تمر بنا , ونحن منهمكون في اللعب الجماعي , فترمقنا بفضول , طفلة في الثامنة من عمرها , نتوقف عن اللعب خشية أن تصيبها الكرة التي تتقاذفها أقدامنا .. فتنظر الينا في امتنان صامت ويخيل إلي أنها تخصني دون الرفاق بنظرتها المعبرة . ثم تبتعد عنا فأتبعها بنظرة محرومة , وأنا أتساءل : هل كانت نظرة عابرة أم تعبيرا صامتا عن تجاوب صريح مع من يخفق قلبه الصغير في صمت كلما رآها؟ويتكرر مرورها بنا كل يوم .. ويتكرر إيقاف اللعب , احتراما للفاتنة الصغيرة التي تظهر دائما في فستان أحمر اللون , كأنما لا تملك غيره , وتتكرر النظرة التي تثير التساؤلات الحائرة في نفسي , دون أن أتلقي أي إشارة ترجح الآمال , أو تخيب الظنون .. وبمضي الأيام تميل النفس المتلهفة علي ما يسعدها إلي الاقتناع ب " خصوصية " الاهتمام .. ويعرف القلب البكر نوعا غامضا من المشاعر لم يجربه من قبل .. ويختلف عن بقية الأحاسيس الأخري . وفي المساء حين أضع رأسي , كعادتي كل ليلة , علي حجر أمي , لأسمع الحكايات الجميلة .. وأسف كل مرة أن خطفني النوم قبل أن أعرف نهايتها .. أجدني علي غير العادة متنبها لسماع الحكايات , بغير أن يغلبني النوم في بداية القصة , كما كان الحال .. وأجدني أتراوح بين الانتباه للقصة , والشرود عنها واسترجاع صورة الفاتنة الصغيرة .. فيتساءل العقل الصغير : أيكون هذا هو سهر المحبين الذين يجافيهم النوم , كما تتحدث عنه أغاني الراديو؟ ! وتنطوي النفس علي سرها الخطير فلا تبوح به لأحد , وبدلا من أن تقرب الأيام بين الطرفين كما يأمل القلب الحسير تنقطع الفاتنة الصغيرة فجأة عن الظهور في موعدها اليومي .. وأتلفت حولي باحثا عنها , فلا يظهر لها أثر .. وبعد معاناة صامتة طويلة اقترح علي الرفاق نقل المباراة إلي الطرف الجنوبي من الشارع , حيث يقع مسكن فتاة القلب .. ويقاوم الرفاق الفكرة طويلا , ثم يخضعون في النهاية دون أن يعرفوا دوافعي السرية لهذا الاقتراح .. وأمارس اللعب في الموقع الجديد شارد الذهن مشتت الانتباه بين واجباتي كلاعب كرة , ومراقبة مدخل البيت الذي تقيم فيه الساحرة الصغيرة , علي أمل أن أراها خارجة منه .. وأتلقي لوم الرفاق , لذهولي عن الخصم الذي مرق بجواري وهدد مرمانا وأنا شارد عنه .. ويمضي وقت المباراة الطويل دون أي بادرة تطمئن القلب الحزين .. ويمضي اليوم بعد اليوم , دون أن يجدي نقل المباراة شيئا في معرفة مصير ذات الرداء الأحمر , ثم أتجرأ ذات يوم , فأسأل سيدة من سكان البيت عنها متذرعا بحجة واهية .. ويجيئني الجواب كالصدمة .. إن أسرتها قد انتقلت إلي حي آخر بعيد .. ولأيام تالية أرتاد ذلك الحي الآخر البعيد , متلمسا رؤية فتاة القلب في أحد شوارعه .. فلا أجد لها أثرا .. وأرجع من جولاتي الخائبة مكدود القلب والوجدان , فأتعلق بالأمل الوحيد في أن ترجع أسرة الفتاة ذات يوم إلي الحي القديم , لزيارة جيرانها السابقين .. لكن الأيام تمضي بلا جديد , فيتساءل العقل الصغير : وأين الوفاء؟ وأين الرعاية لمن كانوا شركاء في بيت واحد؟ ويطول سهري في المساء مستمعا ل " نهايات " الحكايات المألوفة كل ليلة , ثم تضعف الذكري بمرور الأيام .. وتبرأ الجراح شيئا فشيئا ويجرف النسيان كل شيء . وتمضي الأعوام فألتحق بالمدرسة الابتدائية , ثم أنتقل منها إلي المدرسة الاعدادية , وأري ذات يوم سيارة أجرة قديمة متهالكة تقف أمام منزل الخياطة في مطلع الشارع , وأعرف من إخوتي أن ثمة عروسا في بيت الخياطة تتسلم فستان زفافها الأبيض .. وأنها سوف ترتديه , وتستكمل زينتها في بيت الخياطة .. ثم تخرج لتركب السيارة المتهالكة إلي حفل زفافها البسيط . وأقف في الشرفة مع الإخوة أترقب لحظة خروج العروس وانطلاق الزغاريد .. ولا يمضي وقت طويل حتي تعلن الزغاريد عن مقدم العروس ووراءها صويحباتها , وتخرج العروس فلا أري وجهها المحاط برؤوس الصديقات .. لكنها تلتفت إلي الخلف , قبل أن تركب السيارة لترد تحية صديقاتها , فأري وجهها لأول مرة .. وتلمع الذكري القديمة فجأة كالبرق الخاطف , إن عروس اليوم هي نفسها طفلة الأمس ذات الرداء الأحمر , لم يتغير شيء كثير في ملامح وجهها .. لكن جسمها قد نما وتفجر أنوثة وحيوية .. وأستغرق لحظات في ذكريات الأمس البعيد .. ومشاعر خفيفة من الشجن الغامض تتسلل إلي القلب , وأشعر بشيء من الرثاء للنفس .. ليس بسبب القصة التي لم تكتمل , وإنما بسبب آخر عجيب .. هو تأملي لقصر الرحلة بالنسبة للفتاة من مرحلة الطفولة إلي مرحلة الأنوثة والزواج .. في حين يبدو الطريق طويلا , وبلا نهاية , لمن كان من الفتيان ! وينشغل كل من حولي بمتابعة موكب العروس .. ووداع الصديقات .. وأشرد أنا بعيدا عن كل شيء .. وفي خاطري هاتف يقول : ما أسرع ما تمضي أحداث الحياة ! وأقرأ أيضاً : الحكاية الثانية والعشرين .. اللون الأخضر !