( توقفت بسيارتي في إشارة المرور ، طال الانتظار ، امتدت يدي إلى المرآة العاكسة أمامي أعدل من زاويتها ، نظرت لوجهي الذي صبغه ضوء الإشارة الحمراء بالحذر ، طفل صغير هناك يتسلل بين السيارات ، يحمل علب المناديل الورقية ، يتوسل لهذا و ذاك ، لعل أحدهم يجبر خاطره بشراء إحداها ، مر شريط الذكريات أمامي ، وجدتني هناك بين الحقول محني الظهر أنا و بعض أقراني الفقراء ، نتسلل بين نباتات القطن نقطف الأوراق التي وضعت الديدان عليها بيضها ، نضعها في أكياس القماش المعلقة برقابنا ، الشمس تلفح الرؤوس ، وقف ( حضرة الخولي ) غير بعيد عنا يلوح بخيزرانته مهددا بينما يستظل بمظلته التي يحملها له الواد ( حمودة ) ابن أخته ( هنومة ) ، أخذ يصرخ فينا ) شهل ياد يا ابن ( المسقعة ) أنت و هو ، عاوزين نخلص الفدان ده قبل الضهر . ( أخذت أردد هامسا ) سيد أوبح ، سيد أوبح ( هكذا نطلق عليه ) ( حاول رفاقي كتم ضحكاتهم التي بدأت تتأجج بصدورهم ، نظرت خلسة إلى رفيقي بجواري فإذا بالعرق يتصبب منه بغزارة ، همست دون أن ألتفت إليه ) مالك ياد يا طه ؟ عطشان يا محمد ، خلاص مش قادر ، ها أموت... طب ما تستأذن من ( سيد أوبح ) و تروح تشرب . خايف أقوله ليمشيني و يخصم مني النهارده كمان ، اسكت اسكت على اللي أمي عملته في امبارح لما روحت لها من غير فلوس . قال إيه اللي رماك ع المر ؟ ( نقرات على زجاج سيارتي المغلق سحبتني من بين حقول الذكريات ، نظرت جانبي و إذا بطفل أشعث أغبر يتصبب عرقا ، بائع المناديل ، مد يده الواهنة بإحدى العلب ، فتحت زجاج النافذة فبادرني ) و النبي تجبر خاطري يا بيه ، و الله العظيم م الصبح ما بعت و لا علبة ... تعالى لف ... ها تشتري ؟ حط كل اللي معاك على الكرسي ورا . ( فتح الطفل الباب الخلفي و وضع ما يحمله ) ستين جنيه بس يا بيه عشان خاطرك ... طب لف تعالى اركب . لأ معلش بالسلامة أنت ، أصلي لازم أعدي على أخويا قبل ما أروح . ( أبواق السيارات من خلفي تطالبني بالتقدم ) تعالى اركب و ها نعدي عليه سوا ، اطلع اطلع . ( التف الطفل في خفة و ركب إلى جواري ، بينما أخرجت يدي معتذرا ) خد . إيه ده يا بيه ؟ ما فيش معاك فكة ؟ لأ مش عاوز باقي ، خدها كلها . ميت جنيه بحالها ؟ مش خسارة فيك . تشكر يا ذوق ، روح الله يسترك دنيا و آخرة ، و الله ما أنا عارف أقول لك إيه . ما تقولش حاجة ، هو أخوك بيشتغل فين ؟ عند العمارة العالية اللي هناك دي ... و بيشتغل إيه بقى ؟ بيبيع منادل برضه ؟ لا ده واد مية مية و يعجبك ، مش خايب زيي ، ده مناول قد الدنيا ... مناول ؟ أيوة ، مرة ورا نقاش مرة ورا بنا ، أهي بتفرج ، و أهو بيتعلم له صنعة ... طب و المدرسة ؟ مدرسة إيه يا بيه ؟ ما تصلي ع النبي ف قلبك ... اللهم صل عليك يا نبي ، أفهم من كده إنكم مش في مدارس أصلا ؟ و ها ناكل و نشرب أنا و أمي و أخواتي السبعة منين إن شاء الله ؟ أيوة بس أنت صغير ع الشغل لسه و القانون بيمنع شغل الأطفال اللي في سنك ..... ( انفجر الطفل في الضحك ) شي لله يا قانون ، و النبي تقول للقانون بتاعك ده ينقطنا بسكاته و يتلهي على عينه ، هو القانون ده لا بيرحم و لا عاوز رحمة ربنا تنزل ؟ بذمتك قانون إيه ده اللي عاوز يجوعني و يعريني أنا و أمي و أخواتي السبعة ؟ و إلا تكونش فاكر إنه بقى بسلامته هو اللي ها يأكلنا و يلبسنا و يصرف علينا ؟ لأ طبعا ، بس المفروض إن أبوك هو اللي يصرف عليك و على إخواتك ... ( ضحك الطفل ساخرا ) و تفتكر يعني الكام ملطوش اللي كان بياخدهم ( الله يرحمه ) كانوا ها يكفونا عيش حاف ؟ هو أنت أبوك ميت ؟ أيوة ، بعيد عنك وقع من على السقالة م الدور الرابع ها ها ها ... ( أخذ الطفل يضحك ) لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، طب و هي دي حاجة تضحك ؟ ( حاول الطفل السيطرة على ضحكاته فلم يستطع ) و هو فيه إيه في الدنيا دي ما يضحكش يا بيه ؟ إنت ما سمعتش اللي بيقول لك ، هم يبكي و هم يضحك ؟ طب و إيه اللي يضحك هنا ؟ مش فاهم . أصل أبويا الله يرحمه لما وقع م الدور الرابع ، نزل على عربية نقل شايلة أكياس قطن كانت واقفة تحت العمارة ها ها ها .... سبحان الله ، ها ها ... ( فلتت مني الضحك على وقع ضحكاته ) ها ها ، نزل مش مصدق نفسه و قعد يشكر السواق و يبوس فيه و يحمد ربنا إنه نجاه م الموت ، ها ها ها ، و قال إيه راسه و ألف سيف إنه لازم يجيب للسواق حاجة ساقعة ، السواق يقوله : يا عم خلاص حمد الله على سلامتك ... ( أخذته حالة هيستيرية من الضحك ) أبويا يقوله : و الله لا يمكن لازم أجيب لك إزازة كاكولا ..ها ها ها .... السواق يقوله : يا عم مش مستاهلة ، المهم إنك بخير ... و ده راسه و ألف سيف يعدي الشارع يجيب له الكاكولا ، ها ها ها ..... و لسه بيعدي الشارع ... هاها .. هاها ... هاها ... ( إزدادت ضحكاته إلا أن الدموع بدأت تفر من عينه ) قامت جاية عربية طايرة زي الصاروخ ... و قامت خبطاه مموتاه .. هاها ...... ( عندها لم أتمالك نفسي فانفجرت في الضحك المختلط بالبكاء ، حاولنا السيطرة على أنفسنا و لا فائدة ، لم أجد إلا سؤال واحد يلح على لساني ، حاولت منعه و حاولت ، ففشلت ، عندها دست على المكابح بكل قوة ، تعالت صرخات العجلات حتى توقفت السيارة ، فبادرته بسؤالي ) طب و صحته عاملة إيه دلوقتي ؟؟؟؟؟ ( انفجرنا في الضحك و البكاء حتى اختفى الضحك رويدا رويدا و تبقى البكاء )