قد يظن البعض أن التقدم العلمي والتكنولوجي الحديث والمعاصر ليس له باب إلا السياسة والمناهج العلمانية ، وما يسميه الآخرون بالعولمة والعقلانية ، وغير ذلك مما يطلقها التنويريون المزيفون على علوم الكون والتقدم المادي ، حتى أنهم اتهموا الإسلام بالتخلف متابعين فى ذلك توجهات المستشرقين التى ترمى إلى زعزعة عقيدة المسلمين وطمس هويتهم وحضارتهم ، وإلحاق كل تقدم بالغرب الأوربي والأمريكي بخاصة ، وتشجيع مجتمعاتنا على التلقى ونشر التربية والأخلاقيات الاستهلاكية ، وتكريس الهيمنة الرأسمالية الاحتكارية. فقط أنبه إلى أن دائرة العلم فى الإسلام أوسع من ذلك بكثير ، فهى تشمل علوم عالم الملك والشهادة وعلوم الأرض والسماء وما وراء ذلك من عالم الغيب والملكوت بما لا يقاس بالعقل ، فلا تحويه رأس ولا قرطاس 00 ! وليس يعنى أن المسلمين تخلفوا فى فترة من فترات حياتهم أن ثمة عيبا فى الإسلام أو نقصا - حشا وكلا - ، بل العيب كل العيب فينا نحن ما لم نحسن استخدام موارنا البشرية والعلمية وثرواتنا الطبيعية فى البناء والتعمير وعمارة الكون وصلاح الحياة ، فنحن أمة مستخلفه إن قامت بوظيفتها خير قيام فتحت عليها أبواب السماء والأرض خيرا وبركة ؛ فضلا من الله ونعمة ، وإلا فلتندبوا حظكم ، فالإسلام لا شأن له بتخلفكم. وعموما ، هناك ثلاث مجالات علمية ؛ وإن كانت مرتبطة - فى تصورنا - بعضها بالبعض إلا أننا سنفصلها تقريبا للدرس والشرح والتفهيم ، وهى : 1- علوم الآخرة وما يرتبط بها من علوم القرآن والحديث والتفسير والفقه وغيرها من علوم التربية النفسية والخلقية والتصوف 00 وهلم جرا ، فلا يستطيع العقل وحدة أن يستقل بتلك العلوم والمعارف الراقية الرفيعة دون الاسترشاد بنور الوحي والشرع والدين وإلا ضل فى دياجير الظلام. 2- علوم عقلية ، وما إلى ذلك من علوم إنسانية ( علوم حياتية ) كالفلسفة والمنطق والرياضيات والسياسة وعلم النفس والأخلاق والفنون والآداب والاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد وما شابه ، هى علوم لا تستقيم بإعمال العقل فيها فقط ، بل لا بد لها من سور ؛ ومنهج مرتبط بالقسم الأول وهو علوم الآخرة. 3- علوم حقلية ومعملية تجريبية مثل الفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم التجريبية والمعملية. ولقد فصل العلماء المسلمون القول فى هذه العلوم ومدى ارتباطها ببعض ، فقط لا بد من التمييز بين مجال كل علم حتى لا يحدث تعارض وصعوبة فى الفهم ، فلا يعقل أن ندرس علوم الآخرة كما ندرس العلوم التجريبية فندخل الشريعة وأحكامها مثلا داخل قارورة اختبار00! أقصد أن لكل مجال منهج خاص لا يصلح إلا به ، ولا يمكن التوصل إلى نتائج صحيحة من دراسته إلا بإتباع المنهج المناسب له . ويمكن أن نتفهم تلك المجالات السابقة ومناهجها كما يلى : 1- العلوم التجريبية كالفيزياء والكيمياء والفلك والفضاء الخارجي لا يصلح معها إلا منهج الاستقراء والمنهج التجريبي وما يتصل به من آليات تكنولوجية ومعدات معملية تناسب مجاله المادي الفيزيقي والكوني . 2- العلوم الإنسانية مثل الفلسفة والمنطق والرياضيات وغيرها يصلح معها المنهج العقلي والمنهج الاستنباطي ، فهى علوم عقلية برهانية فى المقام الأول ترتبط بعالمنا المشاهد وحواسنا الخمسة الظاهرة المعروفة من سمع وبصر وشم وذوق ولمس. 3- علوم الآخرة لا يصلح معها إلا المنهج الإيماني وهو منهج باطن يناسب طبيعة تلك العلوم الغيبية ، اصطلح عليه أساتذتنا نحن أصحاب الدراسات الصوفية الدقيقة ؛ وتعارفوا عليه باسم المنهج الذوقي فى الفكر والعقيدة والسلوك جميعا ، فهو منهج مهيمن على كل المناهج ، ولكنه - لا يتدخل فى عملها ، بل يعمل على ضبطها وعدم الشطط فى سيرها ؛ فهو لها كالسور للحديقة الغناء حتى تكون نتائجها نافعة فى صلاح الكون وسلامة النفس ورقي الحياة. يبقى أن الأستاذ / عباس محمود العقاد ألف كتابه القيم ( التفكير فريضة إسلامية ) حتى يدفع عن الأمة ما يواجهها من اتهامات بأنها تهمل العقل والمنهج العقلي فى سيرها العلمي ، فأكد على سلامة المنهج الإسلامي وسلامة العقل المسلم ، فلا شأن لنا بهؤلاء المغيبين من أصحاب الخلفيات المعاندة المتواكلة ، أو المعادية لحضارة المسلمين التى ما زالت أوربا وأمريكا تتقوت عليها حتى يومنا هذا. وكذلك ألف شيخ الأزهر المرحوم الدكتور / عبد الحليم محمود كتابه الفريد ( الإسلام والعقل ) ليدفع عن الأمة هجمات التنويريين من العلمانيين الذين يتهمون الدين الإسلامي بأنه علة تخلف الأمة ، فكان كتابه هذا يتيمة العقد بين كتبه خاصة وبين ما ألف فى هذا المجال بعامة ؛ متابعا ومتوافقا تماما مع منهج الأمة الصحيح ؛ كما أكد عليه علماء أمتنا فى مجال العلم التجريبي كالفيزياء وغيرها من علوم الكون والمادة وما استحدث مؤخرا من علوم تكنولوجية متقدمة ، لعل ( النانو تكنولوجى ) أحدثها حتى الآن – على حد علمى المتواضع - من ناحية ، والعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق والرياضيات من ناحية أخرى ، وكذا كان مؤكدا على ما فهمناه من هيمنة علوم الآخرة وتقدمها على سائر العلوم ، فهى كالأم لباقى العلوم مهما علت أو نزلت ، فلا ينفك علم من العلوم صغر أو كبر عنها طالما ينهج منهجا لا يخالف العلم الصحيح فى المنهج والتطبيق ظاهرا وباطنا شريعة وحقيقة فى الفكر والعقيدة والسلوك جميعا. ( وعلى الله قصد السبيل ) دكتور / عبد العزيز أبو مندور [email protected]