آه .. لو كانت أفكاري وعواطفي ملفوفة .. كلها علي هيئة بكرة خيط .. لها أول ولها آخر .. ولها اللون الذي يعجبني .. آه .. لو كنت أستطيع أن أرتب هذه الخيوط بالشكل الذي يعجبني . آه .. لو كنت أعرف مايدور في عقلي .. وفي قلبي .. وفي معدتي .. إنني كثيرا ما أتلخبط في مشاعري فأحس بصداع في معدتي .. وأحس بالمغص في عقلي .. وبالقرب من قلبي .. إنني لا أعرف أين يوجد الحب ولا أين توجد الكراهي وأمس جلست أرتب أفكاري .. حاولت أن أجعل قلمي هو البكرة .. وحاولت أن أجعل أفكاري وعواطفي هي الخيط المزدوج .. ولم أفلح في ترتيبها .. وإنما أمسكت هذه الخيوط علي هيئة عقد .. وحاولت أن أحل عقدي واحدة .. واحدة .. وكل إنسان في الدنيا له عشرات العقد .. وهذه العقد هي نتيجة صراعنا الدائم بين مانريد ومانستطيع .. بين الذي نريد أن نحققه .. ان نكسبه .. ان نفوز به .. يعني بين أحلامنا وآمالنا وبين الذي نستطيع ان نأخذه من أنياب الناس وأظافر المجتمع . فنحن نريد والمجتمع يقاوم أحلامنا .. فكل إنسان في جيبه ملاليم .. ويريد ان يشتري العمارات الكبيرة , وعجزنا عن تحقيق الذي نريده . هو الذي يعقدنا .. هو الذي يجعلنا نشعر بأننا عاجزون .. فاشلون فنكره القادرين .. ونحقد علي الناجحين .. وعلي السعداء وعلي غيرنا من الناس .. وهذه العقدة هي التي تغري الخيوط بأن تلتف حولي وتتعقد .. وتتعقد .. ويصبح كل إنسان شخصا معقدا .. يعذب كل إنسان معه وحوله . ويتعذب هو الآخر .. بدأت أعد العقد التي عندي فوجدتها كثيرة لا نهاية لها .. كالعقد الموجودة في أي بلوفر .. في أي بدلة في أي فستان .. ولولا التفاف الخيوط بعضها حول بعض لاستحال وجود أي ثوب .. فالعقد هي أساس أي نسيج .. أي شيء نرتديه .. أي شخصية ندخل فيها .. وبدأ الكلام يدور بيني وبين نفسي أو بيني وبين العقد الكثيرة التي هي نفسي .. وعندما اتكلم مع نفسي فإنني أكون أقل أدبا .. يعني أرفع الكلفة جدا بيني وبين نفسي .. فقلت : قل لي بقي ياحضرة .. ماهو تفسيرك لرجل كبير زي حضرتك ومعه لعبة صغيرة .. عروسة .. حصان .. شخشيخة .. وفي جيوبه حمص .. ولب .. ماتفسيرك ياحضرة الأستاذ؟ !. ورددت علي نفسي : ماهو قصدك ؟ قلت : طبعا أنت عارف قصدي .. عاوز تفسير لهذه الحادثة الطريفة المضحكة .. وكان ردي : تسميها المضحكة .. قلت : آسف أنا قصدي أنها .. تسيل الدموع .. دموع الضحك .. ومع الأسف .. أنها دموع تسيل لمجرد ذكر هذه الحادثة .. حادثة واحد في يده شخشيخة .. واحد كبير في السن .. وكان ردي : اسمع .. هناك نظرية في علم النفس تقول : ان الانفعالات الشديدة تجعل الانسان يتحول الي طفل صغير .. فالرجل عندما يخاف فإنه يصرخ كالطفل .. ويهرب كالطفل .. والرجل عندما يفرح يتحول الي طفل يبكي من شدة الفرح ويرقص كأنه طفل .. وهذا الذي حدث أخيرا وأنت تسميه يبعث الضحك هو نوع من الرجوع الي الطفولة .. فالحب الشديد .. والكراهية الشديدة .. كل ماهو شديد .. كل ماهو عنيف .. يضربنا كالكرة .. فنرتمي في أحضان شبكة الجول .. شبكة الطفولة .. تعيدنا الي اللفة .. الي صدر الأم .. الي الطفولة .. فالرجل عندما يحب في سن كبيرة فهو مسكين ياسيدي .. انه يصبح طفلا .. كل شيء في الدنيا حوله يصبح صغيرا .. الناس يصبح عددهم قليلا جدا لا يزيدون عن أمه ومرضعته . والبيت يصبح غرفة واحدة وقلمه ان كان كاتبا يصبح بزازة لا تفارق فمه .. بزازة لا تكتب .. بزازة لا تنطق لا تقول شيئا .. لأنه هو لا يقول شيئا .. قلت : الي هذه الدرجة .. هل من الممكن ان تؤدي أشياء صغيرة تافهة الي هذه الانفعالات الكبيرة كتحويل رجل الي طفل وتحويل غني الي شحاذ .. وتحويل جبل الي صحراء مليئة بالرمال .. وتحويل قلم مليء بالحبر والديناميت الي بزازة أو زجاجة شفافة كل مافيها سائل له لون واحد .. وكان ردي : طبعا أنت تعرف الذي سأقوله .. وهو انه لا يهز الدنيا غير الأشياء الصغيرة .. أشهر قنبلة في الدنيا هي القنبلة الذرية .. الذرية نسبة الي الذرة .. أي الي الجسم الصغير جدا الذي لا تراه العين .. فإذا انفجرت انت تعرف النتيجة . وقطرات الماء عندما تنزل من السماء .. إنها تهد الجبال .. فالعكارة التي نراها في النيل .. عند الفيضان انها الذرات التي سحقتها مياه الأمطار .. والمطر هو دموع السماء .. والعكارة هي دموع الجبال أيضا .. والانفعالات الشديدة .. هي النار التي تحول الماء الي بخار وهي النار التي تذيب الحديد .. أعصابك الحديدية .. وهي النار التي تحيل عينيك الجامدتين الي مصابيح حمراء .. هي النار التي تأكلك فتصبح أفكارك دخانا .. وكلامك شرارا وتجعل كل شيء يؤلمك ويوجعك .. قلت : أيوه فكرتني .. إنني ألاحظ ان كل شيء يوجعك .. كل شيء يؤلمك .. كأن أعصابك خارج جلدك .. كأن شعر جسمك هو أعصابك .. أو كأن كل شعرة في جسمك هي ايريال يتلقي كل شيء من الخارج ويوصله إليك بسرعة .. أو كأن هذه الشعرات تتحول الي إبر توجعك . أو كأنك فقير هندي .. فبدلا من ان ينام علي سرير من المسامير فقد وضع المسامير في جلده ليصبح كل مكان سريرا له .. فالمسامير في جسمه والسرير في أي مكان .. أو كأنك جمعت كل الأبر الموجودة في الناس وغرستها في نفسك .. كأنك المسيح الذي تحمل الآلام نيابة عن البشر .. قل لي بقي ايه حكاية الألم الشديد الذي تعانيه .. ثم ما هي حكاية الاحتقار الواضح الذي تخفي فيه آلامك .. كأن آلامك قطعة من القماش الأحمر وضعتها في كيس من النايلون الأسود .. وكان ردي : نعود إلي حكاية العجوز الذي أحب .. لا يمكن ان يكون هناك رجل عجوز يحب دون ان يكون في هذا الحب بعض الاحتقار .. لنفسه أو لغيره .. فهو أولا يحتقر نفسه ! لأن الحب جعله يهبط إلي هذه الدرجة ! لأن الحب جعله يضع الحمص والسوداني في جيبه ويجعل تصرفاته أيضا كتصرفات العيال الصغار .. وهذا هو الذي يجعل العجوز يحتقر نفسه .. وهو في الوقت نفسه يحتقر الفتاة الصغيرة التي يحبها .. يحتقرها ! لأنها مصدر عذابه .. يحتقرها لأنها جعلته يتحول إلي طفل غير محترم .. أمام الناس وأمام نفسه .. وهذا هو الأهم ! ولأنها لاتقدر حبه لها .. لاتقدر التضحية الشديدة التي قام بها .. لاتقدر الثمن الذين دفعه من كرامته .. فالحب هنا كالنار التي تجعل ماء الوجه يتبخر .. تجعل الكرامة تتحول الي دخان في الهواء .. تسمح لي أضرب لك أحد الأمثال .. المثل مش ولابد ولكنه صحيح : ما هو أحب شيء إلي الذباب ؟ العسل طبعا .. والذبابة تقع في العسل .. وتحاول الخروج من العسل مع انها تحب العسل .. ولكنها لا تحب ان يمسك العسل بأرجلها ويجعلها عاجزة عن الحركة .. ولاتزال تقاوم .. وتقاوم حتي تموت .. تموت أحلي ميتة .. ولكن العسل الذي تحبه قاس عليها كأنه وحش قاتل لا يزال يقتلع أرجلها وأجنحتها .. حتي يجردها من كل عناصر الحياة .. مع ان العسل هو حياتها هو جنتها هو فردوسها الذي تحلم به .. ويتحول الفردوس الي كفن .. إلي نعش .. الي قبر .. الي عزرائيل .. وهذه الذبابة تحب العسل .. وتحتقره .. وتكرهه .. فهذا العجوز ان يجعل كل عواطفه ملفوفة .. ففي هذا النايلون الأسود حب مع الاحتقار .. مع الاحتقار لشخص المحب وللشخص المحبوب .. هل فهمت ؟ ايه تاني عايز تعرفه مني وعني ؟ قلت : والحل ؟ وكان ردي : حل إيه ؟ قلت : حل هذه العقد .. ورددت : كل هذه العقد لايمكن ان تكون لها حل .. وأنا لا أفكر في حلها .. وانما اتركها تحل نفسها بنفسها .. وأنا أفضل أن أعيش في فرن من الانفعالات الشديدة التي تجعل أعصابي تذوب ودموعي تسيل وعيني في لون الشفق .. علي أن اعيش وأموت جامدا .. أفضل ان اتحول الي ذرات كالجبل علي أن أبقي صحراء مفككة كلها رمال وليس لها شكل .. ولا حجم ولا أول ولا آخر .. إنني لا ألوم النار ولا ألوم نفسي .. قلت : ولا تلوم الاحتقار .. احتقارك لنفسك .. أو لغيرك .. ولا مانع عندك من ان تكون كهذا العجوز .. يلعب بالكرة أوالبلي .. أو البزازة .. أو تلعب به الكرة والبزازة .. وكان ردي : عندي مانع .. عندي مانع ان أصبح كيسا من النايلون الأسود وليس في داخله أي شيء .. عندي مانع ان يكون شعوري هو احتقاري لنفسي أو لأي إنسان .. قلت : اسمع أنت مش معقد شوية ؟ ورددت : كل إنسان كده .. قلت : والخلاصة؟ !.. وكان ردي : أنا أتمني ان اكتب قصة طويلة .. أروي فيها كيف حدث فجأة أن عجوزا وأنا مصر علي ان يكون المحب عجوزا أحب فتاة .. ونقطة الخلاف بينهما ليست فارق السن .. فالمرأة عندها من مخاوفها وتجارب جنسها كله ما يجعلها تستطيع أن تقف مع أي رجل .. في أي سن علي مستوي واحد .. فالفتاة في أي سن تستطيع أن تكون شريكة لأي رجل .. في أي شيء أو أي معني .. ونقطة الصراع بينهما ستكون في شيء صغير جدا تافه .. يبدو تافها .. انها تريده ان يكون صعبا .. ان ينطق بصعوبة .. ألا ينطق بكلمة الحب أبدا .. ألا يقولها مهما تكن الظروف .. انما تريد أن تغتصب منه هذه الكلمة .. ان تري حروفها علي مر السنين علي وجهه .. علي لسانه .. انها لاتريد ان تسمع كلمة الحب ولا أن تراها ولا أن تري مقدماتها .. تريد ان تحسها ولاتراها .. ان تتوهمها .. ان تتخيلها .. ان تحلم بها .. ولذلك فهي تنقله الي الجو الجميل .. فإذا رأت الحروف الأولي للحب هربت منه وهربت به .. ويتعذب هو وتتعذب هي من أجله .. وتعود إليه تتمسح فيه .. وتبكي لأنها لا تسعده ولا تعرف كيف .. ولا تعرف لماذا تحب الحب .. وتكره كلمة الحب .. تحب الحنان وتكره كلمة الحنان .. أما هو فمشكلته انه يريد ان يسمع منها كلمة الحب .. ان يسمع منها كلمة الحنان .. يريد أن يري الوجه الذي يحبه وقد تبدلت عليه كل ألوان الحب .. كل حروف الحب .. فينزل شعرها علي وجهها كالألف واللام وينفتح فمها كالحاء .. ويطبع هو قبلة تكون كالنقطة تحت الباء .. يريد أن يلصق علي وجهها ورقة كتبت فيها كلمة الحب ملايين المرات .. يريد أن يصبح كلامها كله مكونا من حرفين .. حاء وباء .. كل الحروف الهجائية لا تهمه .. كل الكلمات لا تهمه .. يهمه فقط هذان الحرفان وتصبح مشكلته انه يريد ان يسمع الكلمة التي تكرهها هي . وهو ينقلها الي الجو الحلو لكي تقولها .. وهي تنقله الي نفس الجو لكي يهم بالكلام ولا يقول .. نار .. نار يدخلها برجليه .. نار تهرب منها هي برجليها وبرجليه .. نار تجعل الحديد يتلوي والماء يغلي .. والعجوز يتحول إلي طفل .. والطفل يلهو ويلعب .. كالعيال .. ويبكي كالرجال .. قلت : وبعدين ؟ ! ورددت : إلي هنا توقفت العقد بين يدي .. إنني ابحث عن نهاية .. بعض الناس يكتفون بهذا القدر من القصة والباقي يغمرونه في النوم أو في النسيان .. إنهم لا يريدون أن تنتهي .. أو يحاولون ان ينسوا انها بدأت وينسون بالنوم الطويل وينسون بالسهر الطويل وبالخمر الكثيرة .. وبالدوخة المستمرة في العمل الشاق أو الدوخة التي يصبونها في أقراص منومة .. أو اكواب منومة .. أو في دخان ملون .. انهم يصبحون كالجبال التي تختفي قممها في السحاب الأسود .. وكان ردي : وبعدين قل لي أنت .. أعمل إيه ؟ قلت : أحسن حل هو أن تكتب .. واعظم حبر في الدنيا هو سواد الليل والدموع .. اكتب حتي إذا لم تكن هناك فائدة .. وكان ردي : سأكتب .. وأضيفت عقدة جديدة !