لا تتعجب قارئ العزيز..أعلم ما يجول في خاطرك حقا،وتحدث نفسك قائلًا - هل هذا الكاتب يستخف بنا،وبعقولنا ! ويرى أننا نعيش مثلًا في عصور الجاهيلة والظلام،هل نحن لا نعيش حاليًا في الألفية الثالثة،ومن ثم عصرالنهضة والذرة مثلما يقال،أي نخاسة تتحدث عنها ونحن في القرن الواحد والعشرين ! - تعالوا معي كى نذهب إلي أعماق الريف..وأغاديره كي نرى تلك الطفلة التي لم تبلغ من العمر إلا بضع سنوات،تلك الطفلة التي كنت أسترق النظر إليها،نظرات تكاد تقتلنى،وكانت تحاول أن تفهمنى بلغة العيون التي تشعرنى حينما أنظر إليها بأنها إمرآة تتعدى العشرين من عمرها،وبينما تتابع نظراتى نحوها،نظرةً تلو الأخرى..ألحظ أنها تقول لي وهى صامتةً..إنقذني..إنقذني..مِن هؤلاء... وأتساءل بصمتٍ متعجبًا..منّ هؤلاء ؟! تكرر ما قالته ثانية..وعيناها تذرف دمعاتٍ لا تستطيع..أن تحجبهما أكثر من ذلك..فتنهمر أدمعها وتجهش من البكاء،وتتشنج من كثرة البكاء الذي لا يسمع ولا يرى ! وتنادى عليّ بصمتٍ أكثر..إنقذنى..إنقذنى... في تلك الآثناء..بدأت عيناي تجوب الأماكن المحيطة من حولي..في تلك الغيطان،والأراضي الزراعية التي يغلب عليها اللون الأخضر ولا شئ سواه.. لكن ومع صرخات تلك الطفلة المشوبة بالصمت..تتحول تلك النباتات ذات اللون الأخضر الفاتح إلي لونٍ أسودٍ قاتم..حزنًا وحدادًا علي ما يحدث لتلك الطفلة التي تُباع بثمنٍ بخس ! فى تلك الآثناء كان قد حضر صديقناعبدالحفيظ ذو الصوت الغليظ،والذى يظهرعليه ملامح الحشونة فى التعامل،ويرتدى زيًا يظهر عليه ملامح الثراء الفاحش،ويقول لوالد تلك الطفلة سأدفع لك عن كل شهر ثلاثمائة فما رأيك يا رجل ؟! تبسمت لبرهةً حينما تذكرت بعض المشاهد التي قد تثيرالضحك والإشمئزاز أيضًا في نفس الوقت،في أحد الأفلام وكيف كان يتعامل أبوجهل مع أحد النخاسة،والذى كان قد أتي إليه ببعض الفتية والعبيد..ليكونوا في خدمة سيدهم أبوجهل..وكان في حينها يقذف إليه حفنة من الدنانير مقابل هؤلاء العبيد،ويرد عليه بصوتًا صاخبًا غليظًا،خُذ هذا لك يا رجل،ويأخذ تلك الدنانير والدراهم المعدودة..ويولي الأدبار؛فرحٍ بما حصد وغنم ! هذا بالفعل ما يحدث مع الفارق ما بين الأشخاص..والعصر،وإختلاف العملة المتداولة. - قارىء العزيز قد أغفلنا بعض الأشياء والتي تثير التساؤلات،وأتوقع أنها قد جالت خاطرك ووجدانك كأب أو كأم،أوكأخ أو كأخت لتلك الطفلة ؟! - هل تعلم ما هي ؟! حاول أن تفكر برهةً... - لا عليك..سأوفر عليك ذلك... ماذا سيفعل صديقنا عبدالحفيظ بتلك الطفلة التي لم تكمل العشر سنوات ؟! ماذا تتوقع أن تفعله تلك الطفلة التي لم تبلغ الحُلم ؟! هل تري من وجهة نظرك..مثلاً أن صديقنا عبدالحفيظ قد أتي إليها بمنحة دراسية خارج تلك البلدة التي يسودها الفقر والجهل،والتي لم تُشيد بها مدرسة واحدة حتي الآن،ونحن في الربع الأول من القرن الواحدوالعشرين؟! هل تري أيضاً أن صديقنا عبدالحفيظ يريد أن يقذف علي والد تلك الطفلة ذلك المال إبتغاء وجه الله،وتكون صدقة كي يعول هذا الوالد طفلته؛وكي يتمكن من أن يبتاع لها زي المدرسة الخاص ؛كي تتمكن من أن تذهب إلي المدرسة التي تبعد كثيرًا جدًا عن تلك البلدة،وتوفير عربة " توك توك " تقلها وتقل ممن في عمرها؛كي تلحق بالمدرسة في الوقت المناسب ! والد هذه الطفلة..قد لا يعلم أين ستقذف الأمواج بتلك الطفلة،وعلي أي صخرة قد تستقر..ومع أي أناسٍ قد تقطن،وأي طعامًا سوف تأكل،وأي ملبسًا سوف تلبس،وهل سوف تعود إلي وكرها ثانية أم لا ؟! وعلى أية حال قارئ العزيز لا مناص..من أن يوافق والد تلك الطفلة علي تلك البيعة،إلا إذا جاء إليه عرضًا..أوفر حظًا..وأكثر مالاً،وفي الحالتين..ستباع تلك الطفلة بثمنٍ بخس،ويقذف صديقنا النخاس..بحفنة من الجنيهات علي والدها..ويولي بها الأدبار... - وجدت نفسي من ثقل الموقف الذي أراه..والأحداث التي أتابعها عن قرب..ومع نظرات الطفلة الأخيرة..والتي كادت تذبحني كذبح الراعي للبعير؛أنه لا مناص من كتابة ذلك المقال الذي يتقرب بالكاد إلي الخاطرة النثرية،كي يكتب لهذه الظاهرة أن تناقش علي الأقل في برامج التوك شو ووسائل الإعلام المختلفة..ومن ثم إيجاد حلول مجدية لتلك الظاهرة،ولا تزال تلك النظرات البريئة الطفولية الخالصة..لا تزال تأتى إلىّ بين الحين والآخر كهواجسٍ،وكوابيس تمغص عليّ نومي..وتجعلني أنتفض من علي ذلك السرير الذي أرتمي عليه بعد عناء يومٍ شاق،وتقول لي دومًا..إنقذنى..إنقذنى..من هؤلاء ! ختامًا..أعبر لكم عن مدى آسفى تجاه تلك الطفلة لأني عجزت عن إنقاذها..وعجزت أيضًا عن أنقاذ ممن في مثل عمرها..لذا لابد من عمل خطة مدروسة ممنهجة للقضاء علي تلك الظاهرة الإجتماعية التي كادت أن تختفي ..لكن مع آواخر القرن الماضي و بدايات القرن الحالي ..آن لتلك الظاهرة أن تنتشر مرة ثانية لكنها أكثر ضراوة من ذي قبل ! وأتساءل أخيرًا..من المُنقذ لهذا الرعيل من الأطفال ؟! وأين حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني،والجمعيات المنوط بها حماية الأطفال،وأين قوانين العمل الصادرة والتي تجرم عمل الأطفال،وضد من يحاول أن يضع تحت إمرته أطفالاً لم يكملوا بضع سنوات ! ----------------------------- التواصل// [email protected]