انضممت إلي شلة الشارع فوجدت لها " رئيساً " من الغلمان يحظي بما يحظي به كل رئيس من سطوة وهيبة ونفوذ ! . ولأنني قد انضممت للحلبة متأخرا فلم أعرف متي تم اختياره للرئاسة ولا ما هي مؤهلاته التي رشحته لها .. ولا هل هو رئيس ديمقراطي " صعد " إلي منصبه بالانتخاب الحر , أم أنه رئيس " أتوقراطي " مستبد نال موقعه بالاغتصاب أو القوة , لكني أحسب الأن أنه قد جاء إلي موقعه بقانون الانتخاب الطبيعي الذي يعطي للسن مكانة كبيرة .. وللقوة مكانة أعلي .. وكان رئيس شارعنا صبيا توقف عن الدراسة في المرحلة الابتدائية وألحقه أبوه الميكانيكي بالعمل بمحل ترزي , فكان أول ما توقف أمامه عقلي الصغير من تناقضات الحياة , هو كيف يكون " الرئيس " مشغولا عن رعيته بعمل آخر يحجبه عن مهامه الجليلة في الشارع من الصباح حتي آخر الليل؟ ولماذا لا نراه بيننا حين نحتاج إليه ليدفع عنا عدوان صبيان الشوارع الأخري حين يشنون علينا غاراتهم؟ وكيف يستقيم الحال .. وهو لا يظهر في مملكته إلا يوم الأحد فقط من كل أسبوع موعد عطلة المحل الذي يعمل به .. وإلا في بعض الأمسيات المتأخرة حين يغلق المحل أبوابه مبكرا بعض الشيء؟ لكن هذه التساؤلات لم تخرج عن حدود عقلي الصغير .. وسلمت بما يسلم له به الجميع من مهاب واحترام .. ولاحظت أنه حين يجلس بين رعيته علي رصيف الشارع في المساء تحيط به المهابة من كل جانب , فلا يجرؤ أحد علي مخالفة أوامره وتعليماته إذا اقترح ممارسة إحدي الألعاب الجماعية , أو قرر أمرا من أمور الشلة .. كمخاصمة فلان لخروجه علي قانون الشارع أو مصالحة آخر , وكانت اللعبة المفضلة لديه كلما حظي الأتباع منه بجلسة صفاء واستمتاع في المساء هي لعبة الجوال , فيأمر بإحضار جوال قديم من بيت أحد الأتباع , ويأمر أحد الغلمان بالدخول فيه , وآخر بربط الجوال عليه والوقوف به في نهر الشارع متظاهرا بمحاولة حمله كأنه بعض المتاع .. فيفشل في ذلك بالطبع .. ويستنجد بأول عابر للطريق أن يساعده في حمل الجوال , ويقبل الرجل علي مساعدته بحسن نية , وما أن يهم برفع الجوال ليضعه فوق ظهر الصبي حتي يصرخ الصبي المختفي داخله .. ويتحرك , فيفزع الرجل فزعا شديدا .. ويستغرق الصغار في الضحك لفزعه وارتباكه .. ويكشف الرجل اللعبة السخيفة فيتراوح رد فعله بين الضحك " لشيطنة " هؤلاء الأولاد والمضي إلي حال سبيله , وبين السخط علي عبثهم به وضرب أو سب من غرر به .. وسب الملاعين الآخرين الذين يرقبون الموقف عن قرب وهم في قمة السعادة والانشراح ! وتدور الأيام دورتها المألوفة ويزداد " الرئيس " انشغالا بعمله وحياته عن شئون موقعه , وغيابا عنه .. ولا يغني عن غيابه وجود وكيل له من بين الصبيان .. ينقل إليه شئون الرعية وأنباء بذور التمرد التي بدأت تظهر بينهم لكثرة الغياب , وكشرارة الحريق التي تندلع فجأة بغير مقدمات اندلعت أيضا شرارة الثورة علي الرئيس المهمل لواجباته , فيجتمع الرفاق بغير تدبير سابق ذات أصيل في الشارع ويتفقون علي خلع هذا الرئيس اللاهي , وتنصيب آخر بدلا منه .. وتهديهم عقولهم الصغيرة إلي أن أفضل وسيلة لإعلان قراراهم " التاريخي " هذا هو أن يصطفوا جميعا في طابور طويل يمضي إلي المحل الذي يجلس علي بابه الرئيسي المخلوع منحنيا علي بنطلون يخيطه , ثم يهتفون خلال مرورهم به بسقوطه , وحياة الرئيس الجديد , ويفعلون ذلك بالفعل بعد أن تخلصوا من تهيبهم له .. وشقوا عصا الطاعة له .. ويرفع الرئيس المعزول رأسه عن البنطلون وينظر إلي الأطفال العابرين أمامه , في ازدراء واستخفاف , ثم يرجع إلي عمله من جديد في هدوء . ونرجع نحن إلي الشارع منفعلين بالإثارة الشديدة التي شعرنا بها ونحن نعلن سقوط دولة التسيب والإهمال .. وقيام دولة العدل والإخلاص في شارعنا .. ولا ندرك خلال ابتهاجنا الشديد بنجاح الثورة وتوفيقها , أن الرئيس السابق كان قد حظي منذ زمن دور الطفولة .. ودخل بداية مرحلة الشباب .. وأنه لم يعد يعنيه من أمرنا أو أمر شارعنا شيئا كثيرا . وأقرأ أيضاً : اللقاء الأخير ! الحكاية الأولى .. الانحناء ! الحكاية الثانية .. أيام السعادة ! الحكاية الثالثة .. الاحتفال ! الحكاية الرابعة .. التواصل عن بعد ! الحكاية الخامسة .. شيء من الألم ! الحكاية السادسة ... الانتقام ! الحكاية السابعة .. فليكن ! الحكاية الثامنة ... الحب في شارعنا ( 1 ) ! الحكاية التاسعة... الحب في شارعنا ( 2 ) !