مسئول أو شخصية عامة أو حتى شخص عادي من الأشقاء العرب سأل أمس على حسابه علي "تويتر" عن عدد الراقصات في مصر ونحن هنا لسنا بصدد البحث عن أسباب السؤال أو أهدافه أو التلميح بأشياء أخرى من ورائه, فالمشكلة ليست في السؤال ولا سائله المشكلة الحقيقية كانت في رد المصريين العنيف عليه علي وسائل التواصل الاجتماعي والتعامل مع سؤاله باعتباره سباب ؟ لذا فالسؤال الذي أراه أهم, أين الإهانة في أن يكون بمصر راقصات؟ نحن دولة كبيرة وعظيمة العطاء الإنساني والثقافي, وثقافتنا متنوعة وبها كل أنواع الفنون منذ بدايات التاريخ, هذا التاريخ الذي دون أول كلماته عن الرقص في دول الحضارات الكبرى كمصر والهند واليونان التي استخدمته شعوبها في البداية كجزء من الطقوس الدينية والتعبير الجسدي عنها ثم تطور الأمر وصار جزءا من وسائل الترفيه وإدخال البهجة علي حياة الناس لا سيما في المواقف الحزينة. ويؤكد الكثير من المؤرخين أن الرقص الشرقي بصورته الحالية ينسب لمصر لأن شكل الملابس والإكسسوارات والحركات الإيقاعية مصري الملامح ويرجع للعهود الفرعونية الأولي, والي جانب الرقص الشرقي يوجد الرقص الشعبي الذي أخذ في مصر شكل رقص الخيل والتحطيب وقد أخذ في معظم دول العالم أشكالا أخري وحمل أسماء مختلفة إلا أنه في كل الأحوال ظل جزءَا من وسائل التعبير عن ثقافة هذه الشعوب. وسواء كان الرقص الشرقي أو الشعبي فالاثنان انعكاسا للحالة الثقافية والتراثية للمجتمع المصري لذا نحن دولة بها راقصات وراقصين كثر يعكسوا بفنهم حالة الحراك الثقافي والمجتمعي والارتباط بالتراث, ولم يمثل أحد فيهم في أي لحظة إساءة لمصر بل كان معظمهم إضافة لفنها ولرصيدها الثقافي. ففرقة رضا علي سبيل المثال هي رمز من رموز الوهج الثقافي المصري في الستينيات وحفاوة العالم بها وبكل أعضائها وهم يقدمون كل أشكال فنوننا الشعبية تعكس احترامه لكل تفاصيل تراثنا الراقص, هذا الاحترام الذي كان يدفع بالرائع محمود رضا –أعظم مصمم رقصات في تاريخ مصر – للفخر في كل المناسبات وهو يقدم نفسه للعالم كراقص, كذلك ظلت شريكته في النجاح فريدة فهمي أيقونة ثقافية نتباهى بها في كل المناسبات الثقافية. ما الذي حدث للمصريين ليروا في وجود رقص وراقصات في بلدهم مهانة فبلد أنجبت تحية كاريوكا لابد أن يشعر مواطنوها بالاحترام لهذا الفن, فقد كانت مع سامية جمال جزءًا من قوة مصر الناعمة في وقت من الأوقات، بالإضافة لكونها سياسية وطنية لها الكثير من المواقف القوية. فهذه السيدة ساعدت الرئيس الراحل السادات علي الهرب من الإنجليز بعد اتهامه بمقتل أمين عثمان- وزير المالية ورجل الانجليز الأول في مصر- كما كان لها دورا مؤثرا في المقاومة الشعبية في القناة قبل ثورة 23 يوليو حيث كانت تنقل للفدائيين في سيارتها الخاصة الأسلحة ولم يكن أحد من الإنجليز يجرؤ علي تفتيشها. أيضا هذه الراقصة العظيمة عندما مثلت مصر عام 1956 في مهرجان كان بفيلم "شباب امرأة " وأثناء تناولها الغداء مع الممثلة الأمريكية سوزان هيوارد حاولت هيوارد أن تناقش معها موضوع إسرائيل فكادت أن تضربها وعندما حاول الممثل الأمريكي داني كاي أن يدافع عن زميلته بصقت في وجهه. كاريوكا دافعت عن وطنها وعروبتها في كل المناسبات لذا كتب عنها المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد واحدة من أبدع دراساته التي أكد فيها أن تحية تقف في قلب النهضة المصرية إلي جانب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وأم كلثوم ونجيب الريحاني وعبد الوهاب, فرقصها كما وصفه هو السطح الذي تناقش عليه الحوادث السياسية والتاريخية والاجتماعية والثقافية. وقد تكون حالة الوهن التي يعاني منها الرقص الشرقي الذي تحول مع الأسف في جزء كبير منه لمجرد هز بطن بلا حركات مدروسة ومعبرة ولا موسيقي وأغنيات موحية بكل المعاني الحركية التي تقدمها الرقصة, وكذلك تراجع الفن الشعبي وخفوت ملامح الإبداع والتجديد فيه وراء حالة الغضب الشعبي مما يقدم ممن لا يمكن تصنيفهم بالفعل كراقصين حقيقيين. لكن يظل عدم الاحترام والسخط علي ما يقدم ليس الحل فالأجدى أن نهتم بالبحث عن أسباب الحالة المتردية لجزء من تراثنا وثقافتنا ومن المسئول عنها وكيف يمكن تجاوزها دون خجل من كون لدينا رقص وراقصات وراقصين بل علي العكس علينا أن نشعر بالحرج أنه لم يعد لدينا تحية وسامية وفريدة ومحمود وعلي رضا.