في وضع مثالي، لا تقل أهمية النقد الأدبي عن الإبداع نفسه، وتتمثل قوة النقد، حين يكون نزيهًا، في قدرته علي إنصاف أصوات هُمِشَّت لبعدها عن الذائقة السائدة أو الاتجاهات الأدبية المسيطرة أو لبعد أصحابها عن التواطؤات القائمة في مشهد أدبي ما، و في قدرته أيضًا علي تتبع الظواهر الجديدة في الكتابة والتنظير لها وإلقاء الضوء عليها، لكن إذا انتفت النزاهة أو اتجه النقد إلي مجاراة الرائج وتملقه يصبح ضرره أكثر من نفعه. قد لا يحتاج الكتاب المكرسون إلي النقد كثيرًا، لكن أهميته تزداد لدي من هم في بداياتهم، حيث يكونون في حاجة إلي التشجيع ويبحثون عن موطئ قدم لهم، والاعتراف النقدي بهم من نقاد مؤثرين يدعمهم بشكل كبير. حتي نهاية التسعينيات وبداية الألفينيات، كان لا يزال للنقد حضور كبير. وقتها كان سوق نشر الأدب (في مصر علي الأقل) يعتمد بالأساس علي دور نشر طليعية ونخبوية، ولم يكن عنصر المبيعات يدخل في الحسبان لتقييم نجاح عمل أدبي من عدمه، كان يكفي أن يشيد كبار النقاد بعمل ما كي يُعّد ناجحًا. وخلال سنوات تغير الوضع مع انتشار المكتبات الحديثة وإقبال دور النشر الكبري علي نشر الأدب وشيوع ظاهرة الأفضل مبيعًا وتحولها إلي المعيار الأهم للحكم علي مدي نجاح كتاب ما. زادت القراءة وانتعش النشر كميًا، لكن جاء هذا علي حساب الجودة الفنية، فالشيوع غالبًا ما يكون للأعمال الخفيفة، وفي خضم هذه التغيرات تواري دور النقد تدريجيًا، خاصة أن هناك بين الكتاب من يبحثون فقط عن الدعاية والتسويق والانتشار لا النقد. ثم هُمِش النقد أكثر مع تزايد سطوة مواقع السوشيال ميديا، بحيث أصبح شبه غائب حاليًا عن المشهد الأدبي، صحيح أنه لا يزال موجودًا بالنظر لحرص عدد من النقاد علي مواصل الكتابة النقدية، لكنه لم يعد مؤثرًا كما في السابق، فالشرائح الأوسع من القراء صاروا يختارون ما يقرأونه بناءً علي اختيارات الجوائز الأدبية والتعليقات علي مواقع السوشيال ميديا أو تقييمات جوود ريدز ومواقع الإنترنت الأخري، ثم بدرجة أقل المراجعات السريعة في الصحف والمجلات الأدبية. لا مشكلة في هذا، فالتغير سنة الحياة، وهذه المواقع خلقت نمطًا جديدًا ومؤثرًا من القراء لم يكن بالإمكان ظهورهم بهذه الكثافة من غيرها، كما أن هذه التحولات لا تقتصر علينا وحدنا، بل يشهدها العالم كله، لدرجة ظهرت معها تنظيرات مفادها أن النقد انتهي مع نهاية القرن العشرين، ولم يعد بالإمكان استعادة دوره. المشكلة الحقيقية، التي نشهدها حاليًا، تتمثل في شيوع ظاهرة الحكم »النقدي» علي أعمال قبل قراءتها، ودون حتي ادعاء قراءتها. »لم أقرأ هذا الكتاب، لكنني أري...» عبارة تتكرر كثيرًا بصيغ مختلفة، ونادرًا ما يتوقف أحد ليسأل: أي رأي هذا الذي كونته عن كتاب لم تقرأه بعد؟! فحتي لو كنا قرأنا معظم أعمال كاتب ما، لا يحق لنا الحكم علي كتاب لم نقرأه له اعتمادًا علي خبرتنا بأعماله السابقة. من ناحية أخري، من النادر أن نجد من يناقش النصوص من داخلها، السائد كلام مرسل فضفاض يتناول كل ما يحيط بالكتابة وكل ما هو خارجها مع تصميم علي تفاديها إن وُجِدت. يحكم البعض علي عمل ما بناء علي جنسية كاتبه أو جنسه أو وضعه الطبقي والوظيفي. تثور ضجة أحيانًا حول عمل ما ونُفاجأ بطوفان من التفاصيل والنقاشات والقضايا الفرعية منبتة الصلة بمضمون العمل نفسه وما قد يحمله من مقترحات جمالية وفنية أو حتي هنات ومواطن قصور. وسط الضجيج تضيع أي محاولة لطرح رأي نقدي موضوعي، منطلق من العمل الأدبي وحده، ففي قلب الصخب تصبح الموضوعية فائضة عن الحاجة، إذ لا يكون هناك مكان إلا لمعسكرين: معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، المتضامنين والمهاجمين. وفي الحالتين يقتصر الأمر في الغالب علي ما يشبه الهتاف، لا يهم مع أو ضد، فالهتاف في كل أحواله ينبع من منطقة لا علاقة لها بالنقد. م.ع