سؤال يجب ألا يظل تقليديا ! أنت كانسان متحضر من أين جئت؟ والسؤال ليس متأخرا . فنحن نتساءل عادة في مواجهة الأزمات والكوارث الكبري .. ويكون السؤال مثل مظلة واقية ننشرها حتي نهبط بسلام .. وقد اعتاد الانسان ان يقف بثبات في وجه المصائب .. وان يتساءل : إلي أين؟ أو علي الأصح : أنا إلي أين؟ أي في مواجهة : أزمة عدم الثقة .. أو فجوة الأجيال .. أو أزمة الشباب والعنف .. أو التطرف الديني .. ولولا حاجة الانسان الي النجاة بين الموت والمرض والكوارث ما تولدت الاختراعات .. فالحاجة هي أم الاختراع , وهذا هو جوهر الحضارة الانسانية . ولما سئل الأديب الفرنسي فيكتور هيجو عن كيف ولدت الحضارة؟ أجاب : من دموع المسيح ومن ابتسامة فولتير أي من المثل الأعلي للايمان والرحمة ومن العلم والفلسفة والسخرية من أن تمشي طوال الطريق وراء أي مسيح ! ولما سئل الفيلسوف الأمريكي فرانكلين عن معني الحضارة قال : أن تتوافر للانسان كل أدوات العمل والحياة , وأن يتوافر له الوقت لكي يستريح من كل ذلك . والفيلسوف الانجليزي كارليل قال : الحضارة هي البارود والطباعة والثورة علي سلطان الدين . وأستاذنا العقاد قال : أن تشعر الاقلية بالأمان في حضن الاغلبية , أيا تكن الأقلية , وأيا تكن الأغلبية , ففي مواجهة الازمات يكون رد الفعل غريزيا , فالانسان يخشي أن يموت فجأة وان تتلاشي دنياه .. ولذلك فعندما يتساءل عن مستقبل حياته يكون التساؤل دليلا علي التفاؤل لأن معناه أن هناك وقتا للحياة وللتخلص من هذه الازمة .. ففي ألف ليلة وليلة عندما طار النسر وبين رجليه أحد التجار فزع التاجر .. ولكنه وجد ما يسعده حين قال : الحمدلله أنني لم أملأ بطني طعاما وإلا لسقطت من بين مخالبه محطما ! مع انه لو سقط جائعا فسوف يتحطم .. تكفي جاذبية الأرض ! وفي كليلة ودمنة نجد الأسد عندما مرض لم يعد أحد يزوره .. فلم يعد قويا .. وفي نفس الوقت لم يعد قادرا علي أن يصيد فرائسه , فكان يأكل زواره من الحيوانات .. ولما انقطعت الحيوانات عنه قال : لو بقيت سوف أموت جوعا .. ولو خرجت وسقطت من الاعياء فان الطيور سوف تنهشني .. ان غلطتي أنني لم أكن كريما مع هذه الحيوانات .. وهذا ما سوف أفعله عندما أنهض من رقدتي !! ولم ينهض .. ولكنه في مواجهة الموت جوعا , تساءل مقدما عن الذي فعله والذي ينبغي ان يفعله .. وابن بطوطة في رحلاته يروي انه عندما كان في بحر الصين هبت عليهم عاصفة عنيفة أطاحت بركاب السفينة وراح كل واحد ينذر لله ان وصل إلي بر الامان سالما ان يصلي ويصوم ويتوب ! يقول ابن بطوطة : لو كان هذا حال كل الناس اذا هاج البحر أو هبطت العواصف ما خرج الانسان من بلاده ولما اكتشفنا مجاهل الدنيا ولما عرفنا عادات الناس ! ان الثبات ضد البحر والموج والمرض والجوع والظلم والظلام هو جوهر الحضارة ! كأنما أراد أن يقول : ان هذه تحديات الانسان التي صنعت حضارته ! وقد عرفت الحضارة الانسانية كل أنواع التحديات : الحروب والاوبئة والجوع والبطالة .. ووجدت طريقا للخلاص منها لتقع فيها من جديد .. ولتقيم فوقها الجسور وتحتها الانفاق وتتجاوزها بالطائرات والي ما لا نهاية . فكيف نبدأ شيئا جديدا في مواجهة القديم الذي لا يعجبنا؟ ! يقول برناردشو : ان آدم عندما نزل الي الارض وجد زوجته تسوي شعرها , فراح يقلدها .. وفجأة أمسك فأسا وراح يقلب الأرض . وامسكت زوجته أوراق الشجر وراحت تصنع ملابسها . يقول شو : ولم يكن لدي الانسان وقت لأن يتساءل أي أنه بدأ أية بداية .. واستمر في ذلك فما هي هذه البداية التي نتحرك الي ما بعدها؟ عندما سئل أحد الفلاسفة الألمان عن سر عبقرية الشعب الألماني قال : اننا قبل ان نذهب الي الجامعة نمر علي الثكنات ! أي أن المجتمع الألماني به جامعات وبه ثكنات وقبل التفرغ للعلم لابد أن يتعلم المواطنون النظام والطاعة والانضباط وروح الفريق . وعندما سئل الاب توماس الاكويني الفيلسوف الفرنسي : ان كان الايمان كافيا للتفوق في العلم .. أجاب : لا تفوق في شيء بغير ايمان !! وقال ان الوسيلة الوحيدة لان تكون لنا حياة هي أن نعيش في الاديرة , ثم نعود الي الناس وقد زدنا ايمانا ورغبة في تحسين ظروف الحياة . ولا تختلف حياة الدير عن حياة الثكنات : فهي عزلة وتفرغ وانضباط وزهد وتضحية .. وحياة العلماء الآن في الدول الصناعية الكبري هي العسكرية والرهبانية .. فالعلماء يعيشون في أماكن بعيدة عن ضوضاء المدن وعن الارهاق الذي تسببه العلاقات الاجتماعية .. فهم يعيشون في سجون علمية وهذه السجون هي مصدر النور والحرية لكل الشعوب . ولما سئل دوكو ابوالاقتصاد الياباني عن عبقرية الشعب الياباني كان من رأيه : ان المصانع ليست إلا اسرة انها حياة العائلة الواحدة بكل ما في كلمة العائلة من معني ريفي قديم .. فالمصنع عائلة مرتبطة تماما ! وعمال المصنع قد ولدوا ليموتوا في داخله واذا ترك الواحد منهم هذا المصنع فانه لن يذهب مطلقا الي مصنع منافس .. لم يحدث ... واذا حاول أحد عمال هذه المصانع ان يذهب الي مصنع منافس , فان المصنع لا يقبله .. لأن العائلات أسرار .. والعائلات اليابانية تتنافس ولكنها لا تتصارع ... انما تتفوق علي المصانع الأوروبية والأمريكية من أجل رفاهية وعظمة الشعب الياباني كله . وقد حدث في الخمسين عاما الماضية تطورات هائلة .. اختفي ما كان يسمي بالتحدي الامريكي ... فقد كانت امريكا هي أقوي دول العالم صناعة وأكثرها تطورا ولذلك كانت روسيا أكثر تطورا في السلاح وعلوم الفضاء .. ولكن بعد أن ظهرت دول صناعية أخري متطورة مثل فرنسا والمانيا واليابان , لم يعد أحد يتحدث عن التحديات الأمريكية أو الروسية ... فقد استطاعت هذه الدول ان تبلغ ما بلغته أمريكا وأن تهدد مصانعها وأن تخطف مئات الملايين من المستهلكين في العالم كله .. فكيف حدث ذلك؟ في عبارة قصيرة : حدث في القرون الثلاثة الماضية أن كانت الزراعة هي النشاط الانساني الغالب , وبعد ان كان العامل الزراعي هو الاغلبية جاءت الثورة الصناعية باستخدام الحديد والفحم .. ولم تؤد الثورة الصناعية الي تطوير العمل الزراعي .. ولكن المنافسة الزراعية والرغبة في الانتاج الاوفر أدت الي ان دخلت الميكنة في الزراعة فتطورت الزراعة .. ولكن الصناعة انتقلت الي مراحل أكثر تقدما وزاد عدد عمال الصناعة وظهرت اعمال أخري جديدة : كالادارة والتسويق والتمويل والصيانة والتطوير .. وفي الثلاثين عاما الأخيرة قفزت صناعة الالكترونيات وبلغت قمتها عند صناعة العقول الالكترونية التي بدأت بعقل الكتروني أمريكي في حجم الغرفة .. الي أن أصبح العقل الالكتروني في حجم علبة الكبريت . ان المجتمع الذي نعيش فيه الان اسمه مجتمع المعلومات تنقلها وتحفظها وتعرضها العقول الالكترونية هذه العقول الالكترونية هي التي اتخذت شكل الانسان الآلي في كل المصانع الكبري !! وفي قصة حياة المخترع الاقتصادي الياباني دوكو يقول : إن هذه التطورات الهائلة تدل علي عظمة العقل الانساني .. وان المصدر الحقيقي لكل شيء هو هذا الجهاز الاعجوبة الذي علي كتفيك .. انه المخ الانساني .. والي هذا المخ يجب ان نتجه بأفكارنا .. فاذا عرفنا المخ الانساني وهو المصدر الذي لا ينفد للابداع فكل شيء بعد ذلك هين تماما ! وهذه هي البداية لكل عمل عظيم أو مجتمع يريد أن يكون عظيما ! المعني : البداية هي الطفل .. البداية هي المخ ومعرفته وتشغيله ! ان رفاعة الطهطاوي عندما ذهب الي باريس قد بهرته الحضارة الفرنسية وسجل ذلك في كتابه تخليص الابريز في تلخيص باريز ويوم رأي عربة رش الميادين في باريس توضأ وصلي لله ركعتين .. لعله ان يقيض للكنانة مثل هذا الاختراع وظللنا عشرات السنين بعد ذلك نرش شوارعنا ومياديننا بالجرادل والبلاليص ! وفي اخر أيام المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي لاحظ ان الفرنسيين يضعون ورق عباد الشمس في كوب به سائل يدخل الورق أبيض ويخرج أحمر , فبهره ذلك ثم وجد عندهم المطابع للكتب والصحف . ورغم هذه الأشياء الباهرة رآهم غزاة ظالمين , ولما ذهب الي المحكمة وجدهم عادلين في محاكمتهم للمصريين .. واستنتج الشيخ الجبرتي ان الفرنسيين رغم انهم مسيحيون فهم متحضرون حقا عندهم علوم زاهرة ثم انهم يؤمنون بالعدل والحرية والمساواة امام المحاكم وهذا معني آخر للحضارة الانسانية . وقد سجل لنا ذلك في كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار . ويوم شهدت مصر عربات الرش وعباد الشمس كان الفرنسيون قد وضعوا أسس علم الديناميكا الحرارية التي اكتشفها العالم الكبير كارنو !!