قال صلى الله عليه وسلم " أنا شيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق الأرض عنه وأنا أول شافع وأول مشفع بيدى لواء الحمد تحته آدم فمن دونه" ( جامع السنن للترمذى: وقال حديث حسن.) إذن النبي صلى الله عليه وسلم أول شافع وأول مشفع، فقد اختصه الله سبحانه وتعالى بالشفاعة والمقام المحمود يوم القيامة ، فلا يفتح باب الشفاعة يوم القيامة غيره صلى الله عليه وسلم. وهذا يعنى ألا يقوم أحد من النبيين أو غيرهم فى مقامة وعلى ذلك المقام المحمود الذى لا يكون لأحد غيره. ولا يختلف أحد من علماء المة وحكمائها على ذلك من الحق. والأحاديث فى شفاعته صلى الله عليه وسلم وتقدمه لفتح باب الشفاعة فيمن له أهلية الشفاعة كثيرة ، لا يسع المقام لذكرها جميعها ولكن كلها تؤكد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع بلا منازع وهو صاحب المقام المحمود. قال صلى الله عليه وسلم يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. قال " فيقول لست هناك " قال " ويذكر خطيئته التى أصاب أكله من الشجرة وقد نهى عنها ولكن إئتوا نوحا أول نبى بعثه الله إلى أهل الأرض " فيأتون نوحا فيقول لست هناك ويذكر خطيئته التى أصاب سؤاله ربه بغير علم، ولكن إئتوا ابراهيم خليل الرحمن " قال " فيأتون ابراهيم فيقول إنى لست هنالك ويذكر ثلاث كلمات كذبهن، ولكن إئتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا قال فيأتون موسى فيقول إنى لست هنالك ويذكر خطيئته التى اصاب قتله النفس ولكن إئتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته، قال فيأتون عيسى " فيقول لست هنالك، ولكم إئتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتونى، فإستأذن على ربى فى داره فيؤذن لى عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعنى ما شاء الله أن يدعنى، فيقول ارفع محمد وقل يسمع واشفع وسل تعط " الحديث قال ثم تلا هذه الآية " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " قال " وهذا المقام المحمود الذى وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم " (صحيح البخارى ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يهتمون أو قال فيلهمون فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا، ومن طريق آخر عنه قال الناس بعضهم فى بعض عن أبى هريرة وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغم ما لا يطيقون ولا يحتملون يقولون ألا تضطرون من يشفع لكم ... الحديث . (القاضى عياض: الشفا، الجزء الأول.) هذا افتتاحه باب الشفاعة فهو أول شافع وأول مشفع فى أمته صلى الله عليه وسلم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل نبي دعوة مستجابة فأريد أن تختبئ دعوتى شفاعة لأمتي يوم القيامة " (صحيح مسلم) وأفرد القاضى عياض فصلا فى كتابه " الشفا بتعريف حقوق المصطفى، فى تفضيله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة والمقام المحمود ، وكل ما جاء فى موضوع الشفاعة والمقام المحمود وارتباطهما بسيادته صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم على الخلائق . وهكذا تتفق أقوال العلماء وأصحاب الذوق والشهود مع العلم الصحيح فى استقامة ووزن وقسط وخير فاضل ، وبعلم لا يدعو مجالا للشك وأن لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المقام المحمود والسيادة يوم القيامة على جميع الخلائق وأشرفهم النبياء والمرسلين . يقول الإمام أبو حامد الغزالى " إذا حق دخول النار على طوائف من المؤمنين فإن الله تعالى بفضله يقبل فيهم شفاعة الأنبياء والصادقين بل شفاعة العلماء الصالحين ، وكل من له عند الله تعالى جاه وحسن معاملة ، فإن له شفاعة فى أهله وقرابته وأصدقائه ومعارفه فكن حريصا على أن تكتسب لنفسك عندهم رتبة الشفاعة ذلك بألا تحقروا آدميا اصلا فإن الله تعالى خبأ ولايته فى عباده ، فلعل الذى تزدريه عينك هو ولى الله . ولا تستصغر معصية أصلا فإن الله تعالى خبأ غضبه فى معاصيه فلعل مقت الله فيه . ولا تستحقر أصلا طاعة فإن الله تعالى خبأ رضاه فى طاعته ، لعل رضاه فيه ولو الكلمة الطيبة أو اللقمة أو النية الحسنة أو ما يجرى مجراه . وشفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأمته ثابتة بنص القرآن والسنة . قال الله تعالى " ولسوف يعطيك ربك فترضى " (الضحى : 5) روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام : " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم " ( ابراهيم : 36 ) وقول عيسى عليه السلام " إن تعذبهم فإنهم عبادك " (المائدة : 18) ثم رفع يديه وقال " أمتى ثم بكى ؛ فقال الله عز وجل " يا جبريل إذهب إلى محمد فسله ما يبكيك؟ " فأتاه جبريل وسأله فأخبره والله أعلم به فقال " يا جبريل إذهب إلى محمد فقل له أنا سنرضيك فى أمتك ولا نسؤك ." ( صحيح مسلم فهذه شفاعته لأمته صلى الله عليه وسلم فهو مشفع بالإضافة إلى كونه أول شافع، فلا يقوم أحد مقامه وهو المقام المحمود الذى ينفرد به صلى الله عليه وسلم فلا يشاركه فيه أحد لا نبي ولا رسول ولا ملك ولا غير ذلك ، ثم تتلوه شفاعة الشافعين من نبى وولى وما إلى ذلك ، ثم تأتى شفاعة ارحم الراحمين على ما قاله ابن عربي فى ( الفتوحات المكية ). ويبدو ان ابن عربي استخرج ذلك من الحديث الذى رواه افمام مسلم فى صحيحه المعروف باسمه ( صحيح مسلم) وهو حديث طويل جاء فيه : " فقال أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ، ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم. قيل : يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان ، فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم ؛ حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا . وكان أبو سعيد الخدري يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " فيقول الله عز وجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين ؛ فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا : يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية . قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة ؛ هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ، ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم ، فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، فيقول : لكم عندي أفضل من هذا ، فيقولون : يا ربنا أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول : رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا." ( قال مسلم قرأت على عيسى بن حماد زغبة المصري هذا الحديث في الشفاعة وقلت له أحدث بهذا الحديث عنك أنك سمعت من الليث بن سعد فقال نعم .) أى شرف أعظم من شرف محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقد صحت له السيادة على كافة الخلائق يوم القيامة كما كانت له السيادة فى الدنيا بكل وجه. هذا هو الشفيع الحق محمد صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا له الأولية والتقدم على سائر الأنبياء عليهم السلام فى أشرف مقامات الآخرة وهو المقام المحمود الذى يظهر فضله على الخلائق جميعا وأعظمهم الأنبياء ، فإذا كان هذا الشفيع ما علمه (فيلون السكندرى) فهو كذلك. أما إذا كان بخلاف ذلك فإن المناظرة بين الشفيع عند ابن عربي والشفيع عند فيلون تكون عبثا لأنها شكلية. وبهذا يكون قد رد كيد الحاقدين فى نحورهم الذين أقاموا زوبعة من التشكك فى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهم حفنة من الموتورين الذين سموا أنفسهم بالتنويريين والعقلانيين من العلمانيين والشيوعيين و الماسونيين وحملة الشهادات والجوائز العالمية من أدباء وسياسين وإعلاميين ومفكرين وصحفيين ، فلا دعوى لهم. ( مستلة من كتابنا : الاصطفاء والاجتباء وأنوار الأنبياء ) ( وعلى الله قصد السبيل ) دكتور / عبد العزيز أبو مندور [email protected]