عشية الميلاد، تقدمت فيروز بخطي خفيفة الي مذبح كنيسة مار جاورجيوس ورتّلت: يا مريمُ البُشر فقت/ الشمس والقمر/ وكل نجم بأفلاك/ السماء سري. دائما أخلط بين صوتها، وبين الولادة الإلهية الوشيكة، ويصيبني دوار. من ضعفي وهزالي يصيبني الدوار، ومن كونها بهية الي هذا الحد. أدوخ. مهما يكن، أشعر أنني لن اقوي علي سماعها تغني علي هذه الشاكلة. سأموت لشدة حزني. كانت فيروز في زاوية من الردهة الواسعة غير المضاءة جيدا، تأتلق بنورها الشخصي وقد ارتدت أسودها، كاشفة عن عنقها الاسمر الرهيف. لكي اهديء خفقان قلبي وقفت اخر الواقفين، لا تفارق نظرتي ذلك الفم المزموم الذي أيبسته الأشجان وثلمته. وهي أحنت رأسها وأنشدت: انا الأم الحزينة/ ولا من يعزيني/. كانت ترتل الان وقد تهدلت قليلا كتفاها المدورتان. لم يكن صوتها، كيانها كله الا حبا. لماذا ترتبك الأمور في قلبي حين تغني فيروز! ما أشد إبيضاض صوتها ترسله في مداعبة طفل وليد. في انعكاسات الضوء من سقف الكنيسة توردت وجنتاها كالنار. بدا أن شيئاً سيحدث بداخلي في اية لحظة. كان صوتها يسترسل، وما كان بوسع الآلهة ان تسمع أحلي منه. إنسحبت نائية حتي درج الكنيسة. وقفت للحظة أرقبها كلها. لو انها نظرت إلي لعرفت كم احبها. هل ممكنٌ صوتها؟ هل إنسانيٌ؟ أليس قيثارة ذات أنين غريب؟ لكنها وقد غلبها حياء وفرح، أبقت عينيها منكستين وارتفع قليلا شدوها. يقبل إلي صوتها مختالا كأنما يطلع من رحاب شمس. يقبل كبيرا صوتها، ويقبل قويا، ثم حانيا، وأبداً مع موسيقاه الخاصة. احد تلك المقاطع السريعة العالية النغمة التي رتلتها لطفل الرب، هو نوع من مناجاة سحرية، وشيء رحيم عفي: بنت داوود قد بكت/ فأبكت نواظريها ومعها حلت بسامعيها نشوة قصيرة، وحادة كنصل مدية. خرجت الي هواء الميلاد الذي يدوم علي المدينة. فتحت فمي لكي استرجع بصوتي ما غنته، ثم اطبقته مسرعة. كان امرا مهما الي ابعد الحدود ان احتفظ بصوتها وحده، كان امرا مهما الي ابعد الحدود ان احتفظ بصوتها وحده، كاملا في صدري. وانني علي امتداد ما يبقي من عمري، سوف اختار صوتها، وانني بسبب من صوتها الذي اطلقته في الكنيسة هذه الليلة الميلادية، شرعت في استلطاف العالم، وان أيا منا، هي وانا، لم يكن لدينا سبب واحد، لكي لا نستلطف هذا العالم الجميل. أذهب الي المقبرة صباح آخر يوم في السنة. أنظر الي الشاهدة التي كتب عليها اسم ابي، وافكر انه ينبغي ان اضيف تعريفاً ما عنه، وافكر ايضا اننا نلتقي قريباً، وانني ان كنت بقيت حية حتي اللحظة، فهذا لانني استحي ان اموت، وامي موجودة. كنت وهذا الرجل الوسيم الراقد الان هنا، نعيش. لم نكن معا في عيشنا، نحدث صخبا كبيرا. كنا نتحابب بأقل الصخب. افرح بما يعطيه، ويقلب بما اعرف ان اعطيه. كنت انهي فروضي علي عجل لأنصرف الي تأمله. أمضيت معظم سنوات عمري وانا أتأمله. أذكر تلك البهجة، وحيرتي: من هذا الرجل المتخم بالأحلام العسيرة الاحتمال، مع ذلك يبتسم ابدا. وانا التي كنت اعتدت الحياة في ترف وسامته، لا اعرف كم مكثت ميتة حين مات. سقط جسمه المتين الضخم في فنائه، وما زال شيء ما في الهواء، يبتسم في الظلام، فأتعرف ابي واسأله ان يفيق، فلقد نمت اقول له نوما طويلا بقيت نائما طوال سنوات ثلاث وانا اكبر في نومك وأقترب منك. اذهب الي المقبرة اخر يوم في السنة لانه عيد ميلاده. كان عيده وكان اكثر رجال الأرض تيها ولطفا وحسنا. كنا نحتفل بعيده اكراما لملامحه الطفلة التي تندي في العيد، ونروح نغني له، وهو يطفيء شموعه بنفخة واحدة عاصفة. وذات يوم لم يعد في مكانه في العيش. خلّف الأيام وراءه وخلفني، ويلوح الامر كما لو حل الاعياء في العالم كله. نسي البدلة البيج ورحل. نسي دفتر مذكراته، فأيقنت انه انما ذهب، ولن يعود ابدا. انني انتظرك مع ذلك. لقد نمت ثلاثة اعوام، وها انت ترفض النهوض ولا تبذل جهداً لتراني، انا التي غدا تنفسي حزينا، وكل نجومي اثرك غادرت. رحيلك الأكثر عتمة من أي شيء معتم في البحر او في البر. خلال تلك الظهيرة التي هاتفني فيها احدهم ليقول لي انك رحلت، هزني شعور رطب اجتاح معدتي. امطرت السماء طوال اسبوع بعد رحيلك. لكنها كما لو امطرت بطريقة اخري، لان شيئا مختلفا ومريرا كان يحدث في قلبي، وبدا جارحا غيابك المبتل وجارحا بردك، وجارحة الجدران المغسولة وعروق الدرب التي انتفخت بماء المطر. المصدر: موقع زيتونة