تكشف جملة المواقف التي اتخذتها القيادة الفلسطينية بشأن الأزمة السورية عن اختيار سياسي واضح يتلخص في الوقوف في الجبهة المناهضة لسوريا ، وإذا كان كل موقف سياسي يستند إلى مجموعة من العوامل والمحفزات التي تعززه أو تلك التي تمنع من اتخاذ الموقف النقيض له ، وهي مسألة تدخل في نطاق قراءة الوضع السياسي قبل أن يتخذ صانع القرار قراره ويحدد موقفه ، فلابد من طرح السؤال حول العوامل والمحفزات التي استند إليها صانع القرار الفلسطيني في اتخاذه لهذا الموقف انطلاقا من حسابات الربح والخسارة التي لا يمكن فصلها عن خصوصية القضية الفلسطينية وموقعها بالنسبة لأي صراع يمكن أن يندلع في المنطقة ، لاسيما وان الحدث الذي نحن بصدده ليس حدثا عاديا أو عابرا ، لكنه من نمط الأحداث التي يؤرخ بما قبلها وما بعدها على كافة الصعد الوطنية والقومية والإقليمية والدولية . هذا المقال محاولة لقراءة العوامل المحيطة بالموقف الرسمي الفلسطيني من الأحداث الجارية على الأرض السورية . أولا : ملامح الموقف الفلسطيني من الأزمة منذ اندلاع الأزمة السورية اتخذت التغطية الإعلامية للأحداث عبر تلفزيون فلسطين بوصفه القناة الرسمية للسلطة الفلسطينية منحى يفتقد للحيادية ويندرج ضمنيا في خانة التحريض ضد النظام السوري ومع تطور الأحداث واتضاح أبعادها ومراميها وطبيعة القوى المحركة لها اتخذ التحريض الضمني طابعا مكشوفا ، ففي اللحظة التي حاولت القوى المناهضة لسوريا وعبر وسائلها الإعلامية المعروفة استغلال الهامش الاجتماعي الفلسطيني عن طريق تضخيم الأحداث التي جرت حول مخيم الرمل ، انبرت مجموعة من الشخصيات الفلسطينية الرسمية في إصدار التصريحات الصحفية المطالبة بحماية سكان المخيمات الفلسطينية من استهداف النظام السوري ، وبطريقة متناسقة ومتناغمة مع تلك القوى . وقد جاء التطور الأهم في الموقف الفلسطيني عندما تخلى وزير خارجية السلطة الفلسطينية عن حق فلسطين في رئاسة الدورة الحالية لمجلس وزراء الخارجية العرب لصالح دولة قطر ليفسح لها المجال لإدارة الصراع ضد سوريا. والمفارقة أن هذا الدور يتاح لفلسطين مرة كل احد عشر عاما ، إضافة إلى انه جاء في الوقت الذي كانت السلطة تعد ملفاتها للتقدم للأمم المتحدة مطالبة بالاعتراف بفلسطين كدولة كاملة العضوية، ثم تتالت المواقف الفلسطينية ومنها التصويت بالإيجاب على تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية ، وفرض العقوبات الاقتصادية عليها . ثانيا : العوامل الأساسية المغيبة عن صياغة الموقف : من الملاحظ أن صانع القرار قد تجاهل العوامل الأساسية التي ترتبط بشكل مباشر بجوهر القضية الفلسطينية في تحديده للموقف الفلسطيني من الأزمة السورية ، وتتلخص هذه العوامل فيما يلي: 1 الأهداف الحقيقية لاستهداف سوريا من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية وأدواتها العربية والإقليمية وفي المقدمة منها إخراج سوريا من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي ، وفصم عرى العلاقة بين قوى المقاومة والممانعة على المستويين العربي والإقليمي ، بما يترتب على ذلك من إخلال كارثي بميزان القوى ستكون القضية الفلسطينية هي أول المتضررين منه . 2 أهمية عضوية سوريا في الجامعة العربية ليس لكونها دولة مؤسسة وحريصة على العمل العربي المشترك فقط ، ولكن لارتباط وجودها بحضور قضية الصراع العربي الإسرائيلي في عمل جامعة الدول العربية ، لاسيما وإنها تختلف عن بقية الدول العربية في كونها صاحبة قضية وطنية وارض محتلة ، ولم تنخرط في توقيع اتفاقيات سياسية أو اقتصادية مع إسرائيل ، الأمر الذي يضعها من الناحية الموضوعية في موقع الحليف الطبيعي للثورة الفلسطينية . 3 تواجد ما يقارب النصف مليون لاجئ فلسطيني على الأرض السورية تداخلت حياتهم بحياة الشعب السوري وان أي تطور دراماتيكي في سوريا ستكون له انعكاسات خطيرة على وضعهم ، على المستويين الاجتماعي والسياسي وهو انعكاس سيطال أيضا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ،وقد سبق أن جربنا مثل تلك الانعكاسات على حياة الفلسطينيين في العراق والكويت . 4 عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية إلا بالتي هي أحسن بوصفه أحد المبادئ السياسة الفلسطينية الرسمية ، وفي اللحظة التي تم فيها الخروج عنه كان الثمن غاليا ، وقد التزمت القيادة الفلسطينية هذا المبدأ بحذافيره في الحالتين التونسية والمصرية حتى في اللحظات التي كانت هذه الأنظمة تلفظ أنفاسها الأخيرة . ثالثا : العوامل الثانوية المؤثرة في الموقف : ان تجاهل وتغييب العوامل الأساسية يفترض وجود عوامل محفزة أخرى لها من المشروعية وقوة الفعل ما يؤهلها للتقدم واحتلال الموقع الأساس في اتخاذ لقرار ، وتتلخص هذه العوامل فيما يلي : 1 وقوع الجانب الفلسطيني تحت مجموعة من الضغوط العربية التي أجبرته على اتخاذ هذا الموقف . لكن الموقف جاء في خضم صمود القيادة الفلسطينية للضغوط العربية والأمريكية التي حاولت ثنية عن التوجه إلى الأممالمتحدة ، وحتى لو كان الأمر كذلك كان يمكن لصانع القرار أن يقاوم هذه الضغوط باللجوء إلى تكتيك الحد من الخسائر وذلك بالتذرع بخصوصية القضية الفلسطينية ، والارتكان إلى البند الرابع من العوامل الأساسية ، بما يمكن من اتخاذ الموقف الحيادي بعدم التصويت على الأقل. 2 أن وعودا سياسية أو اقتصادية قد قدمت للقيادة الفلسطينية كمكافأة على هذا الموقف ، ودون الدخول في التفاصيل فقد تم اختبار المواقف الحقيقية للقوى المناهضة لسوريا فيما يخص القضية الفلسطينية ومازال موقفها من قبول عضوية فلسطين في الأممالمتحدة حاضرا في الأذهان ، وبالنسبة للقوى الإقليمية المنخرطة في هذا المشروع فلا حول لها ولا طول ، ومن ثم فان الركون لمثل هذه الوعود في اتخاذ المواقف المشار إليها ينم عن سذاجة سياسية ، وإذا صح ما ورد في تقرير " سوريا : بوابة الغرب الإستراتيجية من اجل التفوق العسكري العالمي " الذي نشر في 15 / 11 / 2011 واعد بواسطة ريك زيف الخبير في شؤون الحلف الأطلسي ، حيث ورد فيه انه في حالة انهيار سوريا سيتمكن الناتو من نشر قواته في لبنان وفلسطين وان الرئيس الفلسطيني أعطى موافقته بان تتولى قوات الناتو المسؤولية عن مااسماه " حماية الأراضي الفلسطينية " فان ذلك لايتضمن أي نوع من الوعود السياسية التي يمكن أن تلبي الحدود الدنيا من الحقوق الوطنية الفلسطينية . رابعا : استنتاجات حول الخلفيات والظروف المحيطة بالقرار الفلسطيني إن تجاهل العوامل الأساسية المرتبطة بجوهر القضية الفلسطينية التي مازالت سمتها الرئيسة حتى اللحظة حركة تحرر وطني ، على الرغم من وجود السلطة الفلسطينية ، وسهولة دحض العوامل المحفزة الثانوية المرتبطة بمتغيرات غير ثابتة بوصفها عوامل غير حاسمة، من ناحية ثانية ، يكشف عن حقيقة جوهرية مفادها إن القرار الفلسطيني بشأن الأزمة السورية لم يكن نتاج عملية دراسة وتدقيق ولم يخضع لآليات صناعة القرار السياسي ، ويبدو انه كان نتاجا لتوجه فردي متسرع تحكمت فيه أطراف محددة في الساحة الفلسطينية مازالت تعيش ذكريات التوترات والتجاذبات التي شابت تاريخ العلاقات السورية الفلسطينية وما خلفته من تراكمات نفسية لدى بعض القيادات الفلسطينية التي بنت حساباتها على أساس أن النظام السوري سيسقط بشكل سريع مثلما حدث مع غيره ، الأمر الذي يكشف عن قصور في القراءة السياسية للوضع ، وعندما مضت الوقائع بشكل مخالف لم تتم عملية إعادة تقييم للموقف الذي استمر في إنتاج نفسه بشكل تلقائي إلى حد الوقوع في نطاق الخطايا . يؤكد ذلك التصويت الأخير لصالح قرار فرض العقوبات الاقتصادية ، فمن حيث المبدأ لا يمكن لفلسطين أن تصوت لصالح فرض الحصار والعقوبات الاقتصادية على أي شعب من الشعوب بشكل عام وعلى شعب عربي بشكل خاص ، بينما يعاني الشعب الفلسطيني من الحصار على مختلف المستويات ، لاسيما وان الموافقة على قرار الجامعة بفرض العقوبات على سوريا يعني الموافقة على قرار فرض العقوبات الدولية من قبل أمريكيا والاتحاد الأوروبي عليها . ومن ناحية ثانية لا يمكن أن تصوت فلسطين على هكذا قرار في الوقت الذي يقيم فيه على الأرض السورية ما يقارب النصف مليون لاجئ فلسطيني ، ولنا عبرة في موقف العراق الذي تذرع في امتناعه عن التصويت على قرار فرض العقوبات بالعراقيين المقيمين في سوريا ، والأردن الذي صوت لصالح القرار حفظ لنفسه خط الرجعة لعدم الالتزام بتنفيذه بالحديث عن احتياجات الطلبة الأردنيين الذين يدرسون في سوريا .