الفن والجمال تحمله جدرانها.. الإنسانية والسلام تعم أرجاءها.. العراقة والأصالة والثقافة يسطرها تاريخها. تناغم الروح والعقل، الهدوء وسكينة النفس؛ هدف لكل من يوفد إليها وهي واقفة شامخة منذ 850 عاماً في الجانب الشرقي علي جزيرة صغيرة تسمي »جزيرة المدينة» بنهر السين.. نقوشها وتصميمها يعكس فن العمارة القوطية وتاريخ العصور الوسطي الفرنسية.. لعبت دوراً مهماً في الكثير من الأحداث التاريخية المحورية.. وبعراقتها التي تشع نوراً في قلب العاصمة الفرنسية، باريس كانت ولا تزال »كاتدرائية نوتردام» مصدر إلهام للأدباء وعلي رأسهم الفرنسي »فيكتور هوجو» صاحب أشهر رواية عنها »أحدب نوتردام» عام 1831. في تمام الساعة السادسة والنصف مساء يوم الاثنين الموافق 15 من الشهر الحالي، تحول مشهد من رواية هوجو إلي حقيقة بعد نحو قرنين، تابعه الملايين بأسي وحزن حول العالم علي الهواء مباشرة في قلب عاصمة النور بعد أن اندلع حريق هائل في كاتدرائية نوتردام أثناء عمليات ترميم تشهدها منذ العام الماضي، ألسنة اللهب أسفرت عن انهيار سقفها وبرجها، والتهمت أكثر من 8 قرون من التاريخ. تم بناء نوتردام علي مدار ما يقرب من 200 عام، ابتداءً من منتصف القرن الثاني عشر وبالتحديد عام 1163، في عهد الملك »لويس السابع» واكتمل عام 1345 ولكن أضيف البرج الذي يبلغ ارتفاعه 93 متراً، في منتصف القرن التاسع عشر، خلال مشروع ترميم كبير أنجزه المهندس المعماري »يوجين فيوليت لو دوك». عرفت الكاتدرائية أحداثا هامة علي مدي قرون منها؛ تتويج ملك إنجلترا »هنري السادس» ملكاً علي فرنسا داخلها عام 1431. كما توج »نابليون بونابرت»، الذي أنقذ الكاتدرائية، إمبراطوراً عام 1804؛ بعد أن شهدت نوتردام تخريباً ونهباً لقطعها خلال الثورة الفرنسية. كما تضررت جزئياً خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها تمكنت من الصمود لتصبح أحد أجمل المعالم التاريخية والروحية والمعمارية بالعالم، حتي تم إدراجها علي قائمة التراث العالمي لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة »اليونسكو» خلال تسعينيات القرن الماضي. والآن، هل ستنجح الجهود العالمية في إعادة الكاتدرائية علي ما كانت عليه؟ »أقولها لكم بكل حزم هذا المساء.. سنعيد بناء هذه الكاتدرائية كلنا جميعاً.. سنعيد بناء نوتردام لأن الفرنسيين يريدون ذلك، لأن تاريخنا يستحق ذلك، لأن هذا قدرنا».. هكذا تحدث الرئيس الفرنسي »إيمانويل ماكرون» عقب زيارته للكاتدرائية لتفقد الأوضاع ومؤازرة فرق الإطفاء، بعد اندلاع الحريق. وبعد أقل من يوم من دعوة الرئيس الفرنسي للحصول علي تبرعات للمساعدة في إعادة بناء الكاتدرائية التاريخية التي لحقت بها أضرار جسيمة في الحريق، تم تلقي تبرعات تقارب مليار دولار. حيث تعهد المليادرير الفرنسي »فرانسوا هنري بينولت» البالغ من العمر 56 عاماً، الذي يرأس شركة Kering للسلع الفاخرة، وهو متزوج من النجمة »سلمي حايك»، أنه سيقدم ما يقرب من 113 مليون دولار، لإعادة ترميم نوتردام. وقال الملياردير »بينولت» إن الكاتدرائية هي »رمز للروحانية وإنسانيتنا المشتركة»، معرباً عن أمله في أن يحذو الآخرون حذوه لأن ذلك »يجب أن يكون مسعي جماعيا» لتجديد المعالم الباريسية. وأوضح بينولت أنه شعر ب»الصدمة» من رؤية المبني مشتعلاً، مضيفاً: »نحتاج إلي إعادة البناء الجماعي لهذا الجزء من تاريخنا، من ثقافتنا، لذلك فهي حاجة ملحة وعاجلة، لذلك قررت التبرع للقيام بذلك». وجاء أكبر تبرع من عائلة الملياردير الفرنسي »برنار أرنو»، 70 عاماً، الذي يمتلك مجموعة L«MH للسلع الفاخرة. وقالت الشركة في بيان إن عائلة برنار ومجموعة L«MH ستقدم 226 مليون دولار للمساهمة في عملية الترميم »لإظهار تضامنهم خلال هذه المأساة الوطنية». كما عرضت المجموعة، التي تمتلك »لوي فويتون»، علي الحكومة الفرنسية استخدام »مستشاريها المعماريين والمبدعين والماليين» للمساعدة في جهود جمع الأموال وإعادة الترميم. كما أعلن رجل الأعمال الأمريكي »هنري كرافيس» الرئيس المشارك لمجلس الإدارة ل »كي كي آر» للملكية الخاصة، عن تبرعه بمبلغ 10 ملايين دولار. وتعهد عدد من الشركات الفرنسية بإعادة بناء كاتدرائية نوتردام عقب الحريق الهائل الذي دام لأكثر من 9 ساعات، وأعلن الرئيس التنفيذي لشركة توتال الفرنسية للطاقة »باتريك بويان»، أن شركته ستتبرع ب 113 مليون دولار لجهود إعادة الترميم. وانضمت إلي حملة التبرعات أيضاً شركة مستحضرات التجميل الفرنسية »لوريال» بعد أن قدمت 226 مليون دولار إلي جانب مؤسسة بيتنكورت شويلر وعائلة بيتنكورت ماير. كما تعهدت شركة »والت ديزني» بالتبرع بمبلغ 5 ملايين دولار للمساعدة في إنقاذ هذا التراث الثقافي. كما ساهمت بلدية باريس بنحو 56٫23 مليون دولار، وانضمت لها منطقة »إيل دو فرانس» بعد أن خصصت 11٫25 مليون دولار لأعمال الترميم. فيما انطلقت حملات جمع الأموال من جميع الأعمار والطبقات الاجتماعية عبر الشبكة العنكبوتية. وأعلنت مؤسسة Fondation du Patrimoine، التي تمول مشاريع التراث الفرنسي، إنها جمعت بالفعل ما يقرب 2٫3 مليون دولار بحلول منتصف الثلاثاء الماضي من داخل فرنسا. فيما جمعت حملة أخري علي موقع التمويل الجماعي dartagnans.fr تحت عنوان »نوتردام باريس.. أنا أحبك» 61 ألف دولار . كما أطلقت »جمعية التراث الفرنسية» ومقرها نيويورك، وهي منظمة غير هادفة للربح تدعم التراث الفرنسي في الولاياتالمتحدةوفرنسا، صفحة للتبرعات، دعت محبي الكاتدرائية من الأمريكيين إلي المساهمة. كما تعهد »أندري أندرييف»، مؤسس تطبيق التعارف »Badoo» بالتبرع بنسبة 100٪ من أرباح أبريل للتطبيق من 22 مليون مستخدم في فرنسا لإعادة ترميم الكاتدرائية. وقال أندرييف في بيان نشر علي موقع إنستجرام: »إن نوتردام هي معلم غير عادي ورمز لباريس، إنه يمثل الحب والوحدة، ويجمع الناس من جميع أنحاء العالم بغض النظر عن من هم ومن أين أتوا.» كما أعلن الرئيس التنفيذي لشركة آبل »تيم كوك»، أن الشركة ستساهم في جهود إعادة البناء. دعا الرئيس الألماني »فرانك فالتر شتاينماير» إلي بذل المزيد من جهد علي مستوي أوروبا كلها لإعادة بناء الكاتدرائية، قائلاً إن »نوتردام ليست مجرد مبني رائع، إنها معلم أوروبي كبير»، وأن الأجزاء التي احترقت لن تترك أحداً في أوروبا دون أن تمسه. وطالب شتاينماير من الألمان »دعم» الترميم. كما دعا »دونالد تاسك»، رئيس المجلس الأوروبي، الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلي المساهمة في إعادة البناء. بينما عرض الرئيس الروسي »فلاديمير بوتين» أن يرسل إلي فرنسا »أفضل الاختصاصيين الروس الذين لديهم خبرة واسعة في ترميم صروح التراث العالمي بما يشمل أعمال الهندسة المعمارية التي تعود إلي القرون الوسطي». ووعد الرئيس الفرنسي ماكرون، الفرنسيين بإعادة بناء نوتردام - وأن تكون »أجمل من ذي قبل» - في غضون خمس سنوات، وهو جدول زمني يعتبره الكثير من الخبراء مستحيلاً. حيث يروا أن استعادة »نوتردام» التي استغرقت قرناً من الزمان في بنائها الذي بدأ عام 1160، وفقاً لمجلة »تايم» الأمريكية، ستستغرق عقدا أو أكثر، مستندة إلي تصريحات الخبير الفرنسي »ستيفان بيرن»، أستاذ العصور الوسطي والمسئول عن التراث، إن عملية الترميم ستستغرق »من 10 إلي 20 عاماً كحد أدني. فيما صرح مدير اليونسكو، لوكالة »أسوشيتيد بريس» بأن العمل علي حماية الهيكل الحجري والخشبي الذي يرجع إلي القرن الثاني عشر، موضحاً أن »أول 24 و 48 ساعة» كانت ضرورية لمستقبل المبني. وقال رئيس أساقفة نوتردام إنه يتوقع أن يظل المبني مغلقاً أمام الجمهور لمدة خمس إلي ست سنوات. وكانت فرنسا قد أعلنت الأربعاء الماضي، أنه سيتم تنظيم مسابقة دولية لإعادة تصميم برج الكاتدرائية. قال رئيس الوزراء الفرنسي، »إدوارد فيليب»، »المسابقة ستهدف إلي تصميم البرج بما يناسب تقنيات وتحديات عصرنا». وأضاف أن تقدير تكلفة ترميم الكاتدرائية لم يتم بعد. وأعلن المتحدث باسم خدمات الإطفاء أنه لا يوجد خطر فوري من انهيار الهيكل الذي فقد ثلثي سقفه في الحريق. وقال مكتب المدعي العام إنه لم يتم اعتبار المبني آمنًا بدرجة كافية حتي يتمكن المحققون من دخول وبدء فحص مصدر الحريق في الموقع. فيما يبحث خمسون محققاً في الأسباب الحقيقية التي أدت إلي حريق الكاتدرائية، وفقاً لقناة »France 24» وتطرح بهذا الخصوص جملة فرضيات، يسعي المحققون بحث كل واحدة منها علي حدة. الفرضية الأولي بالنسبة للمحققين بأنه ماس كهربائي ربما تسببت به المصاعد والرفاعات المستخدمة من قبل الشركات المسؤولة عن أعمال الترميم. ونقلت وكالة »أسوشيتد برس» عن رئيس كاتدرائية نوتردام أن خللا في أجهزة الكمبيوتر والتحكم كانت وراء الحريق. فيما يحاول المهندسون المعماريون وعمال البناء البحث عن طريقة لتثبيت الهيكل وحمايته. التدمير غير المتعمد عبر الحريق قضية يعمل 50 محققا من أجل الكشف عن ملابساتها.