في التاسع من مايو من العام 1882 وفي حي المغربلين بالقاهرة , كان ميلاد الطفل محمد , لأب هو مأمور قسم الخليفة وأم من سيدات مصر الطيبات .. لكن وقبل أن يتم عامه الثاني , ولأنه كان طفلاً بهي الطلعة جميلاً , ناله سهم من سهام إبليس , بعد أن شاهدته إحدي جيران أمه , وأبدت دهشتها من شدة جمال الطفل وإتساع عينيه وجمالهما , واصفة إياهم بالعينين الملكيتين !! أي أنهما " عينا ملِك " وليست عين طفل من أبناء عوام الناس !! ولم يكد يمر أسبوعاً واحداً , إلا وكان الطفل مُحمد قد أصيب بمرض بعينيه فقد علي أثره البصر تماماً لا لشيئ , سوي أن امرأة قد استكثرت أن ينعم الله علي تلك الأسرة بطفل جميل العينين ... ألحقه والده بعدها بالكتاب ليحفظ القرآن الكريم , كونه قد بات طفلاً كفيف البصر , ليتمكن بعدها بثلاث سنوات من حفظ كتاب الله كاملاً عند سن الخامسة , ولم يكتفي بذلك ' بل قام بعدها بدراسة علم القراءات وعلم التفسير , كما تعلم المقامات الموسيقية , وهو الأمر الذي ساعده كثيراً فيما بعد . في العام 1890 توفي والده فجأه , ليتلقي الطفل صدمته الثانية !! ها هوالآن وقد أصبح مسئولاً عن أسرته , وعائلها الوحيد وهو طفل لم يكمل بعد عامه التاسع , بسبب فقدانه للوالد , ومن قبلها كانت صدمته الأولي في فقد البصر. الأمر الذي دفعه إلي قراءة القرآن الكريم بمسجد فاضل باشا "بدرب الجماميز" في حي السيدة زينب , وهو المسجد ذاته الذي كان قد أتم حفظه للقرآن في كُتابه من قبل . ظل الشيخ رفعت يقرأالقرآن الكريم بالمسجد , حتي ذاع سيطه بين الناس , الأمر الذي جعل الإذاعة المصرية وعند إفتتاحها في العام 1934 , ترسل في طلبه ليقوم بتلاوة آيات الذكرالحكيم تيمناً بصوته الذي استحسنته الناس كثيراً عند استماعها إليه بالمسجد , ليقف الشيخ متردداً في قبول الدعوة من عدمه , بل ومرتاباًً في جواز التلاوة بالإذاعة من الأساس ليتوجه الي الشيخ محمد الظواهري " شيخ الأزهر في حينه " فيجيز له التلاوة في الإذاعة , لتبدأ الإذاعة المصرية إرسالها للمرة الأولي ب (( إنا فتحنا لك فتحاً مبينا )) آيات بينات من سورة الفتح بصوت القارئ محمد رفعت . إن تلك الواقعة في حد ذاتها , تمكننا ربما من الوقوف علي مدي حرص الشيخ , عليه رحمة الله علي التحري والتدقيق الشديد قبل الإقدام علي أخذ أي خطوة , والوقوف علي مدي شرعية جوازها من عدمه , بل وتكليف النفس عناء الذهاب الي شيخ الأزهر لإستفتاءه قبل الإقدام علي اتخاذ تلك الخطوة من الأساس , لم تكن تلك هي المرة الأولي التي يتردد فيها الشيخ , فبعدها بسنوات وعندما طلبت منه هيئة الإذاعة البريطانية " بي بي سي " أن يسجل لها القرآن الكريم بصوته , تردد كثيراً , بل ورفض طلبهم من الأساس , ظناً منه بأنه أمر لاحلال فيه كونهم غير مسلمين , وظل علي رفضه التام إلي أن أفتاه الشيخ المراغي بجواز التسجيل لهم , فوافق في البداية ' لكن وربما لأن الشيخ رفعت لم يكن مطمئناً تماماً إلي جواز ذلك العمل , فاكتفي بتسجيل سورة واحدة فقط وهي سورة مريم !! عُرف عن الشيخ رقة القلب ورهافة الحس , خاصة تجاه الفقراء ويُحكي أنه رحمه الله كان له صديق فمرِض مرض الموت , وقام الشيخ بزيارته فقال له الصديق , أن أكثر مايقلقه هو فتاته الصغيرة , التي لن تجد من يرعاها بعد موته ' فتأثر الشيخ بكلمات الرجل إلي الحد الذي جعله يبكي بحرارة , في اليوم التالي وأثناء قراءته لسورة الضحي , خاصة عندما وصل في التلاوة إلي قول الحق سبحانه " وأما اليتيم فلا تقهر " ليقوم بعدها برعاية إبنة صديقه والتكفل بها إلي أن تزوجت . كان صوت رفعت مزيجاً بديعاً مابين الخشية والخشوع والحنو والقوة , صوت إلتفت حوله قلوب المصريين علي اختلاف طوائفهم , ليس فقط المصريون المسلمون ' بل والأقباط أيضاً. ويحكي أن ضابطاً كندياً إنتهز فرصة وجوده في مصر خلال الحرب العالمية الثانية ' وطلب مقابلة الشيخ رفعت .. سهل له مدير الإذاعة طلبه هذا , وتمت المقابلة , لكن الضابط وفور رؤيته للشيخ بكي بشدة , وقال لم أكن أعلم أنه أعمي ... الآن فقط عرفت سر ذلك الألم العظيم الذي يفيض به صوته العبقري !! رفض الشيخ عرضاً قدمه له أغني وأبخل رجل في العالم " عثمان حيدر أباد " بأن يحضر إلي الهند مع كل من أراد اسطحابه من مساعديه بأجر مائة جنيه في اليوم الواحد مع التكفل بكل نفقات الرحلة والإقامة , فرفض مفضلاً البقاء في مصر وإحياء ليالي الفقراء بالمجان . في العام 1943 أصيب الشيخ بسرطان الحنجرة , وتوقف علي أثره عن القراءة .. ليسارع ملوك ورؤساء وزعماء العالم الإسلامي إلي إبداء رغبتهم في تحمل تكاليف علاجه بأي مكان في العالم , ولكن الشيخ الذي لم يكن يملك أي نقود رفض كل تلك العروض , وقال قولته المشهورة " إن قارئ القرآن لا يهان " . رحل الشيخ عن دنيانا في العام 1950 في نفس يوم ولادته , التاسع من شهر مايو . رحم الله شيخنا , صاحب الصوت الجميل وسيد قراء هذا الزمان .