حين كنت مبتعثا للدراسة فى جامعة لافال بدولة كندا مررت بموقف تعليمى ما زال اثره عالقا بذهنى وهو اكثر حضورا الان، فى شهر يناير اذ يبلغ الصقيع حد الزروة فى دولة تقبع فى عمق شمال القارة الامريكية بين الثلوج والعواصف ، وبعد جهد جهيد للوصول الى الجامعة فى يوم عاصف وبينما Diane Huot - المحاضرة بالجامعة, والتى تجاوز عمرها السبعين عاما- منهمكة فى النقاش ياتى اليها اتصال تليفونى من احد الطلاب الكنديين ليخبرها انه عالق فى المنزل لا يستطيع الخروج بسبب العاصفة الثلجية التى اسقطت بعض الاشجار امام منزله، ومن سياق الحوار ظننت ان هذا الاتصال هو فقط لمجرد تبرير عدم الحضور، لكن هذا الظن تبدد بعدما تحركت Diane Huot مسرعة باتجاه الباب لتعود بعد دقائق معدودة وهى تحمل بين يديها كمبيوتر محمول اضافى، وتضعه على منضدتها باتجاهنا ليطل علينا الزميل -الغائب الحاضر- بصورته وصوته عبر برنامج سكايب، ما اثار اعجابى - ولا يزال - رد الفعل السريع والمباشر للتعامل مع هذه الحالة الطارئة، وهذا الالتزام الاخلاقى من جانب الاستاذه التى تعاملت باحترافية مع هذا الموقف، وقد ايقنت بعد تفكير عميق ان رد فعلها لم يكن وليد اللحظه، بل هو نتاج لخطط مسبقة الاعداد والتجهيز لمنظومة تعليمية ترتكز على اسس علمية، لا مكان فيها للارتجال. حضرنى هذا الموقف التعليمى بقوة فى هذا التوقيت بالذات ونحن نبحث عن بدائل سريعة لاستبدال المؤسسة الرسمية بمؤسسة افتراضية لم يعتد الطلاب والمعلمون عليها من قبل، بخلاف عدم جاهزية الكثير من المعلمين او الطلاب باجهزة لوحية او مكتبية متصلة بالانترنت لا سيما ولدينا تجربة غير جيدة فى نهايات العام الماضى فيما يتعلق بالاختبارات عن طريق التابلت الذى هو بالاساس اداة مساعدة وليست اساسية لا فى التعليم ولا فى التقويم. ونحن نناقش هذه القضية بشكل موضوعى لابد ان نشهد بانصاف ان وزارة التربية والتعليم لم يكن لديها بدائل عن الاخذ بالحدود الدنيا للتعليم فى زمن الطوارئ، اذ ان خيار الالغاء أو التعليق المطلق للدراسة لم يكن من الخيارات الجيدة خاصة ونحن نتعامل مع وباء لا تستطيع أى من الجهات الدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية أن تعلن عن وقت محدد لانحساره، اذا لا بديل عن التعلم عن بعد ولا بديل عن المنصات التعليمية التى توفر المحتوى والتقويم للطلاب فى المنازل، اما قضية الثقافة المجتمعية لتقبل هذا التحول من عدمه فهى ليست منوطة بوزارة التربية والتعليم وحدها بل هى مسئولية يتحملها الجميع، وحتى نكون اكثر انصافا فان الاضطراب المتعلق بالتعليم فى زمن الطوارىء لم يكن قاصرا على جمهورية مصر العربية فقط أو الاقطار العربية وحسب بل ان بلدانا تعد فى مصاف الدول التى احرزت تقدما هائلا فى مجال التعليم ايضا واجهت ذات المصير، فبعد تعليق الدراسة فى فرنسا –مثلا- لم يكن من بديل عن التحول الى التعلم عن طريق منصات تعليمية بديلة عن مؤسسات التعليم الرسمية، ومن خلال متابعتى للقضية على صفحات الجرائد الفرنسية، وجدت الكثير من التخوفات بل والتساؤلات المتعلقة بالتعليم فى زمن الازمات تتشابه مع ذات المخاوف التى عانيناها وما زلنا وايضا ذات التساؤلات من مثل: هل نحن قادرون على توفير التعليم عن بعد لاسابيع او لاشهر قادمة؟ كيف سيتعامل المعلمون مع هذه التغيرات المفاجئة؟ كما ان هذه التساؤلات لم تغفل جوانب اقتصادية هامة من مثل: هل كل التلاميذ يمتلكون اجهزه لوحية مدعومة بشبكات انترنت قوية تمكنهم من التواصل الفعال ؟ لكن الفارق الحقيقى فى التعاطى مع هذا التحول ان الكرة لم تكن ابدا فى ملعب وزارة التعليم الفرنسية وحدها بل تحول الامر الى قضية تتطلب تكاتف كل قوى المجتمع الرسمية و المدنية، وعلى اثر ذلك اعلنت مجموعةFrance EdTech وهى مجموعة من الشركات التعليمية الرقمية عن التعاون الفورى وان الحلول حاضرة وبقوة من خلال: دروس افتراضية ، منصات تعليمية ، شبكات اجتماعية تعليمية ، ادوات اتصال وتقييم ومراجعة، بل واعلنت ايضا عن جاهزيتها لتوفير أجهزة لوحية تسمح لكل طالب بالاستمرار فى متابعة التعليم عن بعد فى افضل الظروف، ايضا قامت العديد من دور النشر وشركات البرمجة بعرض خدماتها فغدا التحول سلسا انسيابيا. مشكلات البحث عن بدائل لم تكن قاصرة على فرنسا وحدها بل كانت مثار تساؤلات عديدة فى كثير من دول العالم المتقدم مثل الولاياتالمتحدةالامريكية واستراليا والمملكة المتحدة حيث كانت الاشارة دائما الى انه فى حال اغلاق المدارس فلن يكون هناك بديل عن التعلم عبر الانترنت الذى قد يسمح للتلاميذ بمواصلة تعليمهم لكنه سينتج عنه مشكلات متعددة منها صعوبة الحفاظ على حماس التلاميذ ، بخلاف احتمالية تاثر صحتهم العقلية اذ قد يضطر التلاميذ الى البقاء امام أجهزتهم اللوحية المحمولة لساعات طويلة دون تفاعل اجتماعى حقيقى مما يزيد من عزلتهم وما يترتب على ذلك من اضطرابات نفسية. اذا قد تكون المشكلات مشتركة لكن التعويل فى النهاية على الحلول المبتكره وتغيير المعتقدات، قد يستغرق ذلك وقتا لكن النتائج فى النهاية حتما ستكون رائعه، وبالبحث نجد ان من اكثر المعتقدات الخاطئة التى علقت باذهان الكثيرين أن محاولات التحول الرقمى او الافتراضى – فى الاحوال العادية- سيترتب عليها اغلاق المدارس النظامية امام التلاميذ، وهم فى الحقيقة لا يستوعبون ان التحول الرقمى ما هو الا اداة مساعدة فى ظل حاجتنا الى الاتصال بالعالم الخارجى والاستفادة من خبراته خاصة فى ظل الانفجار المعرفى وبعد ان تحولت القارات السبع –باستثناء القارة الجنوبية القطبية- الى قرية صغيرة، وهذا الاعتقاد الخاطىء ترتب عليه مخاوف عديدة خاصة لدى اولياء الامور، مع ان العديد من الدراسات جاءت نتائجها بالتاكيد ان التلميذ لا بد ان يتعلم فى سياق نظامى، وان التحول الرقمى لم ولن يكون بديلا عن المدرسة، وهذا ما اكدت عليه منظمة اليونسكو وكان من اولويات جدول أعمالها المتعلق بالتعليم حتى عام 2030و الرامي إلى ضمان أن تقام نظم تعليمية أكثر قدرة على الصمود وتلبية الاحتياجات في مواجهة ظروف النزاع والاضطرابات الاجتماعية والمخاطر الطبيعية مع ضمان استمرارية توافر التعليم في حالات الطوارئ وفي أوضاع النزاع وما بعد النزاع، وأن يبقى التعليم حتى في حالات الطوارئ الصعبة، التي تفقد المجتمعات فيها كل شيء، في مقدمة الأولويات بالنسبة للأسر، وهذا معناه ان التحول الافتراضى الكامل لن يكون الا فى حالات طارئة يصعب معها وصول التلميذ الى المؤسسة الرسمية النظامية، كما ان اليونسكو لم تغفل التاكيد على ضرورة مشاركة جميع المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني والقطاع الخاص والشباب والأمم المتحدة والوكالات متعددة الأطراف لمعالجة التحديات التعليمية وبناء أنظمة تعليمية شاملة وعادلة وذات صلة بجميع طالبي التعليم. لا ننكر ان وزارة التعليم المصرية قد خطت خطوات تتسم بالجرأة من اجل مواكبة التسارع التكنولوجى والقطار الرقمى الذى لا يتوقف، ومن اجل اللحاق بركب التطور فى منظومة التعليم واساليب التقويم، وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة، الا اننا لم نرصد من بين هؤلاء المنتقدين من يقدم لنا مشروعا بديلا، فغدا الانتقاد خارج اطار الموضوعية، وهذا ليس دفاعا بقدر ما هو توصيف لواقع، قد يعاب على وزارة التعليم اهتمامها المتزايد بقمة الهرم فى الوقت الذى تهمل فيه القاعدة وهى احق بالعناية والرعاية، كما يعاب عليها ايضا عدم التفاتها الى ضرورة توائم التطوير مع الواقع بكل ما يشتمل عليه من خلفيات معرفية وثقافية، اذ ان من مسلمات فلسفة التطوير ان يكون اصيلا فى ارتباطه بالعناصر المادية، ومع ذلك فقد تكون الامكانات المادية ضرورية لكن ندرتها ابدا لن تكون عائقا امام ارادة التطوير، والتجربة السنغافورية خير دليل على ذلك وهى قصة نجاح غير عادية، فى اقل من خمسين عاما تحولت من جزيرة فقيرة ليس لديها موارد طبيعية، ومعظم سكانها يعانون الامية والفقر الى بلد يحوى 4.7 مليون شخص مستوياتهم المعيشية تماثل الدول الاكثر تطورا ولا يمكن بحال ان يكون هذا الانطلاق نحو القمة بمعزل عن منظومة تعليمية متميزة تأخذ بكل عوامل النجاح، وما التجربة الفيتنامية منا ببعيد، وهى الاقرب الينا زمانا، ومن المعروف أن الاخيرة هى من اصعب التجارب الانسانية على الاطلاق، عانى معها الشعب الفيتنامى ويلات الحرب والدمار، لكن على الرغم من ارث فيتنام الثقيل فى الماضى من حروب واستعمار وكفاح ومقاومة الا انها اكتشفت ان جبهات القتال لن تصمد الا اذا صمدت جبهات التعليم والثقافة، فأصبح التعليم بالنسبة لها منهج حياة، وكان نتيجة لذلك ان تحتل فيتنام المرتبة 12 على مستوى العالم فى التعليم، وقد استطاعت القضاء على الامية فى ثلاث سنوات، ايضا ومن اجل الحفاظ على هويتها فقد تم فتنمة العلوم فتم تدريس الطب والصيدلة باللغة الفيتنامية، وقبل كل شىء ونظرا لحالة عدم الاستقرار التى عانى منها الشعب الفيتنامى، فقد كان التعليم فى زمن الطوارىء على راس الاولويات عن طريق اعداد خطط بديلة، وصياغة مناهج مرنة ، والاعتماد على الجوانب التطبيقة اكثر من الجوانب النظرية، وكان شعارها: لكى تنجح فلابد ان تتعلم ان تميل مع الريح حيث مالت، ومن الامور التى تستحق التوقف عندها ان تتفوق فيتنام فى اختبارات بيزا عام 2012 فى الرياضيات والعلوم على الولاياتالمتحدةالامريكية، وفى التصنيف العالمى الصادر عن منظمة التعاون والتنمية 2015 احتلت فيتنام المرتبة 12 بينما احتلت الولاياتالمتحدةالامريكية المرتبة 28 عالميا. اذا فليس من المعقول ان نلتفت الى دعاوى التخزيل وأنه ما من فائدة من التطوير، بل لابد ان نؤمن بان التطوير هو عملية تراكمية لا تتم فى صورة فجائية غير مدروسة، وعليه فاذا أردنا تطويرا حقيقيا فلابد ان نتعامل مع قضية التعليم على انها منهج للحياة واسلوب للتعايش وليس مجرد مجموعة من المعارف والنظريات المنفصلة عن الواقع، وعليه ايضا فلابد من التحقق الى أى مدى تتوائم مناهجنا التعليمية مع احتياجات المتعلمين أولا ثم مع متطلبات سوق العمل ثانيا، ايضا تمكين الشراكة المجتمعية بصورة أكثر فعالية، ولا يمكن بحال من الاحوال اغفال المشاركة الوالدية فى التعرف على ميول واهتمامات ابنائهم فى شتى المراحل الدراسية مع مد جسور التواصل مع المؤسسات التعليمية، وفى الاخير فلابد ان ننتبه الى التطورات المتلاحقة سواء من جهة التغيرات المناخية التى بدات تطرأ فى الاونة الاخيرة، اضافة الى الاوبئة والفيروسات التى تظهر بين الحين والحين نتيجة لانكسار حاجز العزلة بين الدول والقارات وهو ما يتطلب ايجاد بدائل سريعة ومجدية فى أوقات الازمات والطوارىء، وقد يكون المخرج فى ذلك أن يكون لدينا خطوة استباقية بأن يكون لكل منهج مدرسى يدرسه المتعلم – فى الاحوال العادية- جانب تطبيقى يؤديه عن بعد عبر شبكة الانترنت، وأن تكون المنصات التعليمية حاضرة بشكل اساسى فى التواصل بين التلميذ واستاذه، وبذلك ترسخ ثقافة التعلم عن بعد فى أذهان المتعلمين والمعلمين واولياء الامور أيضا، ورويدا رويدا يصبح التعلم الالكترونى بما يشتمل عليه من مؤثرات وعوامل جذب جزءا أصيلا وفى القلب من منظومة التعليم فى مصر. حفظ الله مصر والانسانية جمعاء من كل مكروه وسوء