ارتفاع الأسهم الأوربية وسط تفاؤل بمصير الفائدة الأمريكية    محافظ مطروح: استقبلنا 3.3 ألف طن قمح بصومعة الحمام    مصدر رفيع المستوى: الوفد المصري يكثف اتصالاته لاحتواء التصعيد بين إسرائيل وحماس    خبير تحكيمي: مستوى البنا في تراجع شديد.. وسموحة يستحق ركلة جزاء أمام الزمالك    بعد مشاركة وسام أساسيا في المباريات السابقة .. هل سيعود محمود كهربا لقيادة هجوم الأهلى أمام الاتحاد السكندري ؟    قبل أولمبياد باريس.. زياد السيسي يتوج بذهبية الجائزة الكبرى ل السلاح    محافظ المنوفية يعلن جاهزية المراكز التكنولوجية لبدء تلقى طلبات التصالح غدا الثلاثاء    محافظ الغربية يتابع استمرار الأعمال بمشروع محطة إنتاج البيض بكفر الشيخ سليم    ارتفاع الأسهم الأوروبية بقيادة قطاع الطاقة وتجدد آمال خفض الفائدة    وزير فلسطيني: مكافحة الفساد مهمة تشاركية لمختلف قطاعات المجتمع    من يعيد عقارب الساعة قبل قصف معبر كرم أبو سالم؟    ماكرون يؤكد ضرورة الحوار الصيني الأوروبي أكثر من أي وقت مضى    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    بالأرقام والتفاصيل.. خطة لتحويل "مناخ" بورسعيد إلى حي أخضر    وزير الرياضة: 7 معسكرات للشباب تستعد للدخول للخدمة قريبا    مواصلة الجهود الأمنية لتحقيق الأمن ومواجهة كافة أشكال الخروج عن القانون    كشف ملابسات مقتل عامل بأحد المطاعم في مدينة نصر    طلاب مدرسة «ابدأ» للذكاء الاصطناعي يرون تجاربهم الناجحة    6 عروض مسرحية مجانية في روض الفرج بالموسم الحالي لقصور الثقافة    «شقو» يحقق 62 مليون جنيه إيرادات في شباك التذاكر    ماجدة الصباحي.. نالت التحية العسكرية بسبب دور «جميلة»    بالفيديو.. مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية: شم النسيم عيد مصري بعادات وتقاليد متوارثة منذ آلاف السنين    وفاة شقيق الفنان الراحل محمود ياسين.. ورانيا ياسين تنعيه: مع السلامة عمي الغالي    «المستشفيات التعليمية» تناقش أحدث أساليب زراعة الكلى بالمؤتمر السنوى لمعهد الكلى    استشاري تغذية ينصح بتناول الفسيخ والرنجة لهذه الأسباب    لاعب نهضة بركان: حظوظنا متساوية مع الزمالك.. ولا يجب الاستهانة به    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    بعد نفي علماء الآثار نزول سيدنا موسى في مصر.. هل تتعارض النصوص الدينية مع العلم؟    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    انتصار السيسي: عيد شم النسيم يأتي كل عام حاملا البهجة والأمل    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    تعرف على أسعار البيض اليوم الاثنين بشم النسيم (موقع رسمي)    إصابة 7 أشخاص في تصادم سيارتين بأسيوط    كولر يضع اللمسات النهائية على خطة مواجهة الاتحاد السكندرى    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    طقس إيداع الخميرة المقدسة للميرون الجديد بدير الأنبا بيشوي |صور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    هل يجوز قراءة القرآن وترديد الأذكار وأنا نائم أو متكئ    أول تعليق من الأزهر على تشكيل مؤسسة تكوين الفكر العربي    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    نصائح لمرضى الضغط لتناول الأسماك المملحة بأمان    طريقة عمل سلطة الرنجة في شم النسيم    نيويورك تايمز: المفاوضات بين إسرائيل وحماس وصلت إلى طريق مسدود    وزيرة الهجرة: نستعد لإطلاق صندوق الطوارئ للمصريين بالخارج    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    مع قرب اجتياحها.. الاحتلال الإسرائيلي ينشر خريطة إخلاء أحياء رفح    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    استشهاد طفلان وسيدتان جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا في حي الجنينة شرق رفح    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الميكانيكا الكمية – أول الغيث قطرة
نشر في شباب مصر يوم 18 - 11 - 2014

في ليالي الشتاء قارسة البرد، نجلس حول المدفأة نراقب لهبها ونستمتع بدفئها ودفئ اللمة والصحبة. لكن هل فكرنا كيف ينتقل إلينا هذا الدفئ، ونحن بعيدون عن لهب المدفأة؟
هذا الدفئ عبارة عن أشعة غير مرئية تعطينا الشعور بالراحة من ألم البرد. نسميها الأشعة تحت الحمراء. لماذا هذا الاسم؟ لأنها تأتي أسفل الضوء الأحمر في التحليل الضوئي
لو كان نيوتن قد وضع المنشور الزجاجي في مسار الضوء بالمقلوب، لجاءت الأشعة أعلى الضوء الأحمر وصار اسمها في هذه الحالة، فوق الحمراء. مجرد اسم
مع شئ من الملاحظة المتأنية، سنكتشف أن الإشعاع الحراري هذا شئ عام في الطبيعة. الشمعة تعطينا الضياء والحرارة. شمسنا العظيمة تعطينا أيضا الضياء والحرارة. حتى النجوم البعيدة جدا والتي يقاس بعدها بالسنين الضوئية، هي الأخرى ترسل ضوءها مصحوبا بأشعة حرارية،يمكن قياسها، إلى الأرض
في القرن التاسع عشر، تم اكتشاف قوانين الإشعاع الحراري الأساسية. دعنا نذكر بعضها:
أولا، كلما قمنا بتسخين جسم ما، كلما زاد توهجا وتألقا. كذلك كمية الإشعاع المنبعثة من الجسم تزداد مع التغير في درجة حرارته. إذا زادت درجة حرارة الجسم ثلاثة أضعاف، مثلا، فإن كمية الإشعاع المنبعثة منه تزداد مئة ضعف. (غريبة دي)
ثانيا، لون الأشعة المنبعثة من الجسم تتغير مع ازدياد درجة حرارته. راقب قطعة من الحديد توضع على شعلة البوتاجاز. في البداية تكون قطعة الحديد داكنة اللون. ثم يصبح لونها قرمزي خفيف، يتحول إلى اللون الأحمر. مع استمرار التسخين، يصبح اللون برتقالي ثم أصفر. بعد ذلك تصبح قطعة الحديد والإشعاع المنبعث منها أبيض اللون.
الحداد يستطيع معرفة درجة حرارة قطعة الحديد المصنعة بدقة من لونها عند التسخين. عندما يكون اللون قرمزي، تكون درجة الحرارة 500 درجة مئوية، وعندما نصل إلى اللون الأبيض، تكون درجة الحرارة 1000 درجة مئوية
علماء الفيزياء لا يكتفون بذلك. إنهم يريدون دراسة علاقة الأجسام بالإشعاع الحراري بغض النظر عن نوع الجسم ومعدنه. إنهم يريدون جسما يستخدم كقياس لهذه الظاهرة بدقة، تقارن به باقي الأجسام.
الجسم الذي نبحث عنه، لا يجب أن يرسل قبل التسخين أي ضوء خاص به، حتى لا يؤثر في لون الإشعاع الناتج من التسخين. المعادن اللامعة تعكس تقريب معظم الضوء الساقط عليها. أما القطيفة السوداء، فهي تمتص معظم أشعة الضوء الساقطة عليها، لذلك تظهر سوداء حالكة.
السحرة في عروضهم يستخدمون خاصية القطيفة السوداء، لأنها لا تعكس الضوء . فالصندوق المغطى بالقطيفة السوداء، لا تستطيع ملاحظته. الساحر يستطيع أن يستخدمه لإخفاء المنديل أو الحمام أو حتى نفسه
وجد علماء الفيزياء أن الجسم الأسود هو ما نبحث عنه. الجسم الأسود يمتص كل الضوء الساقط عليه. إذن أي أشعة يقوم بإرسالها سيكون سببها التسخين فقط
لكن هذا يتوقف على مقدار السواد في الجسم الأسود. حتى الفحم النباتي، قد يكون به شوائب تجعله ليس أسود تماما. قد يكون أسود أو أفتح من القطيفة السوداء. إذن كلاهما لا يصلحان لهذا الغرض
العلماء لا تيأس. جاءوا بصندوق خاص. مطلي من الداخل بالسخام أو الهباب الأسود. شعاع الضوء الداخل من فتحة صغيرة، لا يستطيع الخروج منها ويمتص بالطلاء الداخلي. بذلك يكون الشعاع الخارج من الفتحة، عند تسخين الصندوق، هو ناتج التسخين فقط، وليس بسبب الإنعكاسات الضوئية. هذا الصندوق نسميه الجسم الأسود
دعنا نكتب قوانين الإشعاع الحراري بلغة الفيزياء. القانون الأول يقول بأن كمية الإشعاع الحراري للجسم الأسود، أي الطاقة المنبعثة في صورة إشعاع وحرارة من الصندوق في الثانية، تتناسب طرديا مع درجة الحرارة المطلقة مرفوعة للأس الرابع
الأس الرابع تعني مضروبة في نفسها أربع مرات. درجة الحرارة المطلقة من اكتشاف العالمين الألمانيين، ستيفان وبولتزمان في القرن التاسع عشر، وهي تعادل 273 درجة تحت الصفر المئوي
القانون الثاني للإشعاع يقول: مع زيادة درجة حرارة الجسم الأسود، يقصر طول موجة الإشعاع المنبعث منها، وتقترب من المنطقة البنفسجية في التحليل الطيفي. هذا القانون يسمي قانون وينز للإزاحة، نسبة إلى العالم النمساوي وينز
الآن لدينا قانونين للإشعاع يمكن تعميمها على كل الأجسام بدون استثناء. التجارب أيدت القانون الأول، ووجدنا أن الأجسام تزداد توهجا بالحرارة. لكن المشكلة في القانون الثاني.
مع ازدياد الحرارة، يظل الجسم يشع موجات ضوئية، لونها في البداية قرمزي ثم أحمر ثم برتقالي ثم أصفر، ويتوقف عند اللون الأبيض ولا يقترب أبدا من اللون البنفسجي. أو كما نقول بالبلدي، قانون الإزاحة يعصلج عند اللون الأبيض.
للتغلب على هذه المشكلة، حاول عالمان إنجليزيان هما رايلي وجينز دمج قانوني الإشعاع في قانون واحد يقول: شدة الإشعاع الحراري المنبعث من الجسم الساخن، تتناسب طرديا مع درجة الحرارة المطلقة، وتتناسب عكسيا مع مربع طول موجة الإشعاع
يبدو في البداية أن هذا القانون ينطبق مع النتائج العملية. لكن ثبت أنه صالح عندما يكون الإشعاع لونه أحمر أو أصفر أو أخضر أو أبيض، لكنه يفشل عند اللون الأزرق والبنفسجي وفوق البنفسجي. سبحان الله، أليست كلها ألوان؟
هذا القانون يعني أنه كلما صغر طول موجة الإشعاع، كلما زادت حدته وكثافته. لكن التجربة لم تثبت صحة ذلك. كما أن القانون يسمح لشدة الإشعاع أن تزداد بدون حدود، وهذا لا يحدث في الطبيعة
هذا الوضع الذي لا يحسد عليه، سمي ب"كارثة الأشعة الفوق بنفسجية". حدث هذا في نهاية القرن التاسع عشر. لم يكن أحد يتخيل أن كارثة قانون واحد من قوانين الفيزياء، تصبح كارثة بالنسبة لعالم الفيزياء الكلاسيكية برمته وسبب انهياره بالكامل.
لقد وجد العلماء أنفسهم في بيت يحترق. أخذوا يجرون من ركن إلى ركن. لم يفكروا في القفذ من النافذة إلى النهر. فالنهر لم يعتادوا السباحة فيه. كما أن البيت عزيز عليهم، عاشوا فيه طيلة حياتهم. حاولوا إخماد النار، ولم يتصورا تركها والجري بعيدا عنها
مع كارثة الإشعاع الحراري، جاءت كوارث أخرى مثل كارثة عدم وجود الأثير وازدواجية الضوء وثبوت سرعته. هنا تنبه بعض العلماء لحاجتهم إلى علم فيزياء جديد، لكي يحل محل القديم الذي لم يعد صالحا لتفسير هذه الظواهر.
إذا لم تؤيد الحقائق الجديدة النظرية، علينا أن نقوم بتعديلها، أو لتذهب النظرية إلى الجحيم غير مأسوفا عليها. يخبرنا التاريخ، أن الحاجة هي أم الاختراع. وعظماء الرجال يظهرون عند المصائب والأزمات
الخروج من مدلهمة الفيزياء الكلاسيكية، جاء على يدي ماكس بلانك، الذي أتى عام 1900م بمفهوم الكم، وألبرت أينشتاين الذي أتى عام 1905م بنظرية النسبية، وفسر لنا تأثير الضوء على أسطح المعادن. فما فعله كلاهما يستحق عليه كل هذه الضجة؟
ما جاء به بلانك لا يعتبر اكتشافا بالمعنى الدقيق. كان لدينا قانونان يتعاملان مع الإشعاع الحراري للأجسام الساخنة. عندما دمجا في قانون واحد، واجه كارثة الأشعة فوق البنفسجية.
بلانك كان في الأبعينات من العمر. ظل لسنوات عديدة يدرس الإشعاع الحراري. لكن نظرية الإشعاع الحراري وصلت إلى طريق مسدود رآه أمام عينيه. وكان مثل أقرانه يبحث عن طريقة للخروج من هذه الورطة.
قام بفحص كل الخطوات المنطقية وكل التجارب والأجهزة المستخدمة وتأكد أنها كلها سليمة تخلوا من العيب. هنا سلك بلانك مسلكا آخر، شبيه بالقفذ من النافذة هربا من النار التي تشتعل في صرح البناء بدلا من محاولة إطفائها
في وقت لاحق، أخبرنا بلانك أنه كان يعمل بهمة ونشاط غير عادي لم يعهده من قبل لحل هذه المشكلة في نهاية القرن التاسع عشر. وإذا بأفكار هامة بدأت تظهر له، وبدأت تبدو ممكنة بالرغم من غرابتها. أخذ بلانك يفحص كلا منها على حدة
أولا، فحص الأفكار البسيط. رالي وجينز قاما بدمج قانونين الإشعاع في قانون واحد. هذا القانون أعطانا نتائج كارثية بالنسبة للإشعاع قصير الموجة. ما الضرر في دمج هذين القانونين مع قانون وينز السابق ذكره والخاص بالإزاحة، ولكن بطريقة مختلفة. العلماء لا تيأس من البحث عن الحقيقة.
قام بلانك بعدة تجارب للبحث عن قانون عام لا يتعارض مع النتائج. بعد عدة محاولات، وجد هذا القانون. القانون به رموز ليس لها معنى في عالم الواقع. مجرد توليفة عشوائية لكميات لا يربها رابط. لكن الغريب، أن هذه التوليفة قد آتت أكلها، وطابقت تماما نتائج التجربة.
من قانون بلانك الجديد، استطاع اشتقاق قانون ستيفان-بولتزمان وقانون وينز. كما أن القانون الجديد لا يؤدي إلى نتائج غير محدودة وغير عملية مثل القوانين السابقة. قانون صحيح يتفق مع التجارب كما يقول العلماء.
نصر مبين، وخروج من الأزمة؟ ليس بالضبط. بلانك عالم بحق وحقيق. لم يكن مقتنعا. التخبيط على مفاتيح البيانو عشوائيا قد ينتج عنها نغمة موسيقية. ولكن هل هناك برهان على أن هذا التخبيط لابد أن ينتج عنه نغمة موسيقية؟ القانون يجب أن يكون مشتقا من شئ ما. وليس هابط علينا من السماء عن طريق الوحي هكذا.
لكن قانون بلانك لا يمكن اشتقاقه من قوانين الفيزياء الكلاسيكية. ومع هذا، يعطينا نتائج مبهرة. لقد وجد بلانك نفسه في موقف درامي مثير. لديه قانون أو صيغة قابلة للاستخدام وتأتي بنتائج عظيمة، لكنه لا يستطيع القسم بصحتها طول الوقت وفي كل الأحوال
لأنه ليس لديه برهان لها وفقا للفيزياء الكلاسيكية. فأي الطرق يسلك؟ طريق الحقائق الجديدة أم طريق الفيزياء الكلاسيكية المتعارف عليها. لقد اختار بلانك طريق الحقائق الجديدة
ماذا يوجد في الفيزياء الكلاسيكية منع بلانك من اشتقاق قانونه؟ شئ بسيط لم نلتفت إليه من قبل، وهو اعتبارنا أن الطاقة مستمرة كالماء في الأنهار الجارية. لكن عالم الذرة وجسيماتها متناهية الصغير يقول عكس ذلك.
في نهاية القرن التاسع عشر، اكتشفت جسيمات الذرة والفراغ بينها. الجسيمات لها حدود، أي أنها جزر منعزلة وغير مستمرة، لكن الفراغ بينها هو فقط المستمر. حركة الجزيئات وتصادمها مع بعضها يمكن أن نطبق عليها قوانين التصادم من الفيزياء الكلاسيكية بدون مشكلة.
لكن ماذا نفعل بطاقة الإشعاع وهو موجات وليس جزيئات؟ لقد أثبت ماكسويل أن الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية، أي يتولد من تذبذب وتداخل المجالين الكهربي والمغناطيسي. إذن طاقة الضوء يجب أن تتبع قوانين الموجات وهي مستمرة تنساب مثل الماء في النهر.
بالنسبة للطاقة، لا نعرف شيئا اسمه الطاقة المتقطعة. أي التي تتدفق مثل نقط المطر أو رصاص المدفع الرشاش. تركيبة الذرة لا تتطلب أن تكون الطاقة مجزأة إلى قطع صغيرة. ضوء الشمعة يملأ الغرفة بالإشعاع المتصل، والشمس ترسل لنا ضوءها الغير متقطع. وكذلك طاقة حركة الأجسام تبدو لنا طاقات متصلة ومستمرة.
لكن أخينا العزيز بلانك، يفاجئنا بأن الطاقة ليست متصلة ومنسابة كالماء في الأنهار، بل هي متقطعة تنتقل فيما يشبه فلاشات وومضات متعاقبة، مثل نقط المطر ورصاصات المدفع الرشاش. الطاقة مقسمة إلى أجزاء أو فتافيت صغيرة، الفتفوته
منها اسمها "كوانتا"، جمعها "كوانتم"، وتعني "كمية"
ومن هنا جاء الاسم "الميكانيكا الكمية.
وجود "الكوانتا" في قانون بلانك هام جدا، ولا يستقيم القانون بدونها. كوانتم الضوء، أو فتافيت الضوء، هي أجزاء صغيرة جدا من الطاقة. هنا يتحفنا بلانك بمعلومة أخرى هامة. كوانتم الطاقة هذه، تختلف وفقا لنوع الإشعاع. كلما قصر طول موجة الإشعاع، أي كلما زاد تردده واقترب نحو اللون البنفسجي، كلما زادت طاقته
هذا يمكن التعبير عنه بمعادلة رياضية، وأرجو أن لا أخيف القارئ العزيز إن كان غير ملما بأسرار علم الرياضيات. يمكنه في هذه الحالة المرور على مثل هذه المعادلات مرور الكرام بدون أن يفقد الموضوع أهميته وفائدته.
E=hv
معادلة بلانك هذه بسيطة وجميلة، تقول إن طاقة الكوانتا (فتفوتة الطاقة) تتناسب تناسبا طرديا مع تردده (v). أما المقدار (h) فهو ثابت التناسب الطردي. تم إيجاده عن طريق التجربة، ويسمى ثابت بلانك تكريما لجهد الرجل في هذا المجال.
كان يمكن تسميته بأي اسم آخر، المهم هنا ليس الاسم وإنما المقدار، وهو ثابت بالنسبة لكل الأشعة، مقداره صغير جدا، 6.6 مقسومة على 1 أمامه 27 صفر، إيرج في الثانية (وحدة الطاقة)))
ما علينا سوى ضرب هذا الرقم في تردد الأشعة لمعرفة طاقتها بالإيرج في الثانية. من هنا كانت الأشعة السينية، التي لها تردد كبير، طاقتها كبيرة تجعلها تستطيع اختراق جسم الإنسان وتصويره من الداخل
هذه الطاقة لا تأتينا متصلة، ولكن متقطعة كالمطر. مصباح كهربائي صغير قوة 25 وات، يرسل كمية كوانتا (فتافيت الطاقة) في الثانية الواحدة مقدارها 6.6 مليون مليون مليون كوانتا في الثانية
بالطبع عين الإنسان لا تستطيع أن ترى هذه الكوانتا المتقطعة. وهذه فكرة عرض الفيلم السينمائي، الذي تبدو أحداثه متصلة، بينما هي في الواقع صور منفصلة متتالية
ليس المهم هنا هو كمية الكوانتا المتدفقة في الثانية، وإنما المهم هو معدل تدفقها، الواحدة بعد الأخرى.
بلانك كان يعي مدى جسارته في مهاجمة الفيزياء الكلاسيكية. لكنه لم يكن يتخيل مدي تأثير أفكاره في تطور علم الفيزياء في السنوات التي تلت اكتشافه
السنوات الأولى، 1901، 1902، 1903، و1904م، مرت بدون أن يتنبه أحد لمدى خطورة اكتشاف بلانك. اللهم بعض الأبحاث في الموضوع نفسه تعد على الأصابع. لكن في عام 1905م، نشر موظف صغير في مكتب توثيق الاختراعات السويسري، البرت أينشتاين، رسالة خاصة بتأثير الضوء على أسطح المعادن، نال بسببها جائزة نوبل في الفيزياء.
لقد كان معروفا في ذلك الوقت أن الإلكترونات تقفز من سطح المعادن عند تسليط الضوء عليها. هذه فكرة توليد الكهرباء من الشمس. لكن لم يكن أحد يعرف
لماذا يحدث هذا.
الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية. من الصعب تخيل أنها قادرة على إخراج الإلكترونات من سطح المعادن. ليس هناك تصادم بين جزيئات، مثل التصادم الذي يحدث بين كرات البلياردو.
هناك أمر عجيب آخر تم اكتشافه. وهو أن بعض موجات الضوء مختلفة الطول (أي مختلفة الألوان)، هي القادرة على هذه الخاصية. الإلكترونات تبدأ في الهرب من السطح عند طول موجة ضوء معينة. لكن إذا قمنا بزيادة طول الموجة، أي تغيير لون الضوء، تتوقف الإلكترونات عن الهرب، مهما قمنا بزيادة شدة الضوء
شعاع الضوء يحمل طاقة، هي التي تنزع الإلكترون من السطح المعدني. زيادة شدة الضوء تؤدي إلى زيادة عدد الإلكترونات التي تهرب من السطح. لكن في حالة تغير طول الموجة، يتوقف كل شئ. لماذا؟
لماذا الإلكترونات صعبة المراس في تخير نوع طعامها؟ هذا شئ لا يفهمه علماء الفيزياء بالمرة. هنا يأتي المنقذ. ألبرت أينشتاين.
البرت أينشتاين عالج المشكلة من زاوية أخرى. في الحالات العادية، الإلكترون مرتبط بذرات السطح المعدني. لكي نطرد الإلكترون من السطح، نحتاج قليلا من الطاقة. لكن الضوء له طول موجة. موجة الضوء هذه تتصرف كجسيم صغير، يحمل الطاقة وينقلها إلى الإلكترون فيجعله قادرا على الهرب من الأسر.
سبحان الله، لقد رجعنا إلى نظرية نيوتن التي تقول بأن الضوء عبارة عن جسيمات دقيقة. لكن ما مقدار طاقة هذه الجسيمات الضوئية؟ الحسابات أثبتت أنها صغيرة جدا. إذن لماذا لا تكون مساوية ل"كوانتا" بلانك التي ذكرها بلانك منذ 5 سنوات ماضية. تخمين ذكي جدا.
لهذا، قال أينشتاين أن الضوء عبارة عن تدفق طاقة من الكوانتا. عند كل طول موجة ضوئية، تكون الكوانتا التي يحملها الضوء متساوية في المقدار تماما. هذه الكوانتا، فتافيت الطاقة، أسماها أينشتاين "فوتونات الفوتونات تحمل طاقة صغيرة. تصدم بها الإلكترون بقوة مناسبة، فتنزعه من السطح المعدني. إذا لم تكن هذه الطاقة كافية، فلن يهرب الإلكترون. حسب معادلة بلانك، الطاقة يحددها تردد الموجة. وكلما زاد طول الموجة، قل ترددها، وبالتالي قلت طاقتها. وتفشل في مهمتها.
شدة الضوء لا تهمنا هنا بقدر طول الموجة. إلكترون واحد لا يحتاج أكثر من فوتون واحد بطاقة مناسبة لكي ينزعه من السطح المعدني. هذا يفسر لنا تأثير الضوء على أسطح المعادن. لكنه تفسير، مثل أبحاث بلانك، قوضت أساسيات الفيزياء الكلاسيكية
وللحديث بقية، فإلى اللقاءإن شاء الله


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.