إن الرجل العظيم إنما يكون عظيمًا بما يُخلفه من الإعجاب والأثر الحسن في نفوس معاصريه، إذ قد يكون عظيمًا بنفسه ولا يوافق لإتمام عمله فيؤسس لمن يأتي بعده، ولكن الطبيعة لا تجود بواحد من أولئك الأفراد إلَّا كل بضعة قرون؛ فيسير الناس على خطواته أجيالاً، وعلى هذا القياس نَعُد أ د/ محمد عفيفي و أ د/ علي بركات، وقبلهم أ د/ أحمد عبد الرحيم مصطفي و أ د/ رءوف عباس .. وقبل هؤلاء جميعًا المؤرخ العبقري محمد شفيق غربال؛ نعدهم جميعًا من عظماء المدرسة التاريخية المصرية الحديثة، لما وضعوه من لبنات في عماد هذه المدرسة التاريخية، التي سيسير عليها الباحثون ردحًا من الزمن. وعندما نكتب عن مؤرخ إنما نرصد حركة المجتمع وتطور الثقافات عبر الأجيال، فعلي بركات إذاً يعتبر هو واحد من الجيل الثاني أوْ الثالث للمدرسة التاريخية المصرية الحديثة، لذا يقول "إبراهيم الجميعي" في كتابه "اتجاهات الكتابة التاريخية في تاريخ مصر الحديث والمعاصر": يمكن فهم اتجاه "علي بركات" لكتابة التاريخ الاجتماعي وخاصة ما يتصل بالمجتمع الريفي علي ضوء ثلاث حقائق. • الأصل الاجتماعي الذي ينحدر منه، فهو ينحدر من أسرة ريفية تنتمي إلي صغار الملاك الزراعيين في صعيد مصر، حيث ولد بقرية (الغنايم) في عام 1939م، وتلقي تعليمه الأولى في كتاب هذه القرية ومدرستها، ويبدو أن أصوله الريفية كانت وراء اهتمامه بقضايا الملكية الزراعية والريف والفلاحين، باعتبارهم الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي لم تلق اهتمامًا كافيًا من المؤرخين المصريين في الجيل السابق. • الفترة التي قضاها بمنظمة الشباب حيث عمل سكرتيرا للتثقيف بمحافظة الجيزة، ثم عضوا بالسكرتارية المركزية للتثقيف، وكانت منظمة الشباب بمثابة النافذة التي أطل منها معظم جيل الستينات علي الفكر الاشتراكي. • عمله بمركز وثائق تاريخ مصر المعاصر، واكتسابه العديد من الأفكار حول مدرسة التاريخ الاجتماعي، عن طريق احتكاكه بالدكتور "محمد أنيس" المشرف على المركز وتشجيع الدكتور له، على اختراق هذا المجال البكر في الدراسات التاريخية المصرية. وبعد أن حصل علي بركات على ليسانس الآداب من قسم التاريخ بجامعة القاهرة في عام 1961م التحق بالدراسات العليا في نفس الجامعة فحصل علي الماجستير، من معهد الدراسات الأفريقية في يونيو 1966م في أحد موضوعات التاريخ السياسي، وذلك لتكون ركيزة الاستناد عليها في دراسة التاريخ الاجتماعي ثم حصل علي الدكتوراه من آداب القاهرة في أكتوبر 1973م، وبعدها عمل في حقل التدريس الجامعي .. ومن أبرز مؤلفاته "تطور الملكية الزراعية في مصر وأثره علي الحركة السياسية 1813 -1914" وفي هذه الدراسة تعرض "بركات" لتطور حركة توزيع الملكية الزراعية وانعكاساتها علي خريطة القوى الاجتماعية، وربط ذلك بالحركة السياسية التي كانت من البداية للنهاية حكرا علي كبار الملاك .. وامتدادا لهذه الدراسة كتب علي بركات "الفلاحون بين الثورة العرابية وثورة 1919" كما كتب "الملكية الزراعية بين ثورتين 1919-1952". وحول رؤية علي بركات لبعض رجالات مصر لأزمة الحياة الفكرية وتاريخ مصر الاجتماعي، كتب "رؤية عبد الرحمن الجبرتي لأزمة الحياة الفكرية"، كما كتب "رؤية علي مبارك لتاريخ مصر الاجتماعي"، وفى كتابه الأخير قام علي بركات بقراءة الخطط التوفيقية مستخلصا منها القضايا التي رأى أنها تتصل بتاريخ مصر الاجتماعي، ثم ألقي الضوء علي الأصول الاجتماعية التي أنحدر منها علي مبارك والتعليم الذي تلقاه، والموقع الاجتماعي الذي وصل إليه. وإلي جانب ذلك فقد شغل الدكتور بركات نفسه بكيفية تحويل التاريخ إلي أداة اجتماعية؛ فكتب العديد من المقالات التي تعبر عن رؤيته في هذا الموضوع، كما وجه تلاميذه في هذا المجال وعن أبرز مقالاته نذكر "نحو مدرسة اجتماعية في كتابة تاريخ مصر 1798-1952م" و"مصادر التاريخ الاجتماعي الصعاب والمشكلات"، و"الأصول الاجتماعية للملاك الزراعيين في مصر الحديثة"، و"الفلاحين المصريون بين الثورة العرابية وثورة 1919م"، و"المدن الإقليمية المصرية في القرن التاسع عشر"، و"حركة الطلبة المصريين في الحركة الوطنية قبيل الحرب العالمية الأولى 1908-1914م"، و"دفاتر تسجيل الأراضي الزراعية". جدير بالذكر أن كتابات الدكتور بركات لم تقتصر على الجانب الاجتماعي فقط، بل تطرق بعضها إلي التاريخ السياسي ومن أهمها: "السياسة البريطانية واسترداد السودان 1889-1899م"، و"السياسة البريطانية في جنوبالبحر الأحمر". من هو علي بركات ؟ هو ابن أسيوط البار الذي عاش لمصر وأعطي لها مثلما أعطي غيره، بل فاق أقرانه وسبق أحبائه وصار علامة مضيئة في سماء الوطن، ومؤرخا كبيرا في رحاب الجامعة ورجلاً أسيوطيا من الطراز الأول، حكي لي ذات مره عن الصعاب التي خاضها، فوقفت مشدوها من عناد هذا المؤرخ الذي أصر علي أن يواصل رحلته العلمية تحت أي ظرف، ولما لا وهو الذي عاش في فترة كان فيها من الرجال الكبار أمثال العقاد، والمنفلوطي، وجورجي زيدان، وغيرهم من عمالقة الفكر والأدب. بل إنه عاش فترة الملكية وشاهد أخر أبناء محمد علي باشا وهو "الملك فاروق"، وعاش فترة "عبد الناصر"، وتشبع بالأفكار الثورية والتحررية، وأستنشق روح الثورة التي قلبت الأوضاع رأساً علي عقب، وعاش لحظة تأميم قناة السويس والفرحة التي عمت البلاد والعباد، وشاهد النكسة ولحظات الانكسار، وشارك بعواطفه وأفكاره في حرب أكتوبر 1973م، وهو العام الذي حصل فيه علي الدكتوراه؛ وعاش فترة "السادات" ومعاهدة السلام، وأحداث انتفاضة الحرامية، ورأى السادات وهو علي المنصة يُقتل غدراً، وعاش طيلة فترة الرئيس المخلوع "محمد حسني مبارك"، بل إنه واحد من الذين شاركوا في ثورة 25 يناير 2011م، ورأى الخير قادما لمصر، وعاش لحظات التحول الديمقراطي للسلطة، تُري كم أثرت هذه الأحداث في عقل مؤرخنا وكيف انعكست علي كتاباته وأرائه ومشاهداته وملاحظاته؟ إن ما مر به علي بركات خلال مشوار حياته لا يتكرر مع كل الرجال، فهناك أحداث تمر ورجال تولد وتموت ولا أثر لهم! أقول: إن (علي بركات) كاتب كبير وباحث نشط شارك في العديد من المؤتمرات والندوات الدولية، بدأت رحلته العملية مدرسا للتاريخ الحديث بكلية التربية جامعة المنصورة، ثم عمل أستاذ مساعد، ثم رئيس قسم التاريخ عام 1984م، ثم تولي عمادة الكلية عام 1984م، وعمل أيضاً أستاذا بكلية الآداب جامعة حلوان من1995م، ثم ما لبث أن عين رئيسا لقسم التاريخ بها من 18/2/1995م إلي 11/1997م، وبِدءاً من 1/4/1999م عمل أستاذ متفرغ بكلية الآداب جامعة حلوان، إلا أنه عاد ليعمل أستاذ غير متفرغ بنفس الكلية من عام 1/8/2009. رحلات علي بركات: لقد بلغ صيته وانتشر في الآفاق وسري عبر الأثير اسمه، فنادته الجامعات العربية والغربية ليحاضر فيها، فلبي النداء وشمر عن ساعديه لنشر الثقافة، فرحل إلى مُهمة علمية بالنمسا لمدة عام، وكان ذلك بين 1975 – 1976م، ثم رحل إلى مهمة علمية أخرى، وكانت هذه المرة إلي اليابان لمدة فصل دراسي 89/1990م (وكان بمثابة أستاذ زائر) ثم كانت إعارته إلي كلية الآداب جامعة الملك فيصل خلال الفترة من 1980/1984م، ثم أستاذ زائر بكلية التربية بالرياض لفصل دراسي بين عامي 1987 – 1988م، ثم عاد للرياض مرة أخري عام 1993 – 1994م لعام واحد، وجاءته إعارة إلي جامعة الإمارات العربية المتحدة خلال الفترة من 1997 -2001م، وكان له حضور كبير في عدد من المؤتمرات والندوات العلمية في خارج مصر، ليحمل اسم مصر في المحافل الدولية. علي بركات وعضويته للمجالس الأكاديمية والعلمية: هو أحد الخبراء بوحدة البحوث الاجتماعية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، من عام 1978 – 1980م، وهو عضو مجلس جامعة المنصورة من عام 1984م إلي عام 1990م، وكذلك عضوا باللجنة الفنية للمعادلات بالمجلس الأعلى للجامعات للعام الجامعي 1989- 1990م، وعضو لجنة قطاع الآداب والعلوم الاجتماعية بالمجلس الأعلى للجامعات، عن جامعة المنصورة خلال الفترة من 1984م إلي 1990م. وهو أحد أمناء وأعضاء اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة المساعدين في التاريخ؛ من أكتوبر 1989م إلي نوفمبر 1993م و 2008م إلي 2012م، وهو بذلك عضو لجنة الترقيات في أكثر من دورة، وهو مقرر لجنة جائزة البحث العلمي في العلوم الاقتصادية لجامعة حلوان عام 1995م. وشارك علي بركات خلال رحلته العلمية في عضوية اللجان التالية: عضو لجنة النشر العلمي وعضو لجنة تقويم الأداء الجامعي بجامعة حلوان للعام الجامعي 1996/1997م، عضو لجنة تقييم مشروعات البحوث علي مستوي جامعة الإمارات 1999/2000م، عضو اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة، عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع بالقاهرة، مستشار بمركز الدراسات السياسية الإستراتيجية بالأهرام في الفترة من 1974-1997م، عضو اللجنة العلمية لمركز تاريخ مصر المعاصر، عضو لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة.. محكم بالدوريات العربية الآتية: - المجلة العربية للعلوم الإنسانية التي تصدر عن جامعة الكويت. - حولية كلية الآداب جامعة الكويت. - مجلة دراسات التي تصدر عن الجامعة الأردنية. - مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تصدر عن جامعة الإمارات. - سلسلة عالم المعرفة التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة بالكويت. - (مصر الحديثة) التي تصدر عن هيئة دار الكتب والوثائق القومية في القاهرة. - عضو هيئة التحرير مجلة مصر الحديثة التي تصدر عن مركز تاريخ مصر المعاصر. - مستشار مجلة مصر والعالم التي تصدر عن مركز تاريخ مصر المعاصر. حصل الدكتور علي بركات في عام 2012م علي جائزة جامعة حلوان التقديرية، وتوجت أعماله بجائزة الدولة التقديرية لعام 2015م في العلوم الاجتماعية، وما زال عطائه مستمرا في خدمة العلم وأهله.