ارتشف رشفة من قدح قهوة على مكتبه ثم نظر إلى الوقت في معصمه .. " انها تقترب من العاشرة صباحاً ! " قطّب ضاغطا ً أسنانه يلملم شتات فكره المبعثر ثم جعل يحدِّق في صورة مثبتة أمامه على الجدار .. يلوح في نظراته بريقا ً مضطرباً ينشد الاستقرار .. حان وقت التحقق من الهواجس التي انتابته في الآونة الأخيرة بعد أن أخذ الشك يتسلط على أفكاره و يطيح بكل ما في رأسه ليتربع متسيداً مسيطرا ً على تصرفاته و أفعاله .. أطرق ينظر بين أنامله إلى سيجارة مشتعلة قد قربت من نهايتها تكاد أن تحرق أصابعه ثم تمتم خاطره المشتعل : - إنه عقب سيجارة مثل هذا !! قد أضرمت النيران في أعماقه و زلزلت كيان يقينه .. تخيلها و هي تخطر في أبهى ثيابها لتستقبل عشيقها .. الوقت المناسب للهو و العبث .. الأولاد في المدرسة و الزوج في العمل !! و فرصة سانحة لانطلاق الغرائز !! ثاب إلى رشده و هو يرى الفراش يلج و يتأرجح بسكرات العشق .. انتفض واقفاً و خرج على عجل ثم ركب سيارته و انطلق كالبرق متمتما ً في غضب : - لابد من المداهمة و المعركة في أوجها !! رقى الدرج مسرعا ً خفيفاً يسارع خفقان قلبه .. و في هدوء وحذر أدار المفتاح في الباب ثم هرول كشبح قاصداً غرفة النوم الموارب بابها .. ألقى ببصره إلى الفراش وجدها تغط في نوم عميق !! نظر يمين الفراش و يساره ثم استدار و قصد غرفة الأولاد ثم الردهة يفتش هنا و هناك إلى أن سكنت جوارحه و هدأت أنفاسه اللاهثة .. عاد مرة أخرى إلى غرفة النوم و شرع يتطلع إلى زوجته النائمة .. رآها كملاك افترش زرقة السماء و هام بين النجوم في أحلام بريئة طاهرة .. تساءل : - كيف تأتّى لهذا الكائن اللطيف أن يخون ؟! .. كيف وجد الخداع طريقة الي هذا المخلوق الوديع الذي يقطر رقة و عذوبة ؟! فتحت عينيها عندما استشعرت وجوده ثم فركتهما و هي تنتصب في دهشة عندما رأته أمامها يحدجها بنظرات واجمة قد خبا بريقها خلف الدموع .. اختلجت ثم قطّبت منزعجة و هي ترفع عن عينيها خصلات ذهبية من شعرها و قد انسدلت على جبينها الندى .. و بصوت مضطرب يرتجف لارتجاف بدنها الغض هتفت : - ما الأمر ؟! و اتسعت عيناها تستجلي مالاح على وجه زوجها من مسحة حزن .. ثم في لهفة : - هل الأولاد بخير ؟ أومأ برأسه ايجاباً .. فتنهدت و تمتمت قائلة : - الحمدلله .. اعتقدت ( هي ) أن الأمر أجل و أفدح في خسائره .. فأخذت تستشعر حواسها مستعينة بفراستها و ملكة الملاحظة لديها ، فالامتقاع و الوجم اللذان بديا على وجه الزوج لا تطمئنان ..بل توحيان بأمور شتى و خطيرة ... طلبت منه أن يستريح ريثما تعد ّ له قدحاً من القهوة يهدئ من أعصابه ثم متخذة من ذلك فسحة من الوقت للتفكير و رفع درجة الاستعداد لاحتواء الأنباء مهما كانت درجتها من الخطورة .. انطلقت إلى المطبخ على الفور و قد انخرطت في تفكير عميق حتى أنها لم تسمع خطوات زوجها الذي خرج مسرعا ً و صوت الباب الذي صُفق .. لقد خيل إليها أن زوجها المسكين قد أفلس أو أصابته كارثة مالية ثم وجد صعوبة في أن ينقل إليها الخبر إشفاقاً عليها و على أولادهما .. فغُيِّمت عيناها بالدموع معبرة عن حال ذاته ثم حاورت سريرتها : - نعم إنه كذلك !! كما توقعت ! لكن لماذا ينظر إليّ تلك النظرات الغريبة ؟! .. إنها المرة الأولى التي أراها في عينيه ؟! و احتارت في تفسير مغزاها ثم انتبهت على صوت انطفاء نار الموقد بفعل القهوة التي فارت . جعل الزوج يسير بسيارته على غير هدى " فاليوم لا يصلح للعمل على أية حال " .. توقف عند الإشارة الحمراء ثم بدت منه التفاتة غير مقصودة إلى السيارة التي تقف بجواره فلفتت نظره منظراً لامرأة جميلة تجلس بداخلها طارحة رأسها إلى الخلف على مسند الكرسي و شعرها الأسود يتطاير ثم يتدلى على وجهها في شكل بديع بفعل الهواء الذي كان نشطا ً في تلك الظهيرة .. زمجر و غمغم : - جميلات !! .. خائنات !! .. كالذي أراد أن يثأر لكرامته الجريحة ، فمنذ أن رأى عقب سيجارة ملقى في الشرفة ( البلكونة ) وهو نهباً للوساوس و الأفكار السوداء .. يشك في أي إماءة تصدر من زوجته تجاه أي شخص أو التفاتة أو حتى نظرة عفوية معتقداً أنه صاحب عقب السيجارة !! ثم أخرج سيجارة من علبة سجائره و أشعلها و هو يتمتم : - تباً لهن من ممثلات بارعات !! و تنهد بعمق كمن أشعل وجدانه .. و فتحت الإشارة و ضغط بعنف كمن يدعس عقب سيجارة فانطلقت السيارة صارخة ً مزمجرة ً .. مضى كثير من الوقت و هو على حالته هذه .. متجولاً بسيارته شاردا ً في تفكيره إلى أن أصابه الإعياء و نال منه التعب فعاد إلى المنزل مكفهر الوجه ، واجم النظرات ، يترنح كطير ذبيح .. شرعت الزوجة تستقبله بابتسامة مشرقة و ترحيبها المعتاد إلا أنها عندما رأت زوجها على ذلك الحال قد فترت بسمتها و استحالت عبارات الترحيب إلى استفسارات و أسئلة .. لكنها لم تجد رداًّ شافياً فآثرت الصمت و ذهبت لاعداد الطعام ، فما كان منه إلا أن ذهب إلى الشرفة مباشرة يفتش في ارجائها ، و عندما لم يجد ما يبحث عنه ارتمى على كرسي بجانبه ملقيا راسه الى الخلف ثم وضع قدميه على منضدة امامه ينشد الراحة و الاسترخاء .. لم تمض فترة وجيزة إلا و هبتّ نسمة باردة جلبت معها اصوات و حفيف الأشجار القابعة على الطريق ثم لم تلبث ان اشتد هواؤها حاملا معه غبارا و رمادا .. و بحركة تلقائية رفع يده من اجل ان يحمي عينيه التي ضاقت بفعل الغبار و حلك ابصارها قليلا فخيّل اليه انه يرى أعقاب سجائر قد رافقت الغبار فأطلق لبصره العنان ليراها قد استقرت متكومة في قاع الشرفة !.. اشرأب رأسه خارجاً ثم نظر الى أعلى فوجد مصدرها سطح المنزل! .. ثم سمع جلبة و أبواب تصفق لسكّان الدور العلوي!.. اتكأ على الجدار و التفت خلفه ليرى زوجته دالفة اليه تحمل بين يديها ( صينية ) الطعام .. يلوح على وجهها التأثر الشديد و يروم في عينيها بريق ينم عن عطف و حنان جليين .. حدق اليها ملياً ثم مطّ شفتيه و كورهما و هو يشير الى أعقاب السجائر ثم انفجر في نوبة ضحك مقهقها و هو يرتمي على الكرسي مرة اخرى !! و قد أدرك ان شكه في زوجته أوهاماً أو دخاناً انبعث من عقب سيجارة . بقلم السيدالعربي رزق