في سن الطفولة تختفي الحواجز .. وتتشابك الحدود , فلا فرق بين غني وفقير .. ولا بين ولد وفتاة , فالجميع أطفال يلعبون ألعابهم .. ويتشاركون في الحكايات . ويقضون يومهم في الجري واللعب والحركة كأنهم يؤدون " عملا " شاقا لابد لهم من أدائه بإخلاص قبل أن يرجعوا إلي أسرهم وبيوتهم مجهدين آخر النهار بعد يوم " عمل " طويل ! وفي شلة الأطفال يتشارك الصبيان والبنات في كل الألعاب , فلا يفترقون إلا حين تفضل البنات ممارسة بعض الألعاب التي تميل إليها طبيعتهن , ولا تتفق معها طبيعة الأولاد , فيرسمن علي الأرض بالطباشير عدة مستطيلات , ويلقين عليها بقطعة من البلاط المكسور , ثم يحجلن علي قدم واحدة ويدفعن هذه القطعة بالقدم الثابتة علي الأرض من مستطيل إلي آخر , وتفوز بقصب السبق منهن من تدفعها أمامها من المستطيل الأول إلي المستطيل الأخير بغير أن تفقد توازنها أو تستند بقدمها المعلقة إلي الأرض .. ونرقب نحن البنات في لعبتهن , ونتساءل ماذا يغريهن فيها وهي لا تبدو لنا مسلية أو واعدة بالإثارة والمتعة , وننصرف عنهن إلي لعبة أخري تتفق مع طبيعتنا كصبيان , فنرسم علي الأرض غير المرصوفة بنفس قطعة الطباشير دائرة صغيرة .. ونشحذ خناجرنا البدائية التي صنعناها من شظايا قطع الصاج أو الحديد التي تلقي بها إلي الطريق مخارط الحدادين القريبة منا , ونروح نتباري في رشق هذه الخناجر في الأرض .. ويفوز منا بقصب السبق من يصيب خنجرة قلب الدائرة .. ويبوء بالخسران من تطيش سهامه بعيدا عنها .. وفي احدي هذه المباريات اليومية , لاحظ أحد الرفاق المتبارين أن ولدا من المتفرجين يقف بالقرب من دائرة الهدف , فطلب منه الابتعاد عنها لكيلا يصيب سهم طائش قدمه الحافية بالأذي , فلم يستجب للتحذير بعناد طفولي مفهوم , وكرر عليه الرفيق النصيحة مصحوبة هذه المرة بتحذير شديد من أنه إذا لم يبتعد بقدمه العارية عن منطقة الهدف فلسوف يرشق خنجره فيها ! ويستفز التحذير عناد المتفرج أكثر وأكثر فيجيبه بتحد عجيب : أفعل .. إن كنت " رجلا " !. فلا يزيد الرفيق عن أن يقول له ببساطة شديدة : أهوه ! ثم يرشق خنجره في القدم العارية فيستقر بين أصبع القدم الكبري والأصبع الذي يليه .. وينفجر الدم كالينبوع .. ويصرخ الولد ويفزع الجاني ويطلق ساقيه للريح .. وينتابنا الرعب الشديد .. ونحار فيما نفعل والخنجر مازال مرشوقا في قدم الصبي الذي يصرخ ويولول .. ونهم بأن نستغيث بالكبار لينقذوا الطفل الجريح , لكن " أشجعنا " يحسم الموقف بأن يتقدم من الطفل , ثم ينتزع الخنجر من قدمه بقوة ترافقها صرخة مدوية من المصاب .. ثم نهرول إلي بيوتنا نطلب " الاسعاف الطبي " المألوف لنا للطفل الضحية .. فيكون الاسعاف المعتاد في ذلك الوقت هو كمية كبيرة من البن نرجع بها من البيت و نكبس بها جرح الصبي النازف , فيتوقف النزيف بعد حين , وتتوقف دموعه أيضا .. ثم نجلس إلي جواره نشد من أزره ونهون عليه المصاب ونلومه علي عناده الذي أورده موارد التهلكة , ومن بعيد يتراءي لنا وجه الصبي الجاني ممتقعا وشاحبا , ويتردد هو في الاقتراب منا تحسبا لما قد يناله من أذي أبوي الطفل حين يعلمان بالحقيقة . فننهض نحن بحماس الأطفال المعهود لتسوية الموقف , ونحث الصبي الجريح علي العفو عن رفيق اللعب , حرصا علي أواصر المودة والصداقة و الرجولة التي تجمع بيننا .. ونتكاثر عليه .. فلا يرد رجاءنا ببراءة الأطفال وعجزهم عن أن يحملوا حقدا لأحد , ويوميء برأسه بعد قليل موافقا علي الصلح المنشود , ونشير نحن للجاني الواقف بعيدا باشارة الأمان .. فيقترب بحذر .. إلي أن يدنو من دائرتنا فيقول موجها تساؤله إلي ضحيته في رجاء : صافية يا لبن؟ فيجيبه الصبي بتأثير نظراتنا المشجعة بصوته الرفيع : حليب ياقشطة ! فيقترب منه مادا إليه إصبعيه السبابه والوسطي بنفس الطريقة .. وتتلامس الأصابع علامة علي الصلح وعودة الوفاق , ثم يرفع كل منهما إصبعية إلي فمه فيلثمهما .. ثم يلمس بهما جبهته .. ويهلل الرفاق فرحا بعودة الوئام , ويقترب الجاني من ضحيته فيقبل رأسه .. وينهض الصغار لمعاودة اللعب وكأنما لم يقع شئ يعمر صفو الحياة .. ولأيام بعدها " يحجل " بيننا ذلك الصبي بصدمه المصابة الملفوفة برباط متسخ .. مستمتعا بنظرات " الإكبار " التي تحيط به من الرفاق " لرجولته " .. التي تجلت عند الاختبار حيث تكتم حقيقة أمر إصابته عن أبويه وزعم لهما أنه قد جرح نفسه بخنجره علي سبيل الخطأ , لكي يحمي رفيق اللعب من بطش الكبار , وترجع المياه إلي مجاريها السابقة بين الصغار صافية بنقاء القلوب الغضة .. واستعدادها الفطري للنسيان .. فطوبي لأيام البراءة والمشاعر الطاهرة .. وطوبي لأيام السعادة المبرأة من كل الأوزار . وأقرأ أيضاً : الحكاية العشرين .. الغرباء !