يلفت مدارس اللغة الفرنسية بالمدرسة أنظارنا بأناقته ووسامته واتزانه ، وفي فترة تتعلق فيها القلوب الغضة بأحلام الأناقة والوسامة وإبهار الفتيات . يصبح هذا المدرس هو المثل الأعلي لنا في كل شئ , ابتداء من الذوق الرفيع في اختيار رابطة العنق الملائمة للجاكيت ذي المربعات الذي يرتديه إلي المنديل الأحمر القاني الذي يتدلي من جيب الجاكيت الأعلي , إلي النظارة الشمسية الزرقاء التي تضفي علي الوجه جمالا ومهابة .. إلي الرشاقة في الحركة والحديث ... بالإضافة إلي ابتسامة وقور لا تفارق الوجه واتزان في القول والفعل يشي بالحكمة والعقل .. وهيبة طبيعية غير متكلفة , فأي مثال أحق بالتقليد من هذا المثال ؟ وأي أمل يتطلع إليه فتي من أمثالنا أكثر من أن يصبح كهذا المدرس ذات يوم بعيد محط أعجاب الفتيات .. وموضع ا حترام الرجال ؟ ويدفعنا الشغف به لمعرفة كل شئ عنه , فنعرف أنه من هؤلاء المدرسين الغرباء الذين تأتي بهم حركة التنقلات إلي مدينتنا الصغيرة , فيقيمون في مساكن مؤجرة , يتشارك في كل منها ثلاثة أو أربعة من المدرسين , يتقاسمون قيمة الإيجار ونفقات المعيشة المشتركة , ويقضون نهارهم في المدرسة ومساءهم في المقهي , وقد يصابون أو بعضهم بآفات حياة العزوبية والغربة عن الأهل , فيدمنون بعض ألعاب القمار الصغيرة ليلا .. أو يشترون خفية من محل الخمور الذي يملكه الخواجه جورج زجاجة من الخمر الرخيصة ليقضوا معها السهرة , فإذا طالت إقامتهم أو نسيتهم فيها حركة التنقلات لبعض الوقت عرفوا دروب المدينة الخفية , وتسللوا من حين لآخر إلي بيوت الهوي البعيدة عن الأنظار , أو زارتهم في مساكنهم خفية .. بعض نجماتها . ونتساءل نحن , إشفافاي علي المثل الأعلي من الاهتزاز : تري هل تطاله بعض هذه الآفات التي نتناقل أخبارها المكتومة فيما بيننا وتنعكس بالسلب علي نظرتنا لبعض مدرسينا ؟ لكن الجواب المطمئن يجئ مؤكدا أن الرجل علي خلاف كل زملائه يقيم بمفرده في مسكن نظيف مستقل يتحمل تكاليفه وحده , فيؤكد ذلك إلي جانب الأناقة والملابس العصرية , ثراء الرجل , وعدم اعتماده في حياته علي مرتبه وحده . ويتبرع البعض منا فيقول إنه وارث لأرض زراعية وحدائق للفواكه المثمرة , ويتبرع آخر فيؤكد , عن ثقة , بأنه قد تلقي العلم في فرنسا علي نفقة والديه , كما كان يفعل أبناء الأماجد في الزمن القديم .. وتضيف المعلومات الجديدة ملامح جديدة إلي الصورة , فتزيدنا افتتانا بها وانبهارا . حتي لأسأل نفسي ذات يوم : من هو الإنسان الناجح في الحياة فأجيب علي السؤال ومن وحي الأعجاب بالمثال المضئ إنه الإنسان الذي يجيد اختيار ألوان ملابسه ولون منديله , وربطة عنقه , ويقيم في مسكن صغير نظيف بمفرده , ويكتسي بالوقار والاتزان والجاذبية .. ويعرف الفرنسية وينطقها بمثل هذه اللهجة الساحرة التي يتميز بها المثال المحبوب ! وفي غمره الإعجاب الطاغي بالرجل الرائع .. تهوي علي رؤوسنا فجأة المطارق ... فيجري إلينا فتي من الرفاق حاملا إلينا نبأ عجيبا ننكره حين نسمعه في البداية .. ونتهمه بالكذب والافتراء , لكنه ينجح في إقناعنا بمصاحبته للتحقق منه , ونرافقه إلي الشارع الذي يقيم فيه المثل الأعلي فنجد جمعا من الكبار والصغار ينظرون إلي أعلي باهتمام وأسف . فنرفع الأبصار فنري المثال المهيب يقف في شرفة مسكنه الصغير مرتديا بيجامته المنزلية وقد تشعت شعره الغزير .. وزاغت نظراته .. وفاض الزبد من فمه وحول شفتيه .. وقد رفع يده اليمني إلي أذنه كما يفعل قارئ القرآن , وانطلق في أذان متصل لا ينتهي حتي يبدأ من جديد وبأعلي صوت ممكن . ونرقب المشهد الغريب في حزن وابتئاس , وتصك تعليقات المارة آذاننا بكلمات التحسر علي الرجل الوقور الذي أصابته لوثة مفاجئة لا تعرف أسبابها .. ويقترح آخر استدعاء الإسعاف لحقنه بمهدئ ونقله إلي المستشفي , ويطالب البعض بإبلاغ الشرطة , قبل أن ينتهي الموقف بمشهد مأساوي يلقي فيه الرجل بنفسه إلي الشارع . فلا تخلو اللحظة من جاهل صغير يري في الموقف ما يدعو للضحك بدلا من الأسي .. ويحل الظلام ومازال الأذان المتصل مستمرا بغير توقف . ونرجع إلي شارعنا وقد استغرقتنا الأفكار الحزينة , ونسمع فيما بعد أن عدداي من زملاء الرجل قد اقتحموا عليه المسكن , وسيطروا عليه قبل أن يهوي من الشرفة إلي الأرض . ويختفي المدرس الأنيق من المدينة للعلاج بالإسكندرية كما قيل لنا , ونترقب عودته ذات يوم إلي مدرستنا وقد استرد ثباته , ووقاره السابقين , لكنه يغيب عن أنظارنا بعد ذلك إلي الأبد , فلا نراه مرة أخري أو نسمع شيئا عن مصيره . وتتلقي صورة المثل الأعلي في الأذهان الصغيرة طعنة دامية يصعب البرء منها ! غير أن الأيام تمضي فتجرب في طريقها الأشجان والأحلام , وتسقط من الصورة ملامحها المأساوية .. فلا يبقي منها إلا المفارقة العجيبة بين المثال الجميل , وانهياره المفاجئ تحت وطأة ضغوط غير معلومة ..