"من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي".. هكذا لخص الروائي جورج أورويل وجهة نظره في مسألة "السيطرة على التاريخ"، وكتابته وتدوينه، والتلاعب فيه وتطويعه لأهداف الدولة، في حال إن كانت مستبدة. يصب الروائي الإنجليزي رؤيته تلك في روايته الأشهر "1984"، التي نشرها في عام 1949، ونسج فيها حياة شخص ينتمي إلى الحزب الحاكم، ويعمل موظفا فيه، لكنه يتميز بأنه يسعى للتفكير النقدي، فيبدأ في التفكير في كيفية إدارة الحزب للدولة، وكيف أن الحزب والحاكم تحولا إلى السيطرة على كل تفاصيل حياة المواطنين، ومراقبتهم وعدم السماح لتسلل أي أفكار تنتقد السلطة إلى عقولهم، وقتل الحياة الحزبية أو أية ممارسات سياسية.
في أجواء قاتمة للغاية، مليئة بأجواء من التعذيب وقتل المعارضين ومحوهم، يبدأ أورويل على لسان بطل الرواية التحدث عن كيفية تلاعب الدولة المستبدة بالتواريخ.
يسرد الراوي أن الحزب الحاكم يقول إن دولة ما أوشينيا لم تدخل في تحالف مطلقا مع أوراسيا. ويدرك بطل الرواية أن أوشينيا كانت تتحالف مع أوراسيا قبل أربع سنوات، لكن أين تكمن هذه المعرفة ؟ في وجدانه وحده، والذي يجب أن يُمحى ويُباد قريباً. وإذا كان الآخرون جميعاً يقبلون الكذبة التي يفرضها الحزب، إذا قالت السجلات كلها الحكاية نفسها، إذن فسوف تمرق الكذبة إلى التاريخ وتصبح الحقيقة. كان شعار الحزب "من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل. من يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي". ولكن الماضي وإن كان بطبيعته قابلاً للتغيير فهو لم يتغير قط. أيا كانت الحقيقة الآن في هذه اللحظة فهي حقيقية من الأبد إلى الأبد. المسألة بهذه البساطة. كل المطلوب هو سلسلة لا نهاية لها من الانتصارات على ذاكرتك. "السيطرة على الواقع".
وفي السياق ذاته، يعيد الراوي شرح مسألة التلاعب في كتب ووثائق وسجلات الحكومة الرسمية لتطويع التاريخ حسب مصالحها بقوله: التاريخ كله سبورة يُكتب عليها وتُمسح، تُنظف تماماً ويُدون عليها ما هو مطلوب في اللحظة بالضبط. لا يمكن في أي حال من الأحوال، ما إن يتم الانتهاء من الأمر، إثبات وقوع أي تزييف. أكبر قسم جانب في إدارة السجلات، هو ببساطة أشخاص مهمتهم تعقب وجمع كل نسخ الكتب والصحف والوثائق الأخرى واجبة التدمير. عدد "التايمز" مثلاً الذي وبسبب تغيرات في التحالفات السياسية أو أخطاء في تقديرات نطق بها الأخ الكبير (رئيس الجمهورية)، أعيدت كتابته عشرات المرات، تجده في السجلات هنا وهناك مدون عليه تاريخه الأصلي، مع غياب أية نسخة فيها ما يناقضه. يتم جمع الكتب بدورها وإعادة كتابتها مراراً وتكراراً، وتصدر مرة تلو المرة دون أي إقرار بإجراء أي تبديلات فيها. حتى التعليمات المكتوبة التي يتلقاها وينستون (بطل الرواية)، والتي يتخلص منها ما إن ينفّذها، فهي لا تذكر أبداً أو تشير إلى أي عمل تزييف. دائماً ما كانت تشير إلى "هفوات" و"أخطاء صغيرة" و"أخطاء طباعية" أو "خطأ في نقل التصريحات"، ومن الضروري تصويبها تحرياً للدقة.
فلسفة الروائي أورويل حول تغيير التاريخ تنحصر في أن "تبديل الماضي ضروري لسببين، أولهما ثانوي، ويمكن وصفه بأنه من قبيل الاحتياط. السبب الثانوي هو أن عضو الحزب، مثل البروليتاري، يتحمل ظروف الحاضر جزئياً لأن لا معيار عنده للمقارنة. لابد أن ينقطع عن الماضي، مثلما يجب أن ينقطع عن الدول الأخرى، لأن من الضروري أن يعتقد أنه أفضل حالاً من أسلافه وأن مستوى الترف المادي الذي يتمتع به في صعود مستمر.
لكن السبب الأهم لتعديل الماضي الدائم، هو الحاجة لإخفاء حقيقة أن الحزب ليس معصوماً من الخطأ. لا يقتصر الأمر على ضرورة تحديث الخطب والإحصاءات والسجلات من كل صنف بشكل دائم من أجل إظهار أن تنبؤات وتقديرات الحزب كانت صحيحة في كل الحالات. إنما يلزم الأمر أيضاً حتى لا يحدث أبداً الاعتراف بحدوث تغير في المبادئ أو التحالفات والانحيازات السياسية. إذ أن تغيير المرء لفكره أو رأيه، أو حتى سياسته، ينطوي على الاعتراف بالضعف. إذا كانت أوراسيا أو إيستاسيا مثلاً عدواً اليوم، فلابد أن تكون هذه الدولة هي العدو الأبدي. وإذا ذكرت الحقائق خلاف ذلك، فلابد من تبديل الحقائق. من ثم يتم تبديل التاريخ دائماً ويعاد كتابته باستمرار. هذا التزييف اليومي للتاريخ، الذي تنفذه وزارة الحقيقة، مهم لاستقرار النظام بنفس أهمية نشاط وزارة الحب الخاص بالقمع والمراقبة لاستقرار النظام".