أما وقد تحرك قطار التعديلات الدستورية بكل قوة تبدو إحدي عربات القطار قد انفصلت عنه وبقيت تراوح مكانها. عربة الحوار المجتمعي لا تتقدم كباقي عربات القطار مع أنها كان ينبغي أن تسبق باقي تحركات التعديل بخطوات، فهي التمهيد لفهم شعبي واقعي وعميق لمسببات وضرورات التعديل إن وجدت، كذلك لإشاعة الحماسة في نفوس المقترعين ليقينهم أن رأيهم له صدي عند اتخاذ قرارات مهمة كتعديل الدستور. التعديل منطقياً يكون للأصلح ولتصويب ما قد يكون زل بالهدف، ولأنه يجب أن يكون أفضل من سابقه فلا ينبغي التسرع عند تقرير التعديل ويتعين التدقيق في الصياغة ليخرج المنتج الجديد بنحو أفضل. من الأفضل لمصر بكل عظمتها وقوتها وهي في صدر وقلوب العالم الآن في ظل حكم الرئيس السيسي الذي استطاع بجهد جبار أن يسترد لمصر مكانتها العالمية، أن تقدم القدوة والنموذج المبهر الذي يحتذي، وألا يتسرع معدلو الدستور ويعجلوا بخروج منتجهم نكاية فقط في رافضي التعديلات، وتكريساً لسلطان الأغلبية في مقابل الأقلية الرافضة. والحقيقة فإن هؤلاء الرافضين تحديداً هم الأولي بالاستماع إليهم. ليسوا هم وحسب بل باقي مكونات المجتمع المدني والفئات المعنية والمستهدفة من التعديل كالقضاء والإعلام والأحزاب والاتحادات والنقابات وخبراء السياسة لتعديل هيكل الحكم كما ينبغي. لقد أحسن نادي القضاة بالمبادرة بمناقشة التعديلات وفي انتظار الخطوة التالية من المناقشة القضائية علي يد المجلس الأعلي للقضاء. وكان من المفترض أن تناقش الجهات الإعلامية تلك التعديلات المقترحة أيضاً لكن المناقشة الإعلامية المطلوبة تعتريها بعض الصعوبات نظراً لانشغال الصحفيين بانتخابات نقابتهم ولأن الهيئات الإعلامية الثلاث التي تأسست بناء علي الدستور الحالي الذي يتم تعديله مطلوب إلغاؤها والعودة إلي وزارة الإعلام ومجلس الشوري. كنا نتمني أن تفسح الشاشات التليفزيونية وقتاً كافياً لمناقشات جادة من الجانبين ليفهم المواطن ويقتنع بجدوي التعديلات من عدمه وألا تكتفي تلك الشاشات بالزن علي أذن المواطن ومنافقة ضميره بترديد مقولة إن الشعب هو صاحب الكلمة الأخيرة والقول الفصل في مسألة التعديلات وإنه هو الذي يقرر في نهاية الأمر، بينما ما يحدث علي أرض الواقع هو اقتراح من خُمس أعضاء مجلس النواب بالتعديلات المطلوبة ناقشتها لجان المجلس وحسب، علي عكس ما حدث من نقاش مجتمعي موسع وعميق ودراسة من خبراء قانونيين ودستوريين ونخب سياسية وثقافية للدستور الذي خرج في صورة مشرفة شهد لها القاصي والداني ثم عرض علي الشعب في استفتاء عام وجاء الاقتراع عاكساً لثقة الشعب في إحكام وهدف الصياغة وقبوله للأعمدة السبع الأساسية التي تأسس عليها دستوره الجديد وهي مدنية الدولة والحكم- والحقوق والالتزامات؛ الحريات والضوابط- والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية، الفصل بين السلطات، استقلال القضاء، تداول السلطة، الإصلاح الإداري واللامركزية. هذه الأعمدة كان ينبغي التمسك بها بحيث تدور أي تعديلات جديدة تفرضها الظروف في إطارها. علي نحو شخصي كنت أتمني مثلاً النص صراحة في التعديلات الجارية علي وجود نائب للرئيس وفي أغلب ديموقراطيات العالم هناك نائب للرئيس بل إن النائب في الولاياتالمتحدة يتم انتخابه بشكل غير مباشر جنباً إلي جنب مع الرئيس حيث يحدده المرشح الرئاسي من قبل الانتخابات. ولا يليق في حالتنا المصرية أن يقوم أي رئيس وزراء مقام الرئيس أو ينوب عنه لأنه سلطة تنفيذية يتم تعيينها من قبل الرئيس وهو وحكومته عرضة للمساءلة وتقييم أدائها وتغييرها إن لزم الأمر. أمامنا تجارب إقليمية وعالمية لتعديل الدساتير بعضها أثار السخرية والانتقاد الدولي مثلما حدث في الجزائر وتركيا وبعضها أثار الإعجاب لحرفيته مثلما حدث في روسيا. والأمر لا يحتاج منّا سوي إلي قليل من الصبر والحكمة وسعة الصدر والمرونة ليخرج التعديل نموذجاً وقيمة مضافة لمكانة مصر عالمياً بدلاً من أن يخصم من رصيدها الآخذ في التنامي في عيون العالم وقلوبه.