لو عرف الذين يكتبون أين تقع كلماتهم من نفوس الناس , لارتجفت الأقلام في أيديهم وترددوا كثيرا قبل أن يقولوا شيئا .. ولكن هذا لا يحدث الا قليلا .. عندما تواجهنا الحقيقة فجأة فنعرف أن كلماتنا أحجار سقطت في ماء ساكن فهزته , ثم سكن كل شيء .. أو كانت بذورا استقرت في أرض واسعة مسطحة كأنها أكف متعطشة تنتظر .. أو كانت سموما جاءت بعدها النهاية . كلمة واحدة غيرت الدنيا .. ممكن؟ ! وقد فزعت من نفسي . فقد قابلت شابا قدم لي نفسه قائلا : إنها كلمات إهداء بقلمك غيرت مجري حياتي . ونظرت الي وجهه .. وإلي بشرته الناعمة , وعينيه اللامعتين , وملابسه المهندمة , وإلي أصابع يديه .. هناك دبلة من ذهب وأخري من فضة .. إنه ناجح سعيد .. وقلت له وأنا أتوقع كلاما كثيرا يضاعف سعادتي .. ويضيف رصيدا لحسابي عنده . قلت له : مبسوط؟ قال : مبسوط . فعلا .. فلم تكن عندي أي اهتمامات أدبية وإنما كنت أريد أن أكون طبيبا .. وعندما قدمت لك مجموعة من قصص , شجعتني علي الاستمرار , وتمنيت لي مستقبلا أدبيا . وعدت أنظر اليه مرة أخري , فوجدت الحزن عميقا في عينيه .. بل وجدت ان الحزن ملأ عينيه . وندمت علي انني قلت وأسرفت في التمني له .. ولم أكن إلا مجاملا ومشجعا .. ولم أتصور لحظة واحدة أن كلماتي قضاء وقدر ! وتذكرت أنا أيضا عندما عرضت قصيدة من نظمي علي أستاذ اللغة العربية في مدرسة المنصورة الثانوية , ووجدت انه يقلب في أبياتها ويستعيدها ويزنها في أذنيه .. وازداد احمرار وجهي وخجلي وقبل أن يسألني قلت له : إن هذه القصيدة قد نظمها أخي الأصغر .. وكأنني أعتذر عنها .. مع انني لم أسمع رأيه فيها .. وهز الرجل رأسه وقال : فعلا كلام موزون ولكنه ليس شعرا .. قل لأخيك يلعب في الحارة أحسن !! ومن يومها وأنا لم أنظم قصيدة واحدة ! ولما عرضت هذه القصيدة علي الأستاذ عباس العقاد قال عبارة لم أنسها : هذا شعر شاب صغير .. يري ولكنه لا يستطيع أن يلمس ما يراه .. ولكن سوف تصبح ذراعاه قادرتين علي لمس الوصف والغناء ! ولكن جاءت هذه العبارة بعد ان أحيلت أوراقي كلها إلي المفتي وحكم بالاعدام !! أما عبارات العقاد فكانت باقة من الورد علي قبر الشاعر الشهير .. أو جاءت وساما علي مدفع يمشي في مقدمة جنازة أحد المقاتلين في غاية الأدب ! ومرة أخري نشرت مقالا عن معني الفن عند تولستوي في جريدة الأساس سنة 1948. وفوجئت في ندوة الأستاذ العقاد بأنه اتجه ناحيتي يقول : قرأت مقالك . وأعجبني أسلوبك !! وتحيرت بين السعادة والحزن : هل كل الذي أعجب الأستاذ العقاد هو أسلوبي؟ ألم تعجبه الفكرة؟ ألم يعجبه تناولي لمعني الفن عند الأديب الروسي العظيم .. وفي نفس الوقت أسعدني العقاد عندما قرأ لي , وأسعدني العقاد عندما قال ذلك أمام زملائي الشبان .. ولكن ضايقني أن يكون اعجاب الأستاذ بأسلوبي فقط ! وعدت إلي البيت أقرأ المقال مرة أخري . ولاحظت أن عباراتي كانت ضخمة .. وان تراكيبي كانت فخمة وان حفاوتي بالكلمات الطنانة الرنانة كانت أكثر من أي شيء آخر .. فهل هذا هو الذي أعجب الأستاذ العقاد؟ ان العقاد نفسه له أسلوب صعب وليس من السهل علي كثيرين ان يدركوه .. وإذا أدركوه , أن يعجبوا به .. وأذكر أنني توقفت عن الكتابة تماما .. وقررت أن أكتب بطريقة مختلفة .. وأن تكون عباراتي أسهل . وموسيقي مقالاتي أهدأ .. وأن تكون أفكاري علي وجه الألفاظ .. أو قريبة من أصابع الناس وأن تكون ألفاظي فساتين قصيرة شفافة .. علي قدر المعني .. وأن تكون ( محزقة ) أو ملتصقة .. فلا يتعب القارئ في ان يفهم .. ولا يحتاج الي ثقافة كبيرة لكي يدرك ما أقول .. وظللت أكتب نفس المقال في البيت مائة مرة .. ولا أزال أحتفظ بالصورة المائة لهذا المقال .. ثم نشرت المقال من جديد وباسم آخر .. ولم أشأ أن أسأل الاستاذ العقاد .. فقد قررت أن أكون مختلفا .. لأنني مختلف ولأن السهولة من طبعي .. والبساطة في خلقي .. والوضوح طريقي وأملي .. ولم يدرك الأستاذ العقاد أين وقعت كلماته الطيبة من أعماقي !! لقد زلزلتها .. وحمدت الله أنها لم تحطمني أو تصنع مني صورة منه أو من أي أحد !! وحدث أيضا عندما ذهب الأديبان العظيمان ماكسيم جوركي وتشيخوف لمقابلة الأديب الكبير تولستوي .. اتفق الاثنان علي الموضوعات التي سيناقشانه فيها .. ولقياه ساعات .. وخرجا .. وأمام قصر تولستوي وقف الرجلان يتساءلان : هل صحيح ما قاله ! فأجاب جوركي : انه أكبر مما تصورت .. قال تشيخوف : وأكثر انسانية .. ولكنه .. فعاجله جوركي : لا تحاول ان تفسد هذه المعاني الجميلة التي استقرت في نفسي .. دعني سعيدا حتي الغد .. وأعتذر تشيخوف : لن أفسد عليك وإنما أريد فقط أن أعلق علي كلمة واحدة .. قال جوركي : أعرفها .. دعنا الي الغد .. والتقينا في اليوم التالي .. قال جوركي أعرف الذي أوجعك منه وأوجعني عندما سألناه : هل من الضروري أن يكون الطريق الي الأمل يمر بكل مستنقعات اليأس وحشرات الهوان وجفاف الجوع .. ألا يريان أن ضوء النهار يهدي الي الشمس .. شمس اليوم وشمس الغد .. لماذا أنتما يائسان هكذا؟ ! أليست هذه هي العبارة الأخري .. وكانت هذه العبارة الأخيرة هي التي أوجعت الأديبين الشابين .. لقد نبههما تولستوي الي ضرورة التغلب علي اليأس .. وأن يتعاونا علي اخراج الشمس والعمل في حماس وأكثر ثورية ! وكانت هذه العبارة مصباحا هاديا , وسلما امتد أمامهما لكي يتسلقاه إلي ما هو أرفع وأشمل وأكثر ثورية .. وعندما ذهب الفيلسوف الألماني شوبنهور إلي أمير الشعراء في عصره : جيتة .. قدم له عملا فلسفيا , وطلب إليه أن يبدي رأيه . وفي اليوم التالي عاد الشاعر يقول له : قرأت كتابك . فكيف وجدته؟ أعجبني لولا .. لولا ماذا؟ لولا أن شيئا مهما ينقصك ! كل إنسان ينقصه شيء مهم .. أنت بالذات ينقصك شيء في حياتك كلها . إذا كان هذا رأي أمي أيضا .. فلابد أن أسمعه . انها سيدة تافهة تحقد علي .. لن تكون لها في هذه الدنيا أي قيمة .. ولن يعرفها أحد إلا علي أنها أمي .. ولكن لن يقول أحد إنني ابنها !! ولم يشأ أن يكمل الشاعر الكبير جملته .. فقد تركه الفيلسوف الصغير .. واختفي غاضبا .. فقد كان لأمه صالون أدبي .. وكانت تدعو إليه كل الشعراء والموسيقيين والفلاسفة .. وكانت لا تؤمن بعبقرية ابنها ولذلك خشي الفيلسوف أن يكون أمير الشعراء قد تأثر برأي أمه فيه .. أما الذي قاله أمير الشعراء جيتة لرواد الصالون الأدبي فهو : هذا الشاب فيلسوف ما في ذلك شك .. ولكن ينقصه هذا المعني : إذا أردت أن يكون لأي شيء في هذه الدنيا معني , فاجعل لنفسك معني ! فالفيلسوف شوبنهور متشائم , ورأيه في الدنيا انها لا شيء , ورأيه يساوي ما يعانيه الإنسان , والحياة تخدع الإنسان لكي يعيش . وتسحره عن طريق الجنس لكي يكون له أولاد , هؤلاء الأولاد هم امتداد له . ولكن هؤلاء الأولاد هم عذاب الدنيا ومرارة الحياة . ولكن الحياة إذا ارادت أن تستمر خدعت الإنسان باسم الحب .. والحب ليس إلا الجنس . والجنس ليس إلا حيوانية الإنسان .. فكأن الإنسان لابد أن يكون حيوانا لكي تكون هناك حياة .. فهو لعبة الحياة باسم الحب والزواج . فالإنسان لا قيمة له .. وكذلك هذه الحياة .. هذه الدنيا !! بعد ذلك بسنوات قال جيتة : ارتكبت غلطة شنيعة . فلو قلت لهذا الفيلسوف رأيي في مكان آخر , لتغيرت نظرته إلي الدنيا .. ولكن ليست كلماتي هي التي أوجعته , وإنما المكان الذي قلتها فيه ! انها الكلمة أو الكلمات .. والتوراة تبدأ بهذه الآية : في البدء كانت الكلمة .. وكانت الكلمة هي الله .. والقرآن الكريم يقول : إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وفي التاريخ الطويل للسحر عند الإنسان , نجد الساحر يستخدم كلمات معينة .. هذه الكلمات لها قوة الأشياء المادية .. لها الحديد والنار .. وفي عالم الحب , وهو أيضا عالم السحر .. فكل ما في الحب يبدأ بالكلمات وينتهي بها .. مثلا وأولا وآخرا كلمة : الحب .. كيف يقولها المحبون , ومتي وكيف يقولها أي شيء إلا هذه الكلمة وكيف يحرصون علي أن يقولوها بسرعة وكيف يترددون في نطقها , خوفا عليها , وخوفا منها علي أنفسهم .. وخوفا من أنها إذا قيلت نقص وزنها وطولها وعرضها .. وكيف يجعلونها خاتمة كل شيء .. مع انها كلمة صغيرة .. ولكنها قوة كلمة : كن .. أو عظمة عبارة كن فيكون !! وأذكر قصة جميلة للكاتب الايطالي البرتو مورافيا اسمها ( آخر حرف ).. القصة عن واحد من الذين يؤمنون بالتفاؤل والتشاؤم .. وهذا الرجل يحب الأسماء ذات الدلالة الجميلة الخيرة , ولذلك اختار زوجة اسمها : طيبة .. وجعل أسماء أولاده هكذا : نور وكنز ومحبة وسلام وربما كان ذلك هو السر في أن يري ويختار أسماء أحسن من اسمه أو أن يري الناس في اختياره للأسماء الأخري نوعا من الاعتذار عن اسمه القبيح .. أو لعله يريد أن يقول إنه خير من أبويه اللذين اختارا له هذا الاسم الذي يختلف تماما عن طبيعته وخلقه , في احدي المرات رأي أن يتخذ قرارا مهما .. ولكنه لم يجد أحدا يناقشه فهو في كل مرة يتجه إلي أحد الأصدقاء .. يجد شيئا يضايقه , كأن يكون اسم الشارع الذي يسكن فيه يبعث علي التشاؤم .. أو اسم الكلب أو أحد الأولاد .. ولم يجد أحدا تنطبق عليه هذه المواصفات المتفائلة التي يريدها .. وأمسك دفتر التليفون وقرر أن يضع يده علي عشرة أسماء وأن يختار الحرف الأول من كل اسم ويكون من هذه الحروف كلمة أو عبارة , ويستوحي من هذه العبارة القرار الذي يريد : هل يترك عمله أو لا يتركه؟ ولم يسعفه دفتر التليفون .. فذهب إلي ملاعب سباق الخيل واختار الحروف الأولي من أسماء الخيل .. ولم تفلح هذه الحيلة .. وعاد إلي البيت في حالة ضيق شديد .. وقبل أن يدخل البيت رآه أحد أصدقائه ضاحكا .. فسأله الرجل عن الذي يضحكه , فقال : لأنك ارتديت البالطو بالمقلوب .. صحيح ان لهذا البالطو وجهين .. ولكن الوجه الآخر هو الذي يناسب هذا الفصل من السنة .. اقلب البالطو !! ونبهته هذه الكلمات إلي شيء يبحث عنه .. وخبطته هذه العبارة في رأسه فبدلا من أن يقلب البالطو قلب الحروف التي جمعها من أسماء الخيل .. فوجد أمامه كلمة تشجعه علي اتخاذ قراره .. واكتشف فجأة أن اسمه هو إذا انقلب كان معناه دليلا علي الخير , ولم يكن قد تنبه إلي ذلك من قبل .. لقد تغير كل شيء .. وانهارت مخاوفه ومتاعبه فجأة وأشرقت دنياه .. وتغير لون الحياة وطعمها .. إن كلمة قد صنعت له ومنه شيئا جديدا سعيدا !