الفنان التشكيلي ستار نعمة ما يميز بغداد أنها الفاتنة التي لا تشيخ، عادة ما تشيخ المدن القديمة وتهرم، تشيب كما الإنسان، وأدرك أن الشيب ما هو إلا من صنع الحزن أو تقدم العمر، لكنما شيب المدن ليس الا من صنع الحروب، وموت الأبناء سريعًا، وقبل أن يشبوا. ومثلما تنبأ السياب: »ما مر عام والعراق ليس في جوع» وما رأته الفاتنة السمراء من قهر لم تره إلا قليل من شقيقاتها -اللاّئي أرجو لهن السلامة أبدًا. مدينة أدمنت الحزن رغم ابتسامتها، مدينة كما لو أن دجلة صارت غمّازة تلمع في خدها الأيمن. ليس غريبًا أن يطل من شرفتها »أبو نواس» ليري فيما إذا كان العرب يقرؤون ام عزفوا عن القراءة وانشغلوا بالموت والولادة، ذلك وأن يحتوي معرضها الدولي لهذا العام علي (مليوني) عنوان كتاب متنوع في الفكر والرأي. أكثر من ثلاث وعشرين دولة عربية وأجنبية و (635) دار نشر تشارك في معرض بغداد الدولي للكتاب لعام 2019، ابتداءً من يوم الخميس 7 فبراير، حتي 18 فبراير، يفتح أبوابه يوميًا من الساعة التاسعة صباحًا ولغاية التاسعة مساء. إن ما يميز هذه الدورة عن سابقاتها: وفود الكثير من أدباء العراق -من مختلف المحافظات- علي وجه الخصوص والدول العربية والأوربية علي وجه العموم، كذلك تعدد عناوين الكتب ووفرتها وما يثير الدهشة أيضًا أن لا وجود لأي حظر علي بعض الكتب، ليتجاوز المعرض بهذه القفزة الفريدة من نوعها تحجيم الفكر وحظر ما يخالف السائد والمألوف، فعدم سحب كتاب ما أو منعه من المشاركة كما حدث في السابق وفي بعض معارض الكتاب في الدول العربية، اعتبرها بعض زائري المعرض علامة اطمئنان علي أن العراق صار أكثر انفتاحًا علي العلوم والمعارف العربية والعالمية، وفي الشأن ذاته صرح أحد القائمين علي معرض بغداد الدولي: » كنا في كل سنة في دورات المعارض السابقة نسحب من المعرض بعض العناوين، ولكننا في هذا العام لم نحرم من المشاركة في المعرض أي كتاب كان فكريًا أم سياسيًا إلا إذا ما كان يحرض علي الارهاب والعنف والكراهية». المعرض كان حفلًا كبيرًا، جرت فيه ندوات ثقافية وفكرية، قدمها كتاب مشاركون فيه طرحوا من خلالها إشكاليات الرؤية الثقافية لتجليات الواقع في عموم المنطقة، وأمسيات ثقافية ونقدية وشعرية، وتواقيع كتب وإصدارت جديدة لأدباء، بالإضافة إلي جلسات لعدد من الضيوف الذين أُعلن عن حضورهم وكان من بينهم: الروائي والشاعر البرتغالي أفونس كروش، والاعلامي والكاتب اللبناني زاهي وهبي والاعلامي والكاتب جورج قرداحي والروائي والأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله الحائز علي البوكر 2018، والروائية الكويتية بثينة العيسي والروائي العراقي سنان أنطون وسواهم. ومن ضمن الفعاليات التي أُقيمت في معرض بغداد الدولي للكتاب عمل الفنان التشكيلي ستار نعمة، وهو أشبه بالقصة القصيرة لستة أجسام مصنوعة من أوراق الكتبِ، تنبثقُ من أرض المعرض الحمراء، تري نفسك خلاله. للعمل دلالة بين الجسم المادي للإنسان والجسم المعرفي، سبقتها أعمال مشابهة في العراق إلا أنها لم تكن بالنضج المطلوب، ما جاء به ستار نعمة عمل تام وفكرة جديدة ناضجة، هذا العمل المفاهيمي جعل الحاضرين يستمتعون بمشاهدتهم داخل الفكرة وجلوسهم بين تلك الاجسام التي تدعوك للمعرفة، وهو من الفنون التركيبية التي لا تتعالي علي الجمهور وكانتْ من أقرب التجارب للمتلقي. الجدير بالذكر أن وزارة الثقافة والسياحة أطلقت اسم الروائي »علاء مشذوب» علي دورة معرض بغداد الدولي ال 46 للكتاب، تكريماً لروحه. علاء مشذوب كاتب ومفكر عراقي، من مواليد عام 1968، تخرج من كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد عام 1993، وبعد حصوله علي الماجستير، تمكن من الحصول علي دكتوراه فنون جميلة عام 2014. ألّف عدداً من الروايات منها: مدن الهلاك الشاهدان، وفوضي الوطن، وجريمة في الفيسبوك، وآدم سامي مور، وانتهازيون ولكن، وحمام اليهودي، وشيخوخة بغداد، وبائع السكاكر، وجمهورية باب الخان، ورصيف الثقافة إلخ. كان مشذوب كاتباً جريئاً لا يخشي إسقاط التابوهات السياسية والدينية في كتاباته. له (21) مؤلفًا. قبل أيام نالت منه أيادي الغدر والتطرف، لينام حاضنًا ثلاث عشرة رصاصة، أردت أن تميت الفكر لكنها قتلت علاء ولم تقتل فكره، بل سلطت عليه الضوء الذي كان يستحقه حيًا، لكنه لم ينله إلا بعدما صار جثة.رغم ما في المعرض من جوانب بيضاء ومحمودة، إلا أنه لا يخلو من جوانب سلبية مرفوضة والتي عكرت صفو القارئ الوافد لاقتناء ما يطرح من جديد الكتب: ألا وهي الارتفاع القاهر في الأسعار. ليت أن دور النشر كانت أقل استغلالًا للمشتري، لئلا يفقد الكتاب رواده، وتفقد الشعوب ثقافتها ويضمحل وعيها.