقاعدهم ...يثرثرون ...يضحكون...يبكون ...أصواتهم تتعالى ، أرهف السمع ، انه خرير الماء ، الماء يتدفق بغزارة ، أرفع رأسي أكثر فأكثر ....يمتدد رأسي في الهواء ، تدور عيناي من جديد ، أحدهم يسألني وهو ينحني أمامي : _ أستاذ ماذا تشرب ؟؟؟ _ أشرب !!!!! لا...لا... لقد ارتويت .