في كل صباح يتجلي بإشراقته المضيئة أقوم باحتساء كوب من عصير البرتقال الطازج، لما هو معروف عن البرتقال من فوائد جمة، حتى أصبح ذلك الأمر من قبيل العادة التي أمارسها بانتظام، فالطالما كان البرتقال هو مشروبي المفضل منذ الصغر، بيد أنني حينما كبرت لازال ينتابني نفس الميل التفضيلي غير الإعتيادي الذي كنت أتمتع به وأنا لا أزال طفلة، يمكنها أن تستبدل كوب الحليب بكوب من عصير البرتقال، لما يحمله الأخير من مذاق حامضي منعش. لكن الشيء غير الاعتيادي في هذا الصباح تحديداً، وبينما كنت أقوم بقطع حبة البرتقال الطازجة إلى نصفين، ثم عصرهما واحدة تلو الأخرى، أن أخذني التفكير بعيداً إلى عمق تلك الآلية العفوية، فرُحت أتأمل حال الإنسان في الأرض... كيف يبدأ؟ ... وكيف ينتهي به المآل؟ .. واكتشفت أن حاله أشبه - إلى حد كبير - بحال تلك البرتقالة عند عصرها، ففي معظم مراحل حياته يتم عصره على نحو آلي غير إرادي، بدءً من نضوجه وحتى شيخوخته، يُعتصر تباعاً حتى يتم استخلاص كل الطاقة الحيوية للخلايا التي يكتنزها، فلا يستبقى منه - في النهاية - سوى القشرة الخارجية وقد أصبحت جافة رثة، و زال عنها رطابها، تتحلل تدريجياً إذا ما تكفنت بالتراب. وهنا تكاد تعلو بعض الأصوات معلنة أن هذه الآلية تدخل في السياق الطبيعي لسنة الخلق، وهي بمثابة أمر عادي يشمله ناموس الحياة، ولا مجال فيه للتأمل، صحيح أن الإنسان على مدار حياته وفي شتى بقاع الأرض يخضع لهذه الآلية من الاعتصار، اعتصار لقدراته الجسدية والعقلية والنفسية والوجدانية والاجتماعية في مواقف حياتية مختلفة، لكن نقطة الخلاف هنا تدور حول: من يعتصر من؟؟ ... وإلى أين تذهب تلك العُصارة ؟؟... وهل الفائدة الحقيقية من هذه العُصارة تعود على الفرد ومجتمعه؟ ... أم يهيمن عليها شريحة بعينها في العالم المحيط ؟؟! لعل الأمر لم يتوقف مع تأملي عند هذا الحد، ففي تضاريس الخريطة التي عادة ما تُرسم معالمها في تصوري الذهني خلال عملية التأمل العقلي، تشابه الوضع الانعكاسي لنصف حبة البرتقال أثناء عصرها، مع شكل النظام الرأسمالي، ذلك النظام الذي يمثل نظاماً عالمياً واحداً، إذ تتشابه المواد الصلبة الملتفة حول مركز ثمرة البرتقالة، مع دول المركز وهي الدول الرأسمالية المتقدمة التي يقوم اقتصادها على وسائل الإنتاج (الإنتاج للاستهلاك)، في حين تتشابه المواد الصلبة المتواجدة في أطراف البرتقالة والقريبة من القشرة الخارجية مع دول الأطراف المحيطة، وأقصد بهذه الدول.. الدول النامية التي اندمجت في الدائرة الجهنمية للنظام العالمي على مر التاريخ الرأسمالي، دون أن تتحرك باتجاه النمو، ودون أن تتحول في مسارها نحو المركز، حيث يقوم اقتصادها في معظمه على تملك واستهلاك منتجات دول المركز، ويبدو من هذا التقسيم البسيط في تصوره وضوح آلية التبعية الاقتصادية، وكذلك التبعية السياسية من قبل دول المحيط لدول المركز. ولتأكيد التصور الكامن وراء آلية النظام الرأسمالي ومدى مقاربتها مع الآلية التي تتم بها عملية عصر البرتقال يمكن القول أن: عملية العصر التي تتم لنصف حبة البرتقال تبدأ عادة من المحور المركزي، حيث تخترق القمة المدببة لعَصّارة البرتقال هذا المحور، وجراء تقسيم العمل الدولي تعمل العَصّارة على عصر القدرات الجسدية والعقلية والنفسية والوجدانية والاجتماعية لدى الأفراد في دول المركز أولاً، ثم يتبعها قدرات أفراد دول الأطراف. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن تقسيم العمل الدولي ينعكس - بطبيعة الحال - على نظم التعليم السائدة في الدول جمعاء سواء كانت دول مركز أو دول أطراف، وذلك في صورة تقسيم متخصص، الأمر الذي يترتب عليه أن تصبح المعارف ذات الأهمية الوظيفية في الإنتاج هي المعارف التي تدور حولها دول المركز، في حين أن المعارف ذات الأهمية الوظيفية في الاستهلاك هي المعارف التي تدور حولها دول الأطراف، وهذا يعني أن التشوه الذي أحدثه النظام الرأسمالي في عملية التنمية في دول الأطراف هو الذي شكل البنى التعليمية من حيث نظمها وسياستها، والهدف من ذلك أن تتوافق هذه البنى التعليمية مع البنى الاجتماعية المختلفة لمؤسسات الإنتاج القائمة في المجتمع، من هنا يمكن القول أن هذا التشوه هو المسئول عن بنية سوق العمل في دول الأطراف، وهو أيضاً المسئول عن موقع هذه الدول في سوق العمل الدولي. وهكذا في ظل نظم التعليم والتربية القائمة تظل عَصّارة البرتقال في عمل دءوب من أجل اعتصار كافة القدرات الجسدية والعقلية والنفسية والوجدانية والاجتماعية للأفراد في دول الأطراف، ومن أجل خدمة القوى المستفيدة من عملية التنمية المشوهة في تلك الدول، والقوى الصناعية المستفيدة في دول المركز، وفي الأخير يعود الكم الأكبر من خلاصة عُصّارة نصف حبة البرتقال إلى الوعاء الاقتصادي لدول المركز، في حين لا يحظى الوعاء الاقتصادي لدول الأطراف إلا بقدر ضئيل من هذه العُصّارة.