يحتل الأزرق المساحتين الأكثر اتساعًا في هذا الكون: السماء والبحار. لكن علي عكس ما قد يُعتقَد، فإن معظم الحضارات والثقافات القديمة لم تكن »تري» اللون الأزرق كثيرًا كما نراه نحن. كيف ذلك طالما أن الطبيعة، من سماء وبحار قديمة قِدَم الكون ذاته؟ يرجع السبب إلي العلاقة بين الرؤية واللغة، أو بين الوعي بالمدلولات ووجود لفظ دال عليها؛ فلم يكن اللون الأزرق، في معظم الثقافات القديمة يُعَرّف بكلمة،بل كان مجرد صبغة دون لفظ يشير إليها، لذلك تعذّر الالتفات إليه أو »رؤيته»؛ طالما أن العين تلحظ التفاصيل ذات التعريف اللغوي المختزن. كان أول من انتبه إلي هذه الحقيقة معلم إنجليزي في عام 1850، ولم تتكرم المصادر بذكر اسمه، حين قرأ »الأوديسه» لهومير، وانتبه إلي وصف البحر داخل العمل باللون الأحمر القاني Bordeaux fonce، فأعاد قراءة العمل كاملًا ورصد عدم ذكر اللون الأزرق طيلة العمل إلا مرة واحدة رغم احتواء المشاهد علي موصوفات تنتمي للون، فوسّع عمليات البحث ليصل إلي حقيقة لافتة: أن معظم اللغات القديمة كانت تخلو من لفظ دال علي اللون الأزرق. في البداية لم يكن سوي اللونين الأبيض والأسود، ثم الأحمر فالأصفر والأخضر، وظهر اللون الأزرق كآخر الاكتشافات. قد يبدو ذلك غريبًا لكن لو تأملنا الطبيعة قليلًا لوجدنا أن اللون الأزرق نادر بالفعل، حتي السماء لا تعكس دائمًا لونًا أزرق بالضرورة فأحياناً ما تكون رمادية وأحيانًا أخري بيضاء. الحضارة المصرية هي الوحيدة تقريبَا المستثناه من تلك القاعدة، فاللغة المصرية القديمة احتوت علي لفظ يشير إلي اللون الأزرق، ووعت للون بقوة بل وأنتجته، ليس إلا مع انتشار الأصباغ المصرية الزرقاء حتي عرفته الثقافات الأخري وأدرجت اسمًا له في قواميسها. وما أن ظهر الوعي باللون ورأته العين جيدًا حتي انتشر انتشار لافت فارتبط أول ما ارتبط بالسكينة والألوهية والثقة. ربط المصريون القدماء اللون الأزرق بالنيل وفيضانه، إذن بالوفرة والرخاء، فأصبح اللون مرادفًا للملكية، لأن الأصباغ الضرورية لانتاج اللون »الأزرق المصري» كما أطلقوا عليه، كانت باهظة الثمن وتحتاج لمجهود وعمل شاق لإنتاجها. احتفظت الحضارات الأخري بالخصوصية الملكية للون، فاقتصر استخدامه علي الصفوة نظرًا لتكلفته الباهظة وندرته، ولم ينتشر هذا الانتشار الكبير إلا بعد الثورة الصناعية حيث أصبح انتاجه أسهل وأصبح لونًا شعبيًا تقريبًا ( منتجات الجينز، الزي المدرسي، الزي الرسمي لأفراد الأمن الخاص وكثير من المصانع). للون الأزرق تأثير نفسي مميز؛ فهو يهديء النفس ويخفف التوتر، لهذا تستخدمه المستشفيات في طلاء حوائطها. كذلك له تأثير علي تقليل الشعور بالجوع فينصح أطباء التغذية وأنظمة الدايت بتناول الوجبات في أطباق زرقاء اللون لتساعد علي الشعور بالشبع. لكن درجات الأزرق لا تتمتع بالدلالة ذاتها؛ فالأزرق الفاتح يرتبط بالصحة والشفاء والحكمة والإيمان والسكينة، بينما يدل الأزرق الغامق علي القوة والذكاء والخبرة. ولأنه يرمز للذكاء فغالبًا ما يستخدم للترويج للمنتجات الجديدة والابتكارية. ونلاحظ أن فيس بووك وتويتر قد استخدموا اللون الأزرق في تصميم حديث لتقديم منتجهم إلي العالم. يستخدم الأزرق في الفن وخاصة الفنون التشكيلية كلون بارد، والمثال الأبرز علي ذلك كان الفترة الزرقاء لبابلو بيكاسو ( 1881-1973 ) التي تعدّ من أهم محطات الفن التشكيلي وخاصة المدرسة التكعيبية. استمرت هذه المرحلة من عام 1901 إلي 1904، وكانت فترة اكتئاب للفنان العظيم؛ فلم يستخدم طيلة السنوات الأربع سوي ألوان باردة، من درجات الأزرق، ولم يعبر بها إلا عن موضوعات حزينة مثل الشقاء الوجودي للانسان، الفقر، الشيخوخة والموت. بدأت هذه المرحلة مع بداية استقراره في باريس وعكست ما عاناه في إسبانيا قبل مجيئه إلي فرنسا، خاصة انتحار صديقه كارلوس كاساخماس، الذي أثر فيه بقوة. عبّر بيكاسو بدرجات لونية حزينة عن الانسان المهمّش في المجتمع، كالمتشردين والعميان والمرضي الفقراء، لكن الحميمية المختلطة بتلك اللوحات واللمسة الذاتية لبيكاسو حوّلت تلك القضايا الاجتماعية إلي مشاهد أكثر شخصية تضمنتها اللوحات. تنوعت الدرجات الزرقاء التي استخدمها بيكاسو بين الساخن والبارد ومرّ أحيانًا علي التركواز. كما تعددت المشاعر التي عبّر عنها مستخدمًا الأزرق من الحزن والبرود في معظم الأعمال إلي الحلم والآخرية في بعضها. وللمفارقة فإن أشهر لوحات تلك المرحلة - التي تناولت اليأس والموت والشقاء عند بيكاسو-، حملت عنوان »الحياة»، رسمها في عام 1903 ، وهي عمل ضخم توقّف أمامه النقاد كثيرًا بالتحليل، يصل ارتفاع اللوحة إلي ستة أقدام وعرضها أربعة أقدام وتمثل أربع شخصيات؛ زوجين وأم وطفلها، وفي خلفية الصورة لوحتين واحدة منهم تذكّر بأعمال فان جوخ، واعتقد النقاد أن الرجل الموجود في اللوحة يمثل كارلوس صديق بيكاسو المنتحر. وإذا ذكرنا الشاكرات (النقاط السبع في جسم الانسان التي تمده بالطاقة وفقًا للثقافة الهندية)، فإن الأزرق هو لون شاكرا الحَلق أو الحنجرة، المسئولة عن التعبير والهواء والتنفس، ونقص اللون الأزرق أمام عين الانسان قد يرتبط بالعجز عن التواصل والتعبير عن الذات.