ليس من الإنصاف تقليص تجربة الإسلام التركى بدءا من الفترة الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة)؛لأنها مرحلة لاحقة لما كانت عليه العلاقة بين الحكم فى تركيا- متمثلا فىالسلاطين العثمانيين- والمؤسسة الدينية .فقد أدرك القصر العثمانى ,وهو القريب من المدخل الأوربى الذى تراجع فيه دور الكنيسة على حساب الدولة,أن المصلحة العليا للدولة تقتضى احتواء المؤسسة الدينية فى جسد الدولة فى نسق بيروقراطى يعمل حسابا لأثر الخطاب الدينى على الجماهير ,لكنه يقوم على تهميشه بالتوظيف.هذه المساحة الأولية بين سلطة الدولة والدور الدينى ترجع أصوله إلى جذور الأجداد العثمانيين فى وسط أسيا ؛فاستنوا قوانين تشريعية - من قبل الحاكم- تشكّل صياغة لتحديد مفهوم السلطة السياسية , كذا فإن جذور الأجداد فى آسيا الصغرى رسّخ هذا المفهوم ,الذى برزت صورته فى فرمانات تنسق سياسات الدولة لكن على بناء اجتماعى يضع فى اعتباره مفهوم العدل والأخلاق.وظلّ هذا الحراك والسجال بين مفهوم الدولة ودور الدين فى تعديل أو تطوير هذا المفهوم قائما حتى قيام الجمهورية التركية سنة1924,لكن الملاحظ خلال تلك الحقبة الطويلة هو تغلّب دور الدولة ومفهومها المدنى على سيطرة رجال الدين فى فرض نظام إسلامى يعتمد الشريعة فقط ,وهو ما مهّد بطبيعة الحال إلى إلغاء الخلافة العثمانية وقيام الجمهورية التركية على يد أتاتورك خالصة للعلمانية ونافية لأى دور دينى يقفز على المفهوم الغربى (العلمانى) لبناء الدولة حتى وصل الأمر إلى استبدال الحرف العربى باللاتينى وهمش تماما دور رجالات الدين فى سياساتالجمهورية الجديدة . غير أننا يجب أن نشير إلى سبب رئيسى غلّب التيار العلمانى على الحركة الإسلامية فى تركيا ,وهو أنه قبل الحرب العالمية الأولى 1914-1918 كانت الحركة الإسلامية ومن والاها يرى أن الدولة فى الفترة العثمانية لم تستطع القيام بواجبها كما ينبغى وانها هضمت حقوق الإسلاميين لعلّة سيطرة التيار العلمانى بفكره وفلسفته الأوربية وتوغّله للنخبة العثمانية الحاكمة مدنية كانت أو عسكرية .فلما كانت الهزيمة فى الحرب وتحت مبدأ"المغلوب يتبع الغالب" ,وقد انتهى دور الكنيسة الغربية فى بسط نفوذها على الدولة ,قامت جمهورية أتاتورك على قيم ومبادىء علمانية بحتة مستوحاة من النموذج الغربى الغالب,وبدا ذلك واضحا فى إعلان أتاتورك عن مفهوم الدولة بأنها"لم تعد تأخذ مثالها من الغيبيات,ولم تعد تأخذ قوانينها مما يظن أنها كتب جاءت من السماء". يبدو أن هذا المفهوم القائم على الاغتراب لدى فصيل عريض من الشعب التركى مازال يحلم بماضى الخلافة ويقيم شعائره وطقوسه على معتقدات هذا الدين,قد أضاف روحا مقاتلة تمثّلت فى بزوغ الحركات الدينية المختلفة حول كبير يعيد ما فقد من (نور)الخليفة الآفل,ما شكّل "تيارا إسلاميا "ناهضا تقوم مهمته بمواجهة الاحتكار العلمانى الذى أصاب البلاد و"رأى"فيه اجتثاثا لكل جذر إسلامى يرعىفيها,يصاحبه تيار وسط يقوم على" إصلاحات" كمالية حاول تقنين شلال العلمانية الغارف من البئر الأوربى لكنّه لا يميل إلى التيار الأول وممارساته. ما بين العلمانية الغربية والتيار الإسلامى البازغ فى صورته الجديدة والإصلاحيين الكماليين توفّرت تربة خصبة لحراك سياسى يمد الجمهورية الجديدة بكل ألوان الطيف السياسى ؛فالتيار الإسلامى الصوفى اعتمد المبدأ الأخلاقى وبث هذا الروح فى المجتمع لاستعادة ما فقد منها دون ان يضطلع بمهام حركية تضع برنامجا تعطى شكلا محددا لما ينبغى أن تكون عليه الدولة ,وهو شكل أقرب لما آلت إليه تركيا بعد ذلك ويكفى أن نشير إلى أن نجم الدين أربكان أحد المحافظين الإسلاميين, الذى انبثق من هذا التيار, قد أسس فى 1970أول تنظيم سياسى ذى هوية إسلامية فى تركيا الحديثة باسم "حزب النظام الوطنى"يضطلع بمناهضة التيار العلمانى بالفكر الإسلامى المبنى على تحرّى الأخلاقواستشراف لهيكل بناء الدولة بهوية إسلامية أكثر اعتدالا مما قامت عليه إيران بعد ذلك ب9سنوات.فى المقابل كان التيار العلمانى يزوى قليلا تحت وطأة النهوض الدينى واتساع مفهومه فى المعترك السياسى ؛إذ لم يكن الدين غريبا على دولة ورثت مجدا إسلاميا لقرون فى ظل الحكم العثمانى ,الذى بسط نفوذه على العديد من الدول الإسلامية,لكنّ ذلك لم يمنع الجيش-الراعى الرسمى لعلمانية أتاتورك- من الانقلاب العسكرى عام1996بعد فوزحزب الرفاه الوطنى بقيادة أربكان بالأغلبية فى انتخابات ذلك العام.غير أنه -تحت وطأة هذا الزحف(الإسلامى)-لم يعد ممكنا تجاهل الإسلاميين ,الذين عمدوا فى كل مراحل هذا الصراع السياسى إلى تطوير برنامجهم بما يتناسب مع رغبة الشارع وثقافته وما رسخ فى وعيه من ثقافة ذات روافد متعددة ؛فكان رجب طيب أردوغان - التلميذ النجيب لأربكان -على وعى كامل بالتاريخالتركى فظهرت الصورة الناضجة للإسلام السياسى فى حزب العدالة والتنمية ,ذلك الوجه الذى تشخصت فيه كل ملامح التجربة التركية وهضم فى بطنه صراعات امتدت لعشرات السنين بين تيارين متناحرين يندغم إلى جوارهما تيار إصلاحى يغذيهما ويغذونه حتى خرج الجنين السوىّ تحت مسمى تركيا الحديثة التى لم ترتدى لباسا خارجيا صرفا ولم يفرض عليها من الداخل أن تأكل من زروع لم ترمى بذرتها ,فإلى أى مدى يستوعب إخوان مصر هذا النموذج الخالص لأصحابه ؟وهل سيستخدمونهوسيلة لمكاسب سياسية وهم يبطنون النموذج الإيرانى؟!