سقوط ضحايا ومصابين في قصف إسرائيلي على قطاع غزة    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    ضغوط جديدة على بايدن، أدلة تثبت انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي في غزة    سيد عبد الحفيظ: أتمنى الزمالك يكسب الكونفدرالية عشان نأخذ ثأر سوبر 94    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    تستمر يومين.. الأرصاد تحذر من ظاهرة جوية تضرب مصر خلال ساعات    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    مينا مسعود أحد الأبطال.. المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم السبت في الصاغة    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    حي شرق بمحافظة الإسكندرية يحث المواطنين على بدء إجراءات التصالح    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    العالم يتأهب ل«حرب كبرى».. أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات عسكرية| عاجل    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم السبت 4 مايو 2024 في البورصة والأسواق    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الإذاعى أحمد أبو السعود    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    وفاة الإذاعي أحمد أبو السعود رئيس شبكة الإذاعات الإقليمية الأسبق.. تعرف على موعد تشييع جثمانه    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    الخطيب يهنئ «سيدات سلة الأهلي» ببطولة الكأس    تعثر أمام هوفنهايم.. لايبزيج يفرط في انتزاع المركز الثالث بالبوندسليجا    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جريمة تشويه العميد: مذكرات طه حسين المُلفَّقة

ترك عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889 - 1973) ميراثًا فكريًّا وإبداعيًّا ثرًّا، كان له أثره الكبير في التكوين الفكريّ للأجيال المعاصرة له، وأيضًا للأجيال اللاحقة. بما حملته هذه الكتابات من رؤي مغايرة، أحدثتْ سجالاً في حياته وما زالتْ، وأيضًا لما جسّدته هذه الكتابات من علامات ريادة وتأسيس في الكتابة بلا منازع، كما تجلّي في سيرته »الأيام»‬، التي رسمت الطريق للكثيرين ممن جاؤوا بعده. أو بأسلوبه الذي استحقّ أنْ تُخصّصَ له الكتابات النقدية واللغوية لدراسته، علي نحو ما فعل الدكتور البدراوي زهران في كتابه: »‬أسلوب طه حسين في ضوء الدرس اللغوي الحديث». وقد درس فيه الظواهر اللغوية في أسلوب طه حسين، حيث انتهي إلي أنّ هذه التعبيرات اللُّغوية في أسلوبه جاءت »‬لديه لغرض ما، كما أن كل عنصر من عناصر أسلوبه، نجد ذاتيته وراءها»، كما أن هذه الظواهر اللغوية في أسلوبه »‬مظهر من مظاهر شخصيته».
الأيّام والدرس النقديّ واللّغويّ
ومن نتائج ما أظهرته دراسة الجانب الصوتي في أسلوب طه حسين، ما يتمثّل في »‬سرعة استجابة الأذن للنغمة الصوتيّة العامة المُنبعثة في أسلوبه، مع تنويع في التيار الصوتي، يحتفظ معه بمستوي موسيقي يتلاءم مع ما يريد التعبير عنه» (ص 25). ومن هذه الخصائص - أيضًا - »‬إعطاؤه صفات وخصائص صوتيّة لأحرف، وإعطاؤه صفات وعادات نطقيّة لكلمات بطريقة غير منطوقة، مما يجعل القارئ أو السامع لأسلوبه يشاركه النطق في بعض كلماته، أو علي الأقل يعمل خياله اللغوي في تدبر»، علي نحو ما جاء في قوله في الجزء الثالث من الأيّام: »‬ويمد ياء النيل فيسرف في مدّها، ويأخذه ذهول يردّ الطّلاب إلي ضحك متصل». وهو الأمر الذي يجعل السامع لهذا النص كما يقول البدراوي زهران، يعيش معه فيه وقد يشاركه النطق في مد الألف بوصفها حركة طويلة، فالخاصية الأساسيّة لها هي المدّ وتلك صفة تميزها. ومن هذه الجمل أيضًا: »‬...اسكت يا خاسر، اسكت يا خنزير، وكان يفخم الخاء في الكلمتين إلي أقصي ما يستطيع فمه أن يبلغ من التفخيم».
وبناء علي هذه الخصائص التي يختص بها أسلوب طه حسين، وهي نتاج بحث لغوي معمّق، فإنه لا يحق لكائن أيًّا كانت صفته، أن يعبث بتراث الرجل، بالحذف، أو التبديل أو التشويه، بحجّة التخفيف، أو تقديم مختارات. فهذا تراث أمة وليس تراث فرد. الدافع لهذا القول يعود إلي شهر نوفمبر من العام المنصرم 2018، حيث احتفت المجلة العربية بعميد الأدب العربي وذكري مرور 45 سنة علي وفاته (28 أكتوبر 1973)، فأعاد القائمون علي المجلة إصدار الجزء الثالث من سيرته، في كتيب مستقل مرفق بالعدد 267 نوفمبر 2018، تحت عنوان »‬من العمامة إلي الطربوش: فصول مختارة من مذكرات طه حسين». لكن مَن يقرأ هذه المذكرات، يهاله ما حدث فيها من تحريف بالتبديل وتشويه بالحذف، وكأن ثمة عداوة خفية للرجل، استدعت هذه الجريمة التي لا يقبلها أحد. وإنْ قوبلت بصمت مريب!
مكانة الأيّام
قبل التذكير بما لحق بهذا الجزء من سيرة طه حسين، من تشويه وتحريف، نتوقف أولاً مع قصة كتاب »‬الأيّام»، وأهمية الكتاب في تاريخ النثر العربي، وهل نشر طه حسين لمذكراته بعنوان مستقل »‬مذكرات طه حسين» يحول دون أن تكون الجزء المتمم لثلاثية الأيّام؟ وبعدها نتوقف عند جريمة المختارات التي وصفت زورًا وبهتانًا ب: »‬مذكرات طه حسين» وهي منها براء، حتي وإن كان الغرض من الإصدار هو الاحتفاء بطه حسين، إلا أنه مع الأسف انقلب إلي ضده، وصار جريمة في حق طه حسين وجب الاعتذار عنها.
تعد الدكتورة فدوي مالطي دوجلاس كتاب الأيّام لطه حسين، عملاً بارزًا في الأدب العربي الحديث، كما أنّه الكتاب الأكثر شيوعًا في الكتب العربية في الغرب بعد ألف ليلة وليلة، وتقول من المؤكد أنه لا يوجد عمل أدبي عربي معاصر آخر أكثر شهرة منه في العالمين العربي والغربي، وقد صدر كتاب الأيّام لطه حسين ما بين 1926، 1967، ويعد معلمًا مهمًا في تطور النثر العربي الحديث.
كما كان لهذا الكتاب الأثر الكبير في كتابات من جاء بعده، ويعترف الدكتور شوقي ضيف وهو أحد تلاميذ طه حسين بتأثير الكتاب في كتابته لسيرته »‬معي»، حيث نحي شوقي ضيف طريقة أستاذه في الإحالة إلي ذاته بالفتي تارة وبالشاب تارة أخري، إضافة إلي اقتباس أسلوبه السردي، بالاستعانة بالضمير الغائب في السرد. وإن كان هناك مَن رأي أنه تأثر بكتاب »‬معك» لسوزان طه حسين، علي نحو ما ذهب ماهر محمد حسن في دراسته »‬معي والسيرة الذاتية» (حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة قطر، ع 11، 1988، ص7)
ومن أهمية الكتاب، ما ذكره الدكتور شكري المبخوت، بأن »‬الأيّام أمسي علامة زمنية في تاريخ الأدب العربي، بل هو في تاريخ فن السرد لدي العرب، لحظة تأسيسيّة لجنس السيرة الذاتية بإجماع أهل العلم بالسرد وأجناس الكلام.» (سيرة الغائب.. سيرة الآتي، ص 7). كما لعب الكتاب وفق قول الدكتورة فدوي مالطي، »‬دورًا أساسيًّا في تطوير فن كتابة الرسائل العربية الحديثة وخاصة فن الرواية» (العمي والسيرة الذاتية، ص 12)، وهذه الأهمية لدور الأيّام في تطور الرواية يؤكدها روجر آلن قائلًا»: كل تعليق علي الأدب العربي المعاصر تقريبًا يتضمن بعض الإشارات إلي هذا الكتاب». كما أن الأيّام تعد مثالاً مهمّا للسيرة الذاتية في العالم الثالث، فهي بتعبير فدوي مالطي دوجلاس:»لا تعبر عن مفهومي الشرق والغرب فقط ولكنها، وذلك علي قدر أكبر من الأهمية، تظهر الشرق وهو يعقد اتصالاً مميزًا مع الغرب». (العمي والسيرة الذاتية، ص 14).
شهرة الأيّام
الحقيقة أن كتاب »‬الأيّام» طغي شهرة علي المذكّرات، حتي عُدَّت الأيام من أكثر الكتب شهرة في العالميْن العربي والغربي، حتي بين الكتب الكلاسيكية إن استثنينا »‬ألف ليلة وليلة» علي حد قول فدوي مالطي دوجلاس. كما تناولتها أقلام نقدية بالدرس والتحليل العلمي. علي نحو ما فعل شكري المبخوت في دراسته: »‬سيرة الغائب، سيرة الآتي... السيرة الذاتية في كتاب »‬الأيّام». وبالمثل فدوي مالطي دوجلاس في دراستها »‬العمي والسيرة الذاتية: دراسة في كتاب الأيّام لطه حسين.» والبدراوي زهران في »‬أسلوب طه حسين في ضوء الدرس اللغوي الحديث». وهناك أيضًا دراسة الدكتورة أميمة صبحي خليل عن »‬الأيّام لطه حسين: دراسة أسلوبية»، وهي رسالة ماجستير في كلية دار العلوم – جامعة القاهرة، فرع الفيوم، وكذلك الدكتورة إيمان جاب الله »‬الأيّام لطه حسين دراسة نصية»، وهي دراسة علمية حصلت بها علي درجة الدكتوراه في كلية الآداب – جامعة القاهرة، واستطاعت أن تطبق معايير علم لغة النص السّبعة علي الأيّام، وهي: »‬السّبك والحبك والتناص والقصدية والمقبولية والإعلاميّة». الشيء اللافت أن جميع الدراسات تعاملت مع الثلاثية كجزء واحد، وهذا تأكيد آخر علي اتساق البناء بين الأجزاء الثلاثة.
نشر طه حسين الجزء الأول من »‬الأيّام» في بادئ الأمر علي هيئة حلقات مُنجمّة في مجلة الهلال المصرية، مع عدد ديسمبر من عام 1926، وقد انتهي في الأول من سبتمبر عام 1927، ثم نشرها في كتاب عام 1929 عن دار المعارف. ثم أصدر الجزء الثاني منها عام 1939. وقد كان السبب الرئيسي من وراء التأليف هو توجيه رسالة للذين سوّلت لهم أنفسهم بإيذائه، بعد أزمة كتاب »‬في الشعر الجاهلي» 1926، أن الذي استطاع أن يواجه هذه الصعاب، حتي وصل إلي ما وصل إليه، قادرٌ علي مواجهة ما هو أكثر وأفدح. وهو الأمر الذي استلمحته الباحثة التونسيّة جليلة الطريطر، حيث ذكرت »‬.. هكذا صح الرأي عندنا من خلال هذه الأحاديث أنّ الأيّام في جزأيه الأول والثاني خاصة، كان تعبيرًا عن أزمة وجودية خانقة، اهتزت لها اهتزازًا عنيفًا شخصية طه حسين، فلم يجد الرجل بدًّا ولا محيدًا من التنفيس عن كربه إلا بواسطة الكتابة عن حياته» (مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، مركز النشر الجامعي، تونس 2004، ص 349).
ومن ثمّ حرص طه حسين علي أن يُقدّم في الجزء الأول (1929) من الأيّام مسيرة الفتي الذي خرج من القرية، والصعاب التي واجهته في القاهرة أثناء دراسته في الأزهر، وصولاً إلي بعثته إلي فرنسا، متناولاً بتفصيل سرد طفولته في القرية، بما تحمله هذه الفترة المبكّرة من حياته من معاناة، بسبب الجهل، ومن ثم يتحدث عن الجهل المطبق علي الريف المصري وما فيه من عادات حسنة وسيئة في ذلك الوقت، وتأثير هذا عليه بإصابته بالعمي.
في حين أوقف الجزء الثاني من الأيّام (1939)، علي فترة انتقاله إلي القاهرة طلبًا للعلم مختلفًا علي مجالس الدرس في الأزهر، وكذلك واصفًا الأطوار الثلاثة التي لازمته في بداية حياته مغتربًا في القاهرة، وصولاً إلي اليقين الذي صادفه في صحن الأزهر »‬حيث ذلك النسيم الذي كان يتلقاه في صحن الأزهر يشيع في نفسه هذا كله ويرده إلي الراحة بعد التعب، وإلي الهدوء بعد الاضطراب، وإلي الابتسام بعد العبوس». (الأيّام، الكتاب الثاني، ص، 138)
فأقبلَ علي الأزهر »‬يريد أن يُلقي نفسه في هذا البحر، فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت فيه غرقًا» (الأيام، الكتاب الثاني، ص، 139)، إلي أن يهيم السكون علي الفتي، ويتأفّف من دروس الأزهر، وشرح الأزهرين، الذي جعله يَنْفُرُ من الدروس، واجدًا متنفسًّا ورحابة في الدروس الليلية بعد افتتاح الجامعة المصرية، والتي كانت بمثابة الملاذ الذي كان يبحث عنه، ومن ثمّ يقطع »‬الصّلة بينه وبين الأزهر في دخيلة نفسه وأعماق ضميره»، تاركًا ذاته لهذا الشغف الداخلي؛ حيث وجد في حياته الجامعية »‬عيدًا متصلاً... عيدًا تختلف فيه ألوان اللّذة والغبطة والرضا والأمل»، ثمّ يسرد عن رحلته إلي فرنسا، وصعاب التأجيل والدراسة هناك. وإن كان تطرق إلي السياسة، حيث كانت حائلاً في عدم اتمام بعثته، بعد أن نشبت الحرب أوزارها، وصولاً إلي عودته بعد أن وضعت الحرب أوزارها. (الأيام، الكتاب الثالث، ص 346).
هذا ملخص متقضب لكتاب الأيّام في جزأيه الأول والثاني. وبعد فترة من نشره هذين الجزأين يعود مرة ثانية إلي سيرته، وينشر الجزء الأخير تحت عنوان مستقل »‬مذكرات طه حسين.»
المذكّرات والأيّام
صدرت »‬مذكرات طه حسين» بذات الاسم، أوّل مرة عن دار المعارف المصرية عام 1962، ثمّ أعادت نشرها دار الآداب البيروتيّة في شباط 1967. وقد اعتبرها الكثيرون الجزء الثالث من الأيّام، علي الرغم من الفارق الزمني بين صدور الأيّام والمذكّرات، والذي يصل إلي ثلاثة عشر عامًا. وهناك من استشف أن طه حسين ردّد ما يفيد بأن المذكرات هي الجزء الثالث للأيام، وهو ما صرَّح به محمد الدسوقي في كتاب »‬أيام مع طه حسين» حيث أورد أثناء منح العميد قلادة رئيس الجمهورية عام 1965، والتي قلّدها له صلاح الشاهد، ناقلاً تمنيات وتحيات السيد الرئيس، عندها سأل الصحفيون الذين تابعوا التكريم، العميدَ الدكتور طه حسين عن آماله في المستقبل، فقال: »‬أودُّ أن أكتب الجزء الثالث من الفتنة الكبري، وأكمل الأيام» (أيّام مع طه حسين، دار القلم، دمشق، ط1، 2002 ص 31).
في الحقيقة الباحث المتحرّي للدقة، يستشف ممّا رواه محمد الدسوقي مَعنيً مغايرًا عمّا أخذه عنه وردّده الكثيرون، وبناء علي هذا الرأي أكدوا أن المذكّرات هي الجزء الثالث الذي أراد طه حسين أن يتمّه. فالمدقّق في تاريخ قول طه حسين، الذي جاء في المقابلة التي تمت في 19 من شهر ديسمبر عام 1965 وصدور المذكرات في طبعتها الأولي في عام 1962 عن دار المعارف، لتبيّن صدق من ادّعوا بفصل المذكرات عن كتاب الأيّام بجزأيه، فثمّة ثلاث سنوات بين صدور المذكّرات وقول طه حسين، ومع ذلك ما زال طه حسين يُمنِّي نفسه بأن يستكمل الأيام. إذا كان يمني نفسه بصدور جزء ثالث فإن ما صدر تحت عنوان مذكرات طه حسين بعيد كل البعد عن الأيام، وهذا غير حقيقي بالطبع. في الحقيقي لا أميل للروايات التي تروي عن الأشخاص، ما دام الشخص نفسه لم يراجع ما ورد عنه من أقوال. لكن قولي عن تكامل الأيّام بالمذكرات، يتأتي من خلال مقارنة المذكرات بما ورد في الأيام، علي مستوي الشكل والمضمون أيضًا. الاحتكام هنا للنصوص وخصائص الكتابة.
وأوّل دليل علي هذا الاتصال بين الأجزاء الثلاثة، هو الخيط الممتد بين المذكّرات والأيام، فالمذكرات بدأت من حيث انتهي الجزء الثاني من الأيّام، وهو الأمر الذي يقطع كل شكّ في محاولة الفصل بين وحدة الأجزاء الثلاثة. فالمذكّرات بدأت علي مستوي الأحداث والزمن والمكان من حيث انتهي الجزء الثاني من الأيام، حيث دراسة الفتي في الأزهر، وقد أنفق في طلب العلم ثماني سنين، وفيها تعرّض لألوان مُختلفة من النظام، ثمّ التحاق الفتي بالجامعة، وأثر هذا عليه، حيث غُمّته أوشكتْ أن تنتهي بعدما ضاق صدره بالأزهر، وشيوخ الأزهر. وهذا التواصل بين الأحداث ما يقطع أي شك في استقلال المذكرات عن الأيّام بجزأيها. فالترتيب الزمني للأحداث، وأيضًا التواصل السردي للحكاية ممتدان من الجزء الثاني إلي المذكرات بنفس الإيقاع، ونفس نبرة السُّخط التي كانت مهمينة علي نهاية الجزء الثاني خاصة وهو ينتقد دروس الأزهر وشيوخه.
علي مستوي البناء فالمتأمّل لطبيعة الأيّام والمذكّرات يكتشف أنه لا فارق بينهما علي مستوي الشكل أو التقنيات الأسلوبيّة، وطرائق السرد. فطه حسين وزّع الجزء الأوّل من الأيام في عشرين وحدة سردية، وبالمثل الجزء الثاني. وعندما طُبع الجزء الثالث تحت عنوان مستقل »‬مذكرات طه حسين» احتوي علي عشرين وحدة سردية. كما يربط بين الأجزاء الثلاثة تيمة الفتي أو الشيخ أو صاحبنا التي تتردد كقناع علي شخصية طه حسين، دون تغيير حتي في الجزء المستقل المذكرات، هي حاضرة أيضًا بذات الصيغة في الأيام. ولا ننسي حضور الضمير الغائب بذات الوظائف البلاغية والسردية التي كان عليها في الجزأين الأول والثاني. والأهم أن ثمّة تطوّرًا موضوعيًّا واضحًا في الأجزاء الثلاثة معًا، فهي تكون في مجموعها بنية متكاملة، ترصد تطوّر حياة طه حسين وفكره منذ طفولته كما رصد في الجزء الأول، إلي ابتعاثه في الخارج وعودته. وهي التحولات التي سيكون لها أثرها في حياة طه حسين العلمية ومعاركه الفكرية فيما بعد.
ثمة تأكيدات كثيرة علي وحدة الأجزاء الثلاثة، كما ذكرتُ سالفًا، وهو الأمر الذي دفع مركز الأهرام للترجمة والنشر، عندما أعاد طباعة الأيّام قبل سنوات عام 1991، احتفاء بمرور مئة عام علي ميلاد عميد الأدب العربي، لأن يضمهم كتاب واحد، فطبعت الأجزاء الثلاثة معًا في مجلد واحد، في تأكيد علي أن المذكرات هي الجزء الثالث للأيّام، حتي ولو صدرت من قبل تحت اسم مستقل هو »‬مذكرات طه حسين». نفس الشيء حدث مع طبعة دار المعارف، فضمت الأجزاء الثلاثة في كتاب واحد، دون فصل لما أسماه طه حسين مذكرات من قبل.
الشيء الوحيد المختلف عن المذكّرات في الطبعات الكاملة، هو حذف العناوين الفرعية التي كانت تبدأ بها الوحدات السردية العشرون، علي نحو ما هي مثبتة في نسختي دار المعارف، ودار الآداب اللبنانية. غير ذلك ظل ما جاء في المذكرات كما هو دون تغيير بالحذف أو بالإضافة.
المذكّرات المشوّهة
ومع كل هذه التأكيدات علي وحدة الأجزاء الثلاثة، حتي ولو حمل أحدها عنوانًا مستقلاً. إلا أن الكارثة التي لم ينتبه إليها أحد، تتمثّل في أن المجلة العربية أعادت إصدار الجزء الثالث في كتيب مستقل مرفق بالمجلة العدد 267، تحت عنوان »‬من العمامة إلي الطربوش» وهذا العنوان في أصله، عنوان مجازي مستعار من عنوان الفصل الأول في المذكرات القديمة »‬علي باب الأزهر».
يبُرّر صدوق نور الدين أسباب إعادة نشر المذكّرات، لعدم شهرة المذكّرات، مقارنة بالأيام، حيث يقول في المقدمة التي سبقت المذكّرات المُشوّهة: »‬لم يتحقّق تداول (مذكرات طه حسين) بشكل موسّع، إذ العديد من المهتمين بالشأن الأدبي، يُدرك تمام الإدراك بأنّ عميد الأدب العربي، يمتلك مذكرات نشرت بشكل مُستقل بداية، علي غرار التحقيقات الأدبية في الجنس ذاته، والمتمثلة فيما كتبه (محمد حسين هيكل)، وثروت عكاشة، إلا أنّ المفكرين الذين أَوْلوا اهتمامًا بمسار الفكر العربيّ وتحولاته، استحضروا – وبقوة – هذه المذكرات من منطلق كونها التجسيد الدقيق لشخصية المثقف العربي، وللأثر البارز الذي خلفه الغرب عليه» (من العمامة إلي الطربوش، ص 7).
لا أخفي أنّ ثمّة جانبًا صادقًا فيما قال، يتمثّل في طغيان شهرة الأيّام، علي حساب المذكرات، إلا أن الشيء الذي غاب عليه أن الجميع تعامل مع الأيام كثلاثة أجزاء، ومن بينها المذكّرات القديمة، فلم يفصل أحد بين المذكرات كجزء مستقل وبين الجزأين الأول والثاني من الأيّام. فمعظم من تعامل مع سيرة طه حسين تعامل معها كوحدة متكاملة دون النظر للاعتبارات القديمة التي جعلت طه حسين يخرج الجزء الثالث في شكل مستقل وتحت عنوان مختلف أيضًا.
أعجب ما جاء في هذه المذكرات الملفّقة. أن المجلة وضعت عنوانًا فرعيًّا يشير إلي جريمة تشويه عمدي، وهو »‬فصول مختارة من مذكرات طه حسين»، وإن كانت فكرة المختارات تجوز في الشعر، فإنها لا تجوز في النثر، لأسباب تتعلّق بطبيعة النثر، حيث التسلسل الزمني للأحداث، وتراتبها، فأي انتزاع لأي جزء يفقد الحكاية تسلسلها وترتيبها.
الغريب في الأمر، أن الأكاديمي والناقد المغربي صدوق نور الدين، الذي لا نُنكر إسهاماته النقدية المتميزة مثل: »‬حدود النص الأدبي: دراسة في التطبيق الإبداعي» عام 1984، ثم »‬إشكالية الخطاب الروائي العربي» (1985)، و»‬النص الأدبي، مظاهر وتجليات الصلة بالقديم» (1988)، و»‬البداية في النص الروائي» (1994)، و»‬سير المفكرين الذاتية» (2000)، و»‬السرد والحرية» (2007)، و»‬انغلاق الدائرة.. دراسات في الرواية العربية» (2008)، وغيرها من أعمال إبداعية، شارك في هذه الجريمة دون أن يرتد إليه طرف، وقام بالاعتداء علي ما نعتبره تراثًا فكريًّا باسم غير شرعي »‬مختارات».
والناقد المرموق شارك في هذا التشويه في أكثر من موضع، الأوّل يتأتي في اختزال المذكّرات الأصلية إلي خمسة عشر فصلاً، بدلاً من عشرين فصلاً، كما كانت في الأصل، وثانيًا في جريمة تشويه العناوين السّابقة، واستبدالها بعناوين جديدة، لا نعرف سببًا لهذا التبديل. أما ثالثة الأثافي، فتتمثّل في الحذف الذي مارسه في النصوص الأصليّة، وكأنّ مهمته كانت أشبه بالرقيب، فحذف أشياءً كثيرة داخل الوحدات السردية، وهو ما سيأتي في موضعه بالتفصيل.
اللافت أن الناقد صدوق نور الدين كتب مقدمة مهمّة صدَّر بها المختارات الجديدة، لو كانت في غير ذات الموضع تحديدًا. ناقش فيها ماهية المذكرات وموقعها في خريطة الكتابة الذاتيّة، وعلاقتها بالسيرة الذاتيّة، وخصائصها الأسلوبيّة، وهو ما ضاع هباءً وسط هذه الجريمة التي لن تغتفر.
الثورة ضد التقاليد
تتمثّل جريمة التشويه في ثلاثة أشكال، أولاً التحريف: حيث عمد مُعِدُّ المختارات إلي تحريف العناوين، وتبدأ سياسية التحريف من عنوان المذكرات الأصلي، فطه حسين عنونها بمذكرات طه حسين. هكذا صدرت في طبعتها الأولي عن دار المعارف، ثم عن دار الآداب البيروتية، إلّا أنّ مُعِدَّ المختارات رأي أنّ هذا غير حسن، فغيّر العنوان الأصلي إلي عنوان مجازي هكذا: »‬من العمامة إلي الطربوش»، في إشارة إلي إظهار تمرد طه حسين علي الأزهر، وهو الأمر الذي لم يُخْفِه طه حسين نفسه، بل قدّم انتقادات كثيرة لمنهج الأزهر، منذ نهاية الجزء الثاني من الأيام، وواصل انتقاده وإظهار سلبياته في المذكرات، وفي كثير من مقالاته الأخري.
الجدير بالذكر أن انتقاد طه حسين لمنهج الأزهر، نستلمح بواكيره من أوّل كتابات طه حسين العلمية، كما هو واضح في »‬ذكري أبي العلاء» (1919)، وهو الرّسالة العلميّة التي توجّه بها طه حسين إلي كلية الآداب عام 1914، فقد تضمّن في مقدمته انتقادًا لمنهج الأزهر والأزهريين، وهو الأمر الذي عرّضه إلي أول صدام بينه وبين الأزهر وشيوخه، فتحامل الشيخ محمد المهدي أحد أعضاء اللجنة المُناقِشة للرّسالة، علي الرسالة وصاحبها. وكانت قد ضمّت اللجنة في عضويتها الشيخ محمود فهمي والشيخ محمد الخضري، فأبَي الشيخ محمد المهدي؛ أن يمنحه الدرجة كاملة؛ لأنّ طه حسين عارضه في الرّسالة، وكان أَسَرّها في نفسه. في حين رأي الشيخ محمود فهمي، والخضر، أن يمنح صاحب الرسالة درجة فائق. وإزاء هذا الانقسام حاز في النهاية شهادة العالمية ولقب دكتور في الآداب بتقدير جيّد جدًّا. وقد ذكر طه حسين هذه الواقعة في الجزء الثالث من الأيام في صفحة 357. ثم عاد إليها من جديد في حديث الأربعاء وهو يرثي شيخه المهدي.
بل يذهب طه حسين في صدامه المُبكّر مع شيوخ الأزهر بعيدًا، حيث يذكر أنه أثناء إقامته في مصر، ذهب إلي الجامعة، واستمع لدرس الأستاذ الشيخ محمد المهدي، ثم خرج فكتب عن هذا الدرس مقالاً في مجلة السفور في 3 ديسمبر 1915 بعنوان »‬في الجامعة المصرية»، وحسب اعتراف طه حسين نفسه في سيرته أنه »‬نقد فيه الأستاذ نقدًا مرًّا ممضَّا»، حتي أنه وصف الدرس الذي ألقاه الأستاذ الشيخ محمد المهدي بأنه »‬لم يكن في هذا الدرس شيء يدلّ علي أنه درس في الجامع، وإنما هو نوع من الحديث يستفز سامعيه بما يعرض فيه من الغزل والوصف ومن آيات البديهة والارتجال»، وينتهي في شبه حسرة بعدما وضع درس الأستاذ في مقارنة بما رأه ودرسه في جامعات فرنسا، ساخرًا من ألا يوجه اللوم للجامعة التي »‬لم تألُ جهدًا في حسن اختيار الأستاذ»، وأيضًا لا يلوم الأستاذ »‬لأنه بذل ما يملك وجاد بما يستطيع أن يجود به»، وهو ما يجعله ينحاز إلي فرنسا التي رأي أن »‬هزل فرنسا جدّ، وأن جدّنا لعب، وأن فرنسا حَرية بالحب والإعجاب، وأن مصر خليقة بالرحمة والرثاء، زاد الله فرنسا رقيًّا ورفعة، ووفي لمصر حاجتها من الإصلاح».
وكانت المقالة بمثابة بداية »‬معركة عنيفة وابتداء حرب علي المدرسة التقليدية القديمة» علي نحو ما ذكر الدكتور جابر عصفور في مقالته »‬المعركة النقدية الأولي لطه حسين نص مجهول»، (صدرت في مجلة العربي الكويتية، عد 704، يوليو 2017، ص16)، وهو ما أثار غضبة الشيخ، الذي اشتكاه إلي الجامعة، »‬طالبًا إلغاء بعثته عقابًا له علي هذا التمرد»، وهو الأمر الذي استجابت له إدارة الجامعة، فتمّ التحقيق مع طه حسين، وكلّفت به ثروت باشا وعلوي باشا وأحمد لطفي السيد، وعند سؤاله عن هذا المقال، لم يُنكر من مقاله شيئًا، ولم يرَ لأحدٍ أنْ يُعاقبه علي نقد حرّ برئ، لم يُرد به إلّا الخير»، وانتهي الأمر بتكليف مجلس الجامعة السّيد أحمد لطفي السّيد، بأن يُصلح بين الأستاذ الغاضب والتلميذ المتمرد»، وهو ما حدث بدعوتهما معًا إلي عشاء وتمّ الصلح بينهما. وفي رواية أخري أن علوي باشا كلّف بهجت بك أن يجمع بين طه حسين وبين الشيخ المهدي، فجمع بينهما في دار الآثار العربية، وانتهي الخصام الذي تداولته الصحف أكثر من أسبوعين.
الغريب أنّه في المذكّرات المشوّهة، قام مُعدّ المذكّرات بحذف هذا الفصل تمامًا، وهو الفصل السّادس والذي كان عنوانه »‬أساتذتي» في المذكرات الأصلية، وتحدث فيه طه حسين عن دور أساتذته عليه، وبدأه بحديثه عن الجامعة المصرية وكيف كانت الحياة فيها »‬عيدًا متصلًا رائع الامتاع لمكانة الأساتذة الأجانب فحسب، بل كان فيها أساتذة مصريون يضيفون إلي روعتها روعة وإلي إشراقها إشراقًا» (المذكرات، ص 63) فيستعرض لطبائع وشمائل أساتذته، وطرائق شروحهم، ومن منهم المحبّب ومن منهم المنفّر، ويثني علي حنفي ناصف وحب الطلاب له، حتي أنهم كانوا »‬يأبَوْن عليه أن يختم دروسه في آخر العام دون أن يزيدهم علي المقرّر درسيْن أو دروسًا» (المذكرات، ص 65)، ومن هؤلاء الأساتذة كان الشيخ محمد الخضري ، وكان يُدرّس التاريخ الإسلامي، »‬وقد سحر الفتي بعذوبة صوته وحسن ألقائه وصفاء لهجته»، ثم يأتي لسيرة الشيخ محمد المهدي، وكان الفتي يحبه أشد الحب، ويعبث به أشد العبث، هو وأستاذ آخر لم يُسمّه. لكن يتحدث عن مجادلته للشيخ المهدي وجرأته عليه، وهو ما كان يرهقه من أمره عسرًا، وربما أضحك منه الطلاب.وهو الأمر الذي انتهي بصدام بينهما أثناء مناقشة الفتي للدكتوراه، كما ذكرنا سابقًا. السؤال الحقيقي لماذا هذا المحو لما ذكره طه حسين من فضل أساتذته عليه، وكأنّ الأمر يبدو لي أن المُعدَّ بهذا المحو والطمس لهذه الصفحة النيرة من تاريخ طه حسين وصراعه، ينتصر لإيديولوجيا ترفض المساس بقداسة الأزهر وشيوخه، مع أن طه حسين كان ينتقد بأسباب دون تطاول أو تجريح. الأغرب أن طه حسين عاد إلي سيرة أستاذه من جديد في الجزء الثالث من حديث الأربعاء، وكتب مرثية عذبة في رثائه بعنوان »‬الشيخ محمد المهدي»، شغلت صفحات من 40 إلي 46.
ومن عذوبة المرثية، أنّه يتصوّر مَن يفقد أستاذه يشعر بشيء من اليتم كالذي »‬يجده الناس في فقد الآباء». وامتدح ما فيه من صفات العلم، وأنه لم يكن من أنصار القديم ولا الجديد، وإنما مذهبه وسطا، حتي أنه يصفه بأنه لم »‬يكن كاتبًا، ولم يكن شاعرًا، وإنما كان أديبًا أو قل كان أستاذًا من أساتذة الأدب» (حديث الأربعاء، ج3، ص 41)، ويذكر أيضًا أن »‬الأستاذ الشيخ مهدي حاو الحديث خلّابه، وكان يؤثر اللغة العربية الفصحي ويتكلفها ويتخير منها ألفاظًا غريبة»، أما عن أخلاقه ففيها »‬شيء من الطفولة؛ فكان سريع الغضب جدًّا، سريع الرضا جدّا، وكان غضبه حلوًا وكان رضاه لذيذًا» (حديث الأربعاء، ج3، ص 43)، ومع اعترافه بثقل وطأته علي الأستاذ إلا أنّه كان يحبه فكما يقول: »‬ولست أعرف تلميذًا كان أثقل علي أستاذه وأقسي مني علي الأستاذ الشيخ مهدي، ولكني لا أظن أن بين تلاميذ الأستاذ مَن أحبّه حبي إياه. كنت قاسيًّا وكان قاسيًّا أيضًا» (حديث الأربعاء، ج3، ص 43).
توقفت عند هذه الأزمة والصدام بين الرجليْن، لأبيّنَ أن موقف طه حسين لم يكن موقفًا شخصيًّا، بل كان دفاعًا عن العلم وقيمته من جانب، ومن جانب ثانٍ كان غَيْرة علي الجامعة التي ساءه أن يري الدروس تُلقي فيها هكذا، وتُحْشر المعلومات في أذهان الطلاب حشرًا. بيد أنه لم يُنكر فضل الرجل عليه، ولا علمه أيضًا، ومن ثمّ جاءت هذه المرثية انتصارًا لقيمة العلم، وتأكيدًا علي نبل طه وهو يرثي أستاذه.
آليات التشويه
لا تقف حدود التشويه علي تغيير عنوان المذكرات، وإنما تعدته إلي جرائم متعدِّدة منها. أولاً أن مُعِدَّ المختارات، قام باختزال الفصول من عشرين فصلاً، إلي خمسة عشر فصلاً. حيث أسقط من الطبعة الجديدة الفصول التالية: السّادس بعنوان »‬أساتذتي»، والثامن »‬ثلاث تجارب»، والثّاني عشر »‬الصّوت العذب»، والثامن عشر »‬أطول الناس لسانًا». والتاسع عشر »‬رفضتُ أن أحضر مؤتمرًا للعميان!»، فتم الحذف دون التنويه عمّا أضره من وجود هذه الفصول علي نحو ما كانت عليه، أو ما حملته من رجس يجعل إذاعتها للناس وكأنه تواطؤ منه علي نشر الرذيلة أو حتي التحريض عليها! وهو الأمر الذي يدعو للعجب، وأي عجب!
الشّكل الثاني الذي طال المذكرات هو التحريف. حيث قام من أعدّ المذكرات بتغيير أسماء عناوين الفصول، وقد جاء التغيير ما بين تغيير العنوان كليًّا كما في عنوان الفصل الأول الذي عنونه »‬بين العمامة والطربوش»، في حين في المذكرات الأصلية كان بعنوان »‬علي باب الأزهر» وهو الأمر الذي تكرّر في عناوين الفصل الرابع الذي جاء بعنوان: »‬بين الشاعر المُعلّم والمحبّ» في حين أنه كان في المذكرات الأصليّة بعنوان »‬عندما خفق القلب»، والخامس وضع له عنوانًا هكذا: »‬محنة الكفيف» في حين جاء في المذكرات الأصلية بعنوان »‬أستاذي يدعو عليّ بالشقاء»، والسادس في النسخة الجديدة بعنوان »‬درس الفرنسية» يقابله السابع في المذكرات الأصلية بعنوان »‬كيف تعلّمت الفرنسية» والسابع في المختارات بعنوان »‬الفلسفة أم التاريخ» في حين في المذكرات الأصلية بعنوان »‬الفلسفة الفاسدة».
علي هذا النحو يسير التحوير والتحريف، فلا يوجد عنوان في المذكّرات الأصليّة أبقاه المُعدّ لهذه المختارات كما كان، بل ضرب بمعوله كل ما صادفه من عناوين. الغريب أنه اجتزأ المذكرات، فأنهي المختارات عند الفصل الخامس عشر، وقد عنونه ب»العودة إلي مصر» وهو ما يُقابل الفصل الثامن عشر في المذكرات الأصيلة، المعنون ب»أطول الناس لسانًا» وإن كان حذف الكثير من بدايته حتي وصل إلي ما جعله بداية للفصل هكذا: »‬فلنعد إلي صاحبنا في باريس» (المذكرات، ص، 109).
الشكل الثالث الذي طال المذكرات القديمة، هو الحذف، وتعدّ هي الجريمة الأكبر، حيث قام معد المختارات بتشويه الفصول، بحذف ما لا يروق له، وسياسية الحذف هذه حتي ولو كان غرضها التخفيف، إلا أنها غير مقبولة بالمرة، فهذا أثر لا يحقّ لأحد أن يعبث به. ومن الأمثلة علي هذا التشويه ما يلي:
يبدأ الفصل الأول من المختارات بذات البداية الأصلية في المذكرات: »‬كان صاحبنا الفتي قد أنفق أربعة أعوام في الأزهر، وكان يعدّها أربعين عامًا، لأنها قد طالت عليه من جميع أقطاره،....» (المذكرات، ص7)، ثم يقفز علي كثير من الفقرات، فيحذف أكثر من نصف الفصل الأصلي الذي مجمله سبع صفحات. فيوقف الأحداث عند الصّراع الذي ساور نفس الفتي، فيتساءل: »‬أتقبله الجامعة أم ترده إلي الأزهر ردًّا غير جميل لأنه مكفوف» (المذكرات، ص9) ثم فجأة يقطع السرد عن رؤية الفتي للدراسة في الجامعة، بعد ذهابه مع رفيقيه. واستماعه إلي دروس الأستاذ أحمد زكي باشا عن الحضارة، وهي المقارنة التي تنسحب إلي الجامعة، وهو ما ينعكس أثرها في اليوم التالي »‬فلا يستيقظ الفتي في موعده ليذهب إلي الرواق في الأزهر، إلا في الضحي»، وهو مجبر جبرًا. وإن كان عقله عند دروس المساء في الجامعة. ثم يلصق هذه الجملة التي أصلها في نهاية الفصل، بعد حيرة الفتي عن قبوله في الجامعة أم رده إلي الأزهر: هكذا »‬منذ افتتاح الجامعة حتي تغيرت حياته تغيرًا فجائيًا كاملاً»، ويختم بها الفصل بعدما بتر إعجاب الفتي بدروس الجامعة، وميله إلي أساتذتها، وكذلك حالة الإعجاب والتيه التي صار عليها عندما تلقي دروس الحضارة علي يد الأستاذ أحمد زكي بك.
ويستمر الحذف والتشويه في كل الفصول علي وتيرة واحدة. حيث يحذف صاحب المختارات كل ما يتعلق برؤية الفتي للأزهر مقارنة بدروس الجامعة، التي انصرف ذهنه كليّا إليها، وأغرق فكره في التفكير في دروسها وأساتذتها. وحذف الفقرات يتكرّر في الفصل الرابع »‬بين الشاعر، المعلم والمحب» حيث يحذف موقف صديقه من تذكيره بإنشاده الشعر، »‬فيرثي الشيخ لما أضاع من شبابه، وما أنفق من جهده في غير طائل ولا غناء»، ثم يستمر في لعبة الحذف دون أن نعرف لماذا فعل؟ وما الغرض من حذف هذه الفقرات، التي قد تأتي للإشادة بدور الذين لعبوا دورًا في حياة الشيخ كما في فقرة الشيخ جاويش؟
وقد يغير من شكل الجملة علي نحو: »‬فقد أنشأ الشيخ عبد العزيز جاويش مدرسة ثانوية» ويكتبها هكذا: »‬وأنشأ الشيخ...» ثم يحذف من ذات الفصل، ما حلّ بالشيخ جاويش، بانصرافه عنه بأحداث السياسة. إلي أنه اضطر إلي الهجرة من مصر. وهو ما حال من عدم رؤية الفتي له منذ ليلة الوداع. ويحذف أيضًا أثر الشيخ عليه حيث ساعده لأن يخرج »‬من بيته إلي الحياة العامة» والمعارف التي اكتسبها من العمل معه في الجريدة.. ثم يقفز قفزًا بين الفقرات يهمل منها ما لا يريد، وصولاً إلي مبتغاه. فيحذف وصف الفتي لتكريم مطران في حجرة من حجرات الجامعة. ورأي الفتي في شعر حافظ، وشعوره بأن مطران أسرف في »‬التضاؤل أمام الأمير الذي أهدي له ذلك الوسام»، وصولاً إلي بداية علاقته بمي زيادة.
الحذف لا يقف عند فقرة أو صفحة، بل يتجاوز الأربع صفحات، كما في الفصل الثالث. وقد عنونه »‬طه حسين بدايات الكاتب». في حين جاء في نص المذكرات بعنوان »‬أثر اختفاء المرأة..» فالحذف يبدأ من الثلث الأخير من صفحة 29 من جملة »‬كانوا يقصدون إلي الأزهر ليلهوا ويلعبوا، لا ليعملوا ويجدوا....» وصولاً إلي الثلث الأخير من صفحة 32. حيث يعاود وصل الفقرات من جديد. وفي الفصل الخامس »‬محنة الكفيف» يحذف الفقرة الأولي التي استفتح بها طه حسين فصله، علي طولها. وهي التي يتحدث فيها عن عهد المصريين بالجامعة الذي كان بمثابة العيد، حتي ضاقت الجامعة بهؤلاء المختلفين إليها. ويصف إقبال الناس إليها علي اختلاف مشاربهم. ويبدأ بجملة »‬وأقبل الفتي ذات مساء بصحبة غلامه»... وهو الموقف الذي يظهر رفض السماح لغلامه الدخول إلي رحاب الجامعة. لا يكتفي بهذا وإنما يبتر الفصل الخامس ويقلّصه إلي ثلاث صفحات، من أصل ثماني صفحات (51 - 59).
الشيء اللافت أن معظم المحذوفات كانت تختص بمقارنات الشيخ طه بين الأزهر والجامعة، وميله إلي أساتذة الجامعة. ومنها أيضًا إشادته بفضل هؤلاء الأساتذة في تكوينه علي نحو ما فعل ما الشيخ جاويش، وحفني ناصف، والشيخ الخضري، وأحمد زكي بك، وكذلك ثمة حذف يظهر شغف طه حسين بالمرأة، فحذف كثيرًا من الفصل الرابع عشر »‬قصة حب» خاصة الأجزاء المتعلقة ببداية علاقته بالفتاة التي كانت تساعده، فحذف الكثير من الصفحات التي تشير إلي حالة الشغف التي صار عليها الفتي بعد لقائه بهذه الفتاة التي التقاها في فرنسا، وهو الشيء الذي فعله مع إعجاب طه حسين بمي زيادة، في الفصل الخاصّ بين »‬الشاعر والمعلّم والمحبّ، وكان صوتها هو الوحيد الذي أرضي الفتي في ليلة تكريم مطران، فقام معدّ المختارات بحذف تأثير الصوت علي الفتي وهو يصفه هكذا:» لم يرضَ الفتي عن شيء مما سمع إلا صوتًا واحدًا سمعه فاضطرب له اضطرابًا شديدًا وأَرِقَ له ليلته تلك. كان الصوت نحيلاً ضيئلاً ، وكان عذبًا رائقًا، وكان لا يبلغ السمع حتي ينفذ منه في خفِّة إلي القلب فيفعل به الأفاعيل. ولم يفهم الفتي من حديث ذلك الصوت العذب شيئًا...» (مذكرات طه حسين، ص 44). علاوة علي حذف كل الشعر الوارد في المذكرات الأصلية. وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة عن أسباب الحذف المبهمة!
وبعد...
لم يتوقف أحد من المثقفين - علي حد علمي - عند هذه الجريمة، في حين ما إن قامت إحدي دور النشر الخاصّة بتبسيط كتابات توفيق الحكيم للأطفال، حتي انتفض البعض ضدّ ما حدث. لدرجة أن أحد الكتاب (أشرف عبد الشافي) وقد هاله الأمر وصف ما جري بأنه »‬ختان لتوفيق الحكيم»، وزاد في الوصف بأن ما حدث لكتاب »‬أرني الله» ليس سوي حلقة من حلقات التدليس والتضليل والتلاعب بمؤلفات كاتب كبير، لا يستحق هذا العبث والتجارة به وباسمه، كما لا نستحق نحن القرّاء أن يتلاعب بنا هذا الناشر أو غيره. (ختان الحكيم، الدستور، 14 فبراير 2019).
وهو الأمر الذي غاب في جريمة طه حسين دون أن نعلم هل غاب عن عمدٍ أم عن تقصير وقصور؟ وهو حدث جديد، مقارنة بواقعة توفيق الحكيم التي تعود إلي عام 2005، لكن تمّ اكتشافها مؤخّرًا، ولا أعرف لماذا تمّ إيقاظ الفتنة الآن؟! الغريب أن أمر الختان (لو استخدمنا تعبير أشرف عبد الشافي) حدث أيضًا من قبل مع مؤلفات »‬نجيب محفوظ» تحت اسم التبسيط، عن ذات دار النشر، دون أن نجد أحدًا يتكلّم وقتها، ويطالب وقف هذا العبث بالتراث الإنساني لمبدعينا. فهل من جهة رسميّة تتصدّي لوقف هذا العبث بتراث الأمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.