فى هذا اليوم الثالث والعشرين من سبتمبر، يحتفل الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل ببلوغه العام التسعين فى مشوار عمره المديد الذي لاشك قد حمل بين ثنايا السنوات وحواشى الأيام مسيرة حاشدة بالذكريات والأفكار والرؤى والشهادات .. بروح وثابة وذهن متقد وشبكة علاقات هائلة لا تعرف الفتور، يتقدم الأستاذ غير عابء بما تحمله الأيام بما يمتلكه من قدرة فذة على التحليل والقراءة ومعرفة الحقيقة من مصادرها تماما كان كان يكتب فى عموده الثابت "بصراحة" على صفحات الأهرام قبل نحو أربعة عقود . هذا وتحظى تسعينية هيكل باهتمام شديد حيث تحول عيد ميلاد الأستاذ إلى حدث هام أفردت له الصحف الصادرة صباح اليوم مساحات وملفات شاملة كان فيها مشوار عمره محورا للكشف عن أسرار وعلاقات وتفاصيل كثيرة تخص التاريخ المصرى من خلال علاقاته بالرئيسين عبد الناصر والسادات. مواليد عام الدستور . . فى عام الدستور - دستور 23- ولد الأستاذ هيكل فى مناخ ينذر بالثورة الدائمة على الاحتلال والاستغلال والتقاليد البالية وثالوث الفقر والجهل والمرض.. وفى هذا العام الذى شهد مولده حصلت الأمة المصرية على حقوقها الدستورية فى أن تنتخب من يمثلونها وحصل أبناء الشعب لأول مرة على اعتراف رسمى بأن لهم حقوق فى التعليم والصحة وحرية الفكر والاعتقاد .. وفى هذا العام الذى يستقبل فيه الأستاذ عامه التسعين تشهد الأمة المصرية صراعات حادة وانقسامات وخلافات بعضها للأسف تم حسمه منذ 90 عاما فى دستور مصر الأول .. لكن طيلة هذه العقود التسعة يمضى الأستاذ هيكل غير عابء بما تحمله الأيام متصفا بالخبرة التاريخية والمعرفة الشاملة حول أحداث هذا العصر وما واكبه من تحديات وتطلعات .. . . . يقول الأستاذ صلاح منتصر فى حديثه عن سيرة الأستاذ هيكل أنه من مواليد 23 سبتمبر 1923 في قرية صغيرة إسمها باسوس بالقليوبية . لأب لا يقرأ ولا يكتب عمل في زراعة وتجارة القطن, وتزوج كرجال زمانه زوجتين أنجبت له الثانية خمس بنات وولدين هما محمد وفوزي. وقد كتب لفوزي أن يستقل صاروخ العلم ويحصل على الدكتوراه ويسافر إلي أمريكا ويقيم بها إلي أن توفاه الله. أما محمد فكان أمل الأسرة أن يكمل عمل أبيه في محلج القطن وأن يتم تمييزه عن باقي العاملين ببالطوه الأبيض الذي يلزم الآخرين أن ينادوه يامحمد أفندي. وحتي يحقق حلمه أدرك أن تعليمه في التجارة المتوسطة لا يكفي, وأن عليه تعليم نفسه بنفسه. فانضم في وقت واحد إلي القسم الخاص لتعليم الإنجليزية بالجامعة الأمريكية, وإلي قسم تعليم الفرنسية في مدرسة الليسيه. وفي الجامعة الأمريكية عام1942 سمع محمد محاضرة عن الخبر الصحفي وقواعده ألقاها سكوت واطسن الذي كان يعمل محررا في جريدة الإجبشيان جازيت أهم صحيفة إنجليزية في زمن الاحتلال الانجليزي. وعندما سأل واطسن تلاميذه عمن يرغب في التدريب في صحيفته, كان ذلك دون أن يعرف أحد, بداية شاب مغمور اسمه محمد حسنين هيكل, لم يبلغ صحفي عربي شهرته وقدراته واتصالاته. وفى الإجيبشيان جازيت بدأ الأستاذ مشواره الصحفى ثم عمل بروزاليوسف ومجلة آخر ساعة، إلى أن انتقل إلى الأهرام عام 57 ليبدأ مشورا طويلا بنى فيه الأستاذ هذه المؤسسة الحديثة لكنه قرر اعتزال الكتابة المنتظمة عند بلوغه الثمانين في الثالث والعشرين سبتمبر عام 2003 م، وكان وقتها يشرف على تحرير مجلة "وجهات نظر" . وبينما يستعد الأستاذ لاستقبال عامه التسعين فقد استيقظ صباح أحد الأيام على نبأ اقتحام مزرعته فى برقاش وحرق الفيلا الخاصة به .. كان بعض الموتورين أعماهم التطرف قد قاموا بهذه الجريمة فى أعقاب فض اعتصامات الإخوان وهى الجريمة التى وصفها الأستاذ فى رده البليغ على الأستاذ فهمى هويدى بقوله " شيطان ما لعب فى برقاش" . هكذا رأى الأستاذ مهنة الصحافة ومن المعلوم أن الأستاذ هيكل له موقف خاص من مهنة صاحبة الجلالة ففى أثناء زيارته للأهرام بدعوة من الكاتب الراحل الأستاذ لبيب السباعى العام قبل الماضى قال أن الصحافة مهنة متعلقة بالسياسة والسياسة طاغية وحاكمة لأن الصحافة تبحث عن الخبر ولذلك فهناك علاقة جدلية ونحن نسينا مهنة الصحافة ونحن نتعامل مع الخبر وغيرنا من وسائل الإعلام الأخرى قد يتعامل مع الحدث وهنا فارق بين الحدث والخبر فالحدث هو شكل ما جرى وهو ما يفعله التليفزيون أما الخبر فينطوى على شىء أكثر من الحدث لأنه يتضمن الذهاب بالعمق والتحليل والفكرة إلى حيث لا تستطيع أن تفعل الكاميرا ومهنة الصحافة تؤدى عدة أدوار وهى : الإعلام والتعليم والترفيه لكن المنافسة مع الفضائيات ذهبت بالصحافة إلى ناحية الترفيه وهذا أضعف كثيرا من مهنة الصحافة لأنه حيث يكون هناك ترفيه فالتليفزيون يكتسح فى ذلك من غير شك . ويؤمن الأستاذ هيكل بأن الكلمة المطبوعة سيظل لها مستقبل كبير وكل وسائل الإعلام الآن تعطى صورة من الحقيقة أو لمحات منها أما الجورنال المطبوع فيعطى مضمون الحقيقة أو مجملها وهناك تصور شائع أن الصحافة الإلكترونية ستحل محل المطبوعة لكنى أقول أن الكلمة المطبوعة ستظل إلى وقت طويل ذات قيمة وستظل المنافسة قائمة فى تغطية الخبر وفى الدقة والتحليل والتعليق على الخبر. ويروى الأستاذ أيضا أنه عندما ترك الأهرام كان يتقاضى 5 آلاف جنيه فى السنة أو ما يعادل 262 جنيها فى الشهر و أنا رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير وكاتب مقال أسبوعى لكنى بعد ذلك عشت من حقوق نشر مقالاتى فى الخارج ومهم جدا أن يتصف الكاتب بالإستغناء المادى ولهذا كان خروجى من الأهرام فى هذا الوقت كان يستحق ابتسامة خاصة وأن المهنة كانت كريمة معى جدا وبالتالى لم أقبل مناصب رسمية ولا عملت فى شركات وربنا أغنانى عن الناس. سر حيوية هيكل ! أنا أتعاطى العمل وهذا هو سر نشاطى .. هذه الإجابة الثابتة التى يذكرها الأستاذ عندما يسأله أحد الملوك والرؤساء او الشخصيات الهامة عن أسرار حيويته الدائمة وقوة الذاكرة التى يتسم بها وهذا ما ذكره أيضا للملك عبد الله والشيخ زايد رحمه الله حيث يقول " أنا أعمل إذن أنا موجود وأنا نفسى أعتزل لكنى أسأل نفسى وماذا أعمل وزوجتى قالت لى إهدأ شوية فقلت لها طيب أعمل أيه ؟ أما عن زمنى فقد فات ونفسى حد من الشباب الجدد أن يكتب مليون بصراحة ولابد أن تجدوا نجومكم أنتم فنحن نجوم ذاهبة ولا نستطيع أن نستعيد الماضى". جبل من الوثائق .. هكذا وصفته أحدى الصحف الصباحية الصادرة اليوم حيث يظل الأستاذ محتفظا بكم هائل من الوثائق والأوراق النادرة التى تنقل الحقائق الكاملة حول أهم احداث العصر منها وثائق حول النكسة وحرب أكتوبر ومفاوضات السلام وغيرها .. وكانت علاقاته المتميزة داخل وخارج مصر قد خلقت له مصادر شديدة الخصوصية لم يحظى بها أى صحفى آخر، لهذا لم يكن غريبا ولا عجيبا أن يقول أنتوني ناتنج (وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية في وزارة أنتوني إيدن) ضمن برنامج عن محمد حسنين هيكل أخرجته هيئة الاذاعة البريطانية ووضعته على موجاتها يوم 14 ديسمبر 1978 في سلسلة "صور شخصية": عندما كان قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه... وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه.