مرت في 28 من شهر أكتوبر الذكري ال 45 علي رحيل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. وبمناسبة هذه الذكري نستعيد رحلته الدكتور طه إلي المملكة العربية السعودية، وهناك أدي مناسك العمرة. في الحقيقة لم يذكر الدكتور طه حسين وقائع هذه الرحلة الإيمانية - وإن كانت تركت أثرًا كبيرًا علي نفسه - في أي من كتبه أو حتي مذكراته وكذلك يومياته. طه في المملكة بدأت وقائع هذه الزيارة في الخامس عشر من شهر يناير في عام 1955 عندما زار عميد الأدب العربي مدينة جَدّة في مهمّة ثقافية تابعة لجامعة الدول العربية بصحبة صديقه أمين الخولي، أثناء رئاسة الأوّل للجنة الثقافية بجامعة الدول العربية في اجتماعها بجدة عام 1374ه -1955م. وقد استقبله يومها الملك فهد الذي كان أميرًا ووزيرًا للثقافة آنذاك. وبعد أن انتهت مهمته الرسمية آثر الانتقال إلي زيارة مكةوالمدينة، وقبّل الحجر الأسود، وزرف الدموع هناك ويصف أمين الخولي هذا المشهد قائلاً: »حين استلم طه حسين الحجر الأسود ظلَّ يتنهّد ويبكي ويقبّل الحجر حتي وقفت مواكب الحجيج انتظارًا لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه، ولكنه أطال البكاء والتنهيد والتقبيل، ونسي نفسه فتركوه في مكانه وأجهشوا معه في البكاء والتنهيد».وعندما وصل إلي الحديبية أخذ حفنة من التراب وقبَّلها، وعندما سُئل عن السبب قال: »لعل الرسول صلي الله عليه وسلم وطئ هنا».رحلة طه حسين إلي الحجاز نالت من الاهتمام الكثير حتي أن الملك سعود استقبله استقبالاً مبهرًا، وبالمثل الأمراء والوجهاء والأدباء، وطلاب العلم والمارة اصطفوا حول الطرقات مرحبين بالدكتور طه. كما ذهب إليه في مقر إقامته الشيخ محمد متولي الشعراوي، حيث كان أستاذًا في كلية الشريعة هناك. وقال قصيدة في هذه المناسبة. تداعيات الرحلة استمرت الرحلة تسعة عشر يومًا. لم يسجل طه حسين أصداء هذه الرحلة علي ما أظن في أي من كتبه، ولكن سجلت سوزان طه حسين أصداء هذه الرحلة في كتابها عنه »معك» الذي قام بترجمته بدر الدين عردوكي ومراجعة محمود أمين العالم، وصدر عن دار المعارف. لم تكتفِ سوزان بنقل مظاهر الاحتفاء بطه، وإنما رصدت لمشاعر طه وهو في الأماكن المقدسة، كما ذكرت تبعات الرحلة بعد عودته إلي مصر. حيث اتخذت الصحافة المصرية من هذه الرحلة وسيلة لمحاولة الدفاع عن إيمان طه، بعدما أشيع عن كفره تارة، ونصرانيته تارة أخري، خاصة وهناك من ربط بين زواج طه من سوزان التي بقيت علي دينها، بل هناك من أسرف في الخيال واعتبر موافقة خال سوزان القس كان مشروطًا بتنصير طه، وهو الأمر الذي لم يثبته أحد، وإن كان استغله حاقدوه في الوشاية به لدي الحكومة المصرية، حتي يُفْصل من البعثة لأنه خالف شروط الابتعاث. أهم حدث في هذه الرحلة هو مناجاة الدكتور طه التي ظلت حدثًا مهمًا للصحافة، فما عاد من هذه الرحلة حتي زاره كامل الشناوي وسأله عن هذه المناجاة وماذا قال فيها. ومتي حفظ الدعاء، وهي أسئلة كانت جارحة لطه حسين لأنها تؤكّد ما تردّد حول مسألة إيمانه. كان سؤال كامل هو تكرار لأسئلة بذات المغزي سُئِلَتْ له في بلاد الحجاز من قبيل: ما تأثير هذه الأماكن عليكم؟فغضب طه وقال منفعلا لكامل: »ما بالكم تقحمون أنفسكم بين المرء وربه؟»ومما قال في الدعاء: »اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ولكَ الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولكَ الحمد، أنت رب السماوات والأرض، ومن فيهن... أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق ... اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت.. فاغفر ليّ ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت.. أنت إلهي، لا إله إلا أنت» تردد أن مناجاة طه في الحرم كانت الأولي، لكن سوزان تشير في كتابها إلي أن طه ناجي ربه في مؤتمر بفلورنسا عام 1951 كان المؤتمر عن الحضارة المسيحية والسلام، وَدُعي طه للمشاركة فيه، فقال الدعاء باللغة الفرنسية في المحاضرة، وما إن انتهي من الدعاء حتي دوت بالتصفيق، ثمّ جاءت امرأة فرنسية وطلبت نص الدعاء، فأعطاه لها ثم قالت وهي تبكي: » خذ دموعي وإعجابي وبلغهما للإسلام الذي أحبه كثيرًا». في مديح طه حسين بعد مضي زمن علي هذه الرحلة قام الباحث السعودي محمد عبد الرازق القشعمي بتسجيل وقائع هذه الزيارة في كتاب »طه حسين في المملكة العربية السعودية: صدي زيارة عميد الأدب العربي للمملكة» »إصدارات النادي الأدبي بالرياض 2009» راصدًا لأصداء هذه الزيارة فيما جاء من كتابات بعدها، أو في كتابات أدباء من السعودية في الصحافة وغيرها عن ذكريات تلك الزيارة وآثارها. فقد أورد ما تردد أثناء هذه الزيارة من كتابات فقد كتب عن زيارة طه حسين كثير من الأدباء من أمثال عبدالله عريف في صحيفة »البلاد»، وعبدالله ساب، وألقي خلالها الشيخ محمد متولي الشعراوي قصيدة وقد كان أيامها عضو بعثة الأزهر قال فيها: هو طه في خير كل قديم وجديد علي نبوغ سواء وهو غربي كل فكر حلال أزهري الحجا والاستقصاء كرموه وكرموا العلم لما كلفوه صياغة الأنباء يا عميد البيان، أنت زعيم بالأمانات أريحي الأداء لك في العلم مبدأ طحسني سار في العالمين مسري ذكاء يجعل العلم للرعية جمعا مشاعا كالماء، بل والهواء وفي هذه القصيدة يطلب الشعراوي من العميد بألا يبخل بنصائحه للأزهر فيقول له: »يا عميد البيان لا تحرم الأز / هر عونًا بصائب الآراء! / يلتقي فيه محدث وقديم / في جلاليهما أعز التقاء/ كم سقيتم من نبعه فاذكروه / ذاك بر الأبناء بالآباء / واصرفوا الناس عن مثار جدال / في مزايا شكلية الأزياء» كما كتب عنها شكيب الأموي، وعبدالقدوس الأنصاري، ومحمد سرور الصّبان، ومن ثم عابد خزندار تحت عنوان »محنة الأدب وطه حسين» ويقول في مقاله: »وهكذا أسعدني الحظ وهيأ لي حسن الطالع أن أقضي لحظات مع الدكتور طه حسين في يوم ما في قاعة »يورت التذكارية»، لحظات أفاض فيها في الحديث كدأبه حين نلقاه متحدثًا أو تسمع إليه محاضرًا، ولكن شيئًا كثيرًا من الدهشة وموجة جارفة من القلق جرفتني في تيارها الصارم حين سمعت الدكتور طه حسين يحدثني عن محنة الأدب وينعاه إليّ في ألفاظ منمقة مزوقة وكلمات منسقة وأسلوب ساحر وعبارات جذابة خلابة ملكت علي تفكيري واستحوذت علي حواسي». أما افتتاحية جريدة البلاد فجاءت تحت عنوان »الدكتور طه حسين.. ثروة قومية ومفخرة ثقافية» وقال فيها عبد الله عريف في الكلمة: »فمرحباً بالدكتور في مهبط الوحي، ولعله حين يطول به المقام يود لو استقبل من أمره ما استدبر، وأنه زار هذه البلاد منذ أمد بعيد.. ليعرف من أمرها ما يجب أن يعرفه أمثاله من القادة والرواد». وقد ألقي الدكتور طه نفسه كلمة بعنوان المملكة العربية السعودية وماذا تركت في نفسي جاء فيها: »لقد سبق لي أن عشت بفكري وقلبي في هذه {الأماكن المقدسة} زهاء عشرين عاماً منذ بدأت أكتب »علي هامش السيرة» حتي الآن ولما زرت »مكة» و المدينة، أحسست أني بفكري وقلبي وجسدي جميعاً .. عشت بعقلي الباطن وعقلي الواعي .. استعدت كل ذكرياتي القديمة، ومنها ما هو من »صميم التاريخ»، ومنها ما هو من »صميم العقيدة» وكانت الذكريات تختلط بواقعي فتبدو حقائق حيناً ، ورموزًا حينًا .. وكان الشعور بها يغمرني، ويملأ جوانح نفسي. والآن أريد أن أقول لكم الحق كل الحق الذي لا نصيب لسرف فيه من قريب أو بعيد.إن لكل مسلم وطنان، لا يستطيع أن يشك في ذلك شكًا قويًا أو ضعيفًا .. »وطنه الذي نشأ فيه»، وهذا »الوطن المقدس الذي أنشأ أمته وكون عقله وقلبه وذوقه وعواطفه جميعًا». هذا الوطن المقدس الذي (هداه إلي الهدي) .. والذي (يسره للخير) ..والذي (عرفه نفسه).. و(جعله عضوًا صالحًا مصلحًا في هذا العالم الذي نعيش فيه). أهم أثر عاد علي طه حسين من هذه الرحلة هو الحالة النفسية التي انعكست علي طه حسين فيقول: »لقد تركت زيارتي للحجاز آثارًا قوية رائعة في نفسي لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث. وحسبك أنها الموطن الذي أشرق منه نور الإسلام، ونشأت فيه الحضارة العربية الإسلامية. وما أعرف قُطرًا من أقطار الأرض أثّرَ في عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم كما أثرّت هذه البلاد، وكما أثّر الحجاز فيها بنوع خاص» ومنها ما كان إيجابيًا حيث نفي التهم التي التصقت به، كخروجه عن الملة بسبب زواجه من سوزان طه حسين، حيث روج المضللون أن طه ارتد في السر. وبالمثل ما أشيع بعد دراساته التي أثارت جدلاً كبيرًا في الواقع الثقافي. ومن جانبي كان أهم أثر هو تغير موقف السعوديين المسبق عن طه حسين. وبدأ الترويج لأفكاره وحدثت طفرة مهمة في أن عددًا من الطلاب بدأوا يسجلون موضوعات مع طه. كما أن طه نفسه تواصل مع المبدعين وكتب مقدمة ديوان الشاعر السعودي الراحل حسن قرشي الأمس الضائع. ما قاله في كلمته أثناء لقائه بجموع من المفكرين في زيارته، الكلمة التي تعبر عن عمق طه حسين وقراءته المتمكنة للمكان وتأثيره إذ يقول: »فأنا أحب لكل عربي فيما بينه وبين نفسه أن يزكي نفسه بالعلم والثقافة والمعرفة، وأن يأخذ من هذه الأشياء أكثر ما يستطيع، وأن يتعمقها أشد التعمق، حتي إذا ما لقي الأوروبي والأميركي لم يحس لهذا الرجل أو ذاك تفوقًا عليه، ولم يحس في نفسه بالاستحياء من الشعوب التي تتفوق في هذا اليوم». بل وتؤكد كلمته الرؤية الفلسفية والفكرية التي نهجها طه حسين حتي في كتبه الشهيرة فهو يقول ويكرر: »ليس يكفي أن أشعر أن القدماء منا قد أتاحوا لنا تراثا يعصمنا من الذلة، ويفرض علينا فضلا في العلم والثقافة والمعرفة مهما تكن الظروف.» وفي حديثه عن الثقافة التي حمل هم مستقبلها وطريقها يقول: أتصور الثقافة وبهذا التصور شقيت كثيرًا وكلفت نفسي ما لا تطيق، وأشقيت كثيرين من الذين أتيح لي أن أشرف بالعمل معهم، والشيء الذي لاشك فيه هو أني سأتخذ هذه الخطة نفسها فيما يتاح لي أن أعمله استجابة لرغبة الجامعة العربية حين كلفتني أن أشارك في لجنة الثقافة للجامعة العربية. ولعل في نهاية هذه الكلمة مايشير إلي فهم طه حسين لواقع العرب حينها وفهمه للسعودية ومقاربته التاريخية لها فيقول علي سبيل المثال في إحدي الفقرات: »أشعر الآن أني أتحدث في بلاد العرب التي عاش فيها محمد صلي الله عليه وسلم، وأصحابه، وفي البلاد التي مر عليها وقت كان أهلها يقولون ما أشد قرب السماء من الأرض، ثمّ مرَّ عليها وقت بعد وفاة النبي كان بعضهم يبكي لا لأن شخص محمد قد انتقل إلي الرفيق الأعلي بل لأن خبر السماء قد انقطع عن هذه البلاد».