أصحاب الفكر المختلف دائما ما يتعرضون في حياتهم إلى أبشع الإتهامات، إضافة إلى التهديد والتنكيل بهم، لو أنهم أقتربوا من التابوهات، تلك التى صنعها الناس بجهلهم، وأى محاولة من شأنها أسقاط تلك التابوهات قد تفتح عليك باباً لن تستطيع أن تقف أمام ريحه، وللأسف، تلك الريح واجهت عميد الأدب العربي الدكتور "طه حسين" بعد أن أصدر كتابه "فى الشعر الجاهلى" والذى كان بمثابة الكفر فى نظر الكثيرين ممن خالفوه، حتى تم فصله من رئاسة كلية الآداب بالجامعة المصرية. باستخدام منهج "ديكارت" الذى يتخذ من الشك العقلي طريقاً للوصول إلى اليقين، رافضا المسلمات إلى جانب التجرد من أى أفكار سابقة، وبداية الدراسة من الأبسط إلى الأعقد، بدأ طه حسين فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، وأورد فيه أن الغالبية العظمى من هذا الشعر الذى ينسب إلى الجاهلية جاء بعد الإسلام، وأنه لا صلة له بالجاهلية جملة وتفصيلاً، وأن من المفترض أن نستدل عليه بالقرأن والسنة كمرجع لغوي، لا ان نستدل به على القرأن والسنة. واتخذ فى سبيل الوصول إلى صدق هذا المعتقد أنساب العرب، واللغة التى كانت متبعة سواء فى العدنانيين أو القحطانين، والرواه باختلاف ميولهم ومعتقداتهم الذين أخذنا عنهم هذا الشعر. بالإضافة إلى اللهجات واختلافها من مكان إلى أخر. ومهنة النقل فى حد ذاته، والسياسة التى كانت تسير عليها القبائل. الكتاب يعرض فكراً مختلفاً عمن هو سائد عن تاريخ العرب، وعلى الفكرأن يقابل بفكر، وأن توضع الأمور فى نصابها الصحيح حتى نخرج للناس بخلاصة التجربة، صدق الاستنتاج وإسقاط الشوائب المتعلقة به، لكن هذا لم يقابله عميد الأدب العربى بعد أن أصدر كتابه، توالت الإتهامات عليه من كل حدب وصوب، وأتهمه البعض بالكفر، وأصبح "طة حسين" فى نظر الكثيرين صاحب بدعة، وشخص مضل، ومن المفترض أن يلقى فى النار حيًا. كان البلاغ الأول ضد الكتاب ومؤلفه بتاريخ 30 مايو مقدم من الشيخ "خليل حسنين" الطالب القسم العالي بالأزهر، يقول فيه أن هذا الكتب طعن صريح فى القرأن الكريم، وتم حفظ البلاغات حتى يتم الفصل فيها، وخلال أكثر من 6 سنوات خاض عميد الأدب العربى حربا شرسة مع تيارات متخلفة، شيوخ من الأزهر، ونواب من مجلس الأمة. ويرصد الكاتب الصحفى "محمود عوض" فى كتابه "أفكار ضد الرصاص" الصادر عن دار المعارف – القاهرة. يقول فيه: "لم تنصر مطاردة الكتاب ومؤلفه داخل البرلمان فقط، ولا داخل مجلس الوزراء، ولا داخل صفحات الكتب، إنها مطاردة استخدمت كل وسيلة وجربت كل سلاح، فى 1927 أثار معارضوه الفتنة عليه داخل البرلمان، ثم فى مايو 1930، ثم فتح الموضوع من جديد فى مارس سنة 1932، ووصل الأمر إلى نقله من منصبه عميداً لكلية الأداب إلى وظيفة مفتش عام للغة العربية فى وزارة المعارف، وهذا ما دفع الطلاب إلى الاعتصام احتجاجا على هذا القرار التعسفي، حتى أن الأمر وصل لاستقالة "أحمد لطفى السيد" من منصبة كرئيس الجامعة. وكانت الطامة الكبرى عندما عقدت الحكومة فى صباح يوم 20 من مارس 1932 جلسة خاصة لحسم القضية، وفى الاجتماع لم يتحدث أحد من الوزراء سوى وزير المعارف، وحينما انتهى المجلس من سماع تقرير وزير المعارف العمومية خرج "اسماعيل صدقي" رئيس الوزراء إلى مندوبي الصحف وأذاع عليهم بيانا قصيرا قال فيه: "قرر مجلس الوزراء فصل الدكتور طه حسين افندى الموظف بوزراة المعارف العمومية من خدمة الحكومة". استكمل "عوض" فى كتابه عن ما عاشه طه حسين بعد هذا القرار قائلا: "فى هذا اليوم خرج طه حسين مطرودا من العمل بالحكومة، خرج ذاهباً إلى منزله، وفى المنزل كان الجميع فى انتظاره، زوجته وأولاده، حتى أن الأمور ازدات سوءًا عندما وصل خطاب من بنك مصر يفيد بأن "طه حسين" أصبح مديناً للبنك بثمانية جنيهات، ويجب عليه أن يدفعها فوراً، ولم يكن وقتها يملك فى جيبه قرشاً واحدا! وعندما سأل عوض، طه حسين، "ألم يراودك شعورا بالندم بعد كل هذه الإهانة والطرد والتشهير بعد تأليف الكتاب، أجابه العميد، قائلا، "أبدا مطلقاً" وكرر عليه سؤالا آخر، لو عدت من جديد هل كنت تؤلف الكتاب نفسه؟ فأجاب بنعم. انتهت أزمة الكتاب ورحل طه حسين عن عالمنا، وما زالت قضية كتاب "فى الشعر الجاهلي" يتم مناقشتها حتى الأن، ما بين معارض ومؤيد، وللأسف الى الأن ما زال تيار الإسلام السياسي يراه كفرا بواحا، رغم أنهم لم يقرأوه.