وزير الدفاع الصيني: سنتحرك بحزم وقوة لمنع استقلال تايوان    وسام أبوعلي: معظم عائلتي استشهدت    «الأرصاد»: طقس الأحد شديد الحرارة نهارا.. والعظمى بالقاهرة 37 درجة    «أوقاف شمال سيناء» تنظم ندوة «أسئلة مفتوحة عن مناسك الحج والعمرة» بالعريش    إضافة 3 مواد جدد.. كيف سيتم تطوير المرحلة الإعدادية؟    إنفوجراف| ننشر أسعار الذهب في مستهل تعاملات اليوم الأحد 2 يونيو    مبروك للناجحين وأوائل 3 إعدادي..رابط سريع لنتيجة الشهادة الإعدادية 2024 الترم الأول في الفيوم    32 لجنة تستقبل 5 آلاف و698 طالبا لأداء امتحانات الثانوية الأزهرية بكفر الشيخ    منصة ستيم لألعاب الكمبيوتر: حسابات ألعاب المستخدمين غير قابلة للتوريث    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 2يونيو 2024    نشرة ال«توك شو» من «المصري اليوم»: رئيس شعبة المخابز يتحدث عن تطبيق قرار الخبز    أسعار الخضار في الموجة الحارة.. جولة بسوق العبور اليوم 2 يونيو    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 2 يونيو 2024    سيناتور أمريكي: نتنياهو مجرم حرب ولا ينبغي دعوته أمام الكونجرس    الفنان أحمد جلال عبدالقوي يقدم استئناف على حكم حبسه بقضية المخدرات    عبير صبري: وثائقي «أم الدنيا» ممتع ومليء بالتفاصيل الساحرة    ل برج الجدي والعذراء والثور.. ماذا يخبئ شهر يونيو لمواليد الأبراج الترابية 2024    ورشة حكي «رحلة العائلة المقدسة» ومحطات الأنبياء في مصر بالمتحف القومي للحضارة.. الثلاثاء    توقيف يوتيوبر عالمي شهير نشر مقاطع مع العصابات حول العالم (فيديو)    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تشن غارةً جويةً جنوب لبنان    مواعيد القطارات اليوم الأحد على خطوط السكك الحديد    عمرو السولية: معلول ينتظر تقدير الأهلي وغير قلق بشأن التجديد    الزمالك يدافع عن شيكابالا بسبب الأزمات المستمرة    الأونروا تعلق عملها في رفح وتنتقل إلى خان يونس    «خبرة كبيرة جدًا».. عمرو السولية: الأهلي يحتاج التعاقد مع هذا اللاعب    أحمد موسى: الدولة تتحمل 105 قروش في الرغيف حتى بعد الزيادة الأخيرة    براتب 50 ألف جنيه شهريا.. الإعلان عن فرص عمل للمصريين في الإمارات    مدحت شلبي يكشف 3 صفقات سوبر على أعتاب الأهلي    تشيلي تنضم إلى جنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل    عمرو أدهم يكشف آخر تطورات قضايا "بوطيب وساسي وباتشيكو".. وموقف الزمالك من إيقاف القيد    الصحة تكشف حقيقة رفع الدعم عن المستشفيات الحكومية    حميميم: القوات الجوية الروسية تقصف قاعدتين للمسلحين في سوريا    أمير الكويت يصدر أمرا بتزكية الشيخ صباح خالد الحمد المبارك الصباح وليا للعهد    إجراء جديد من محمد الشيبي بعد عقوبة اتحاد الكرة    رئيس اتحاد الكرة السابق: لجوء الشيبي للقضاء ضد الشحات لا يجوز    17 جمعية عربية تعلن انضمامها لاتحاد القبائل وتأييدها لموقف القيادة السياسية الرافض للتهجير    بعد حديث «حجازي» عن ملامح تطوير الثانوية العامة الجديدة.. المميزات والعيوب؟    من شوارع هولندا.. أحمد حلمي يدعم القضية الفلسطينية على طريقته الخاصة (صور)    زاهي حواس يعلق على عرض جماجم مصرية أثرية للبيع في متحف إنجليزي    حريق في عقار بمصر الجديدة.. والحماية المدنية تُسيطر عليه    دراسة حديثة تحذر.. "الوشم" يعزز الإصابة بهذا النوع من السرطان    باستخدام البلسم.. طريقة سحرية لكي الملابس دون الحاجة «للمكواه»    طبيب مصري أجرى عملية بغزة: سفري للقطاع شبيه بالسفر لأداء الحج    قصواء الخلالي: التساؤلات لا تنتهى بعد وقف وزارة الإسكان «التخصيص بالدولار من الخارج»    السفير نبيل فهمى: حرب أكتوبر كانت ورقة ضغط على إسرائيل أجبرتهم على التفاوض    ضبط 4 متهمين بحوزتهم 12 كيلو حشيش وسلاحين ناريين بكفر الشيخ    موازنة النواب: الديون المحلية والأجنبية 16 تريليون جنيه    عضو أمناء الحوار الوطني: السياسة الخارجية من أهم مؤشرات نجاح الدولة المصرية    وزير الخارجية السابق ل قصواء الخلالي: أزمة قطاع غزة جزء من الصراع العربي الإسرائيلي وهي ليست الأولى وبدون حل جذري لن تكون الأخيرة    صحة الإسماعيلية: بدء تشغيل حضانات الأطفال بمستشفى التل الكبير    مجلس حكماء المسلمين: بر الوالدين من أحب الأعمال وأكثرها تقربا إلى الله    مصر تشارك في مؤتمر العمل الدولي بجنيف    تكريم الحاصل على المركز الرابع في مسابقة الأزهر لحفظ القرآن بكفر الشيخ    تعرف على صفة إحرام الرجل والمرأة في الحج    «مفيهاش علمي ولا أدبي».. وزير التعليم يكشف ملامح الثانوية العامة الجديدة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 1-6-2024 في المنيا    شروط ورابط وأوراق التقديم، كل ما تريد معرفته عن مسابقة الأزهر للإيفاد الخارجي 2024    قبل الحج.. تعرف على الطريقة الصحيحة للطواف حول الكعبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالد حسيني.. الصوت الروائي الأبرز لأفغانستان
نشر في أخبار السيارات يوم 25 - 08 - 2018

عبر ثلاثة نصوص روائية بارزة من حيث انتشارها وقبولها قارب الروائي الأميركي ذو الأصل الأفغاني خالد حسيني الحياة الأفغانية علي نحو عميق ولافت للانتباه، في تجربة روائية تستحق البحث والتأمل وبخاصة من المجتمعات المتقاربة ثقافيا علي نحو كبير مع المجتمع الأفغاني الذي وقع فريسة لنزاعات عنيفة علي مدار عقود، انعكست عليهم إنسانيا بمأساوية وكانوا من تلك الدول التي انعكست عليها آثار الحرب الباردة أحيانا والفاجرة أحيانا- إن جاز التعبير- بين أمريكا والاتحاد السوفيتي أو بين الإمبريالية الرأسمالية والشيوعية. إنها مناطق البين بين مثل كثير من منطاقنا العربية بالضبط التي تمّ ومازال يتمّ توظيفها في هذا الصراع بقدر كبير من الوحشية وساعدتها طبيعتها الملتبسة هُويَّاتيا في الوقوع في هذا الفخ من التوظيف في الصراع الذي انعكس عليها بأقسي درجات المأساوية والتردي في الأوضاع الإنسانية. الروايات الثلاث المترجمة للعربية بتفاوت شديد في جودة الترجمة هي (عدّاء الطائرة الورقية) و(ألف شمس ساطعة) و(ورددت الجبال الصدي)، وإن كانت الترجمة الأفضل التي اطلعت عليها هي ترجمة إيهاب عبد الحميد الصادرة عن دار بلومزبري بقطر 2012. من الناحية الشكلية يمكن تسجيل عدد كبير من الملاحظات حول فرادة هذا الصوت الروائي وخصوصيته وما يمتلك من مقدرة علي خلق الجمال الأدبي عبر هذا السرد الروائي. كما يمكن كذلك تأمل المحتوي الدلالي أو المضمون والمعاني والقضايا والأسئلة التي انشغل بها هذا السرد. من حيث الشكل يمكن القول بأن خالد حسيني ينزع إلي سرد مشهدي في غالبيته، واقعي ينقّب في النفس الإنسانية ويتتبع اليومي والعادي أو الهين من الأحداث الحياتية أو ما قد يبدو بسيطا وهيّنا منها لينتج منها كلها الغرابة أو الجديد أو الطريف والمدهش. لديه عناية فائقة بالتفاصيل الصغيرة، بحيث يمكن القول بأن سرده الروائي يتمتع بقدر فريد من الصبر علي تتبع التفاصيل اليومية والحياتية الصغيرة فيما هو متوارٍ أو خفي من طبقات الحياة، فعلي سبيل المثال يتتبع تفاصيل الألعاب الطفولية وممارسات الأطفال في المتعة واللهو والترفية وتقليد الكبار وصراعاتهم ومشاجراتهم أو التشكل البطيء والتدريجي لوعيهم ومعارفهم ومشاعرهم الساذجة أو الغامضة. مشاعر الكراهية والحب والتعلق والحيرة عند الأطفال الصغار وكيف يرون عالم الكبار أو يحسون به. وهو ما تكرر لديه في الروايات الثلاث بالكيفية ذاتها من الكثافة في التناول والعمق، لأنه يتتبع شخصياته من طفولتها ويتحرك معها متقدما في الزمن حتي نهايتها أو موتها وشيخوختها، ويكاد ينطبق هذا علي النسبة العظمي من شخصياته، فيمكن عد شخصيات الأطفال الذين تتبعهم هكذا في الروايات، مثل أمير وحسن ومريم وليلي وعبد الله وباري وغلام وعادل، وكلها تنتمي للروايات الثلاث وليست في رواية واحدة.لتكون هذه النقطة الخاصة باستثمار عالم الطفولة وحيواتهم وتنامي وعيهم ظاهرة بارزة في خطابه الروائي تستحق البحث ومقاربتها بشكل أعمق في ضوء معطيات علم نفس الطفولة وعلم النفس الإدراكي أو التعليمي وكيف يتفتح وعي الأطفال علي العالم من حولهم وكيف تنتج الصدمات والمفاجآت عن هذا، لأن كثيرا من هؤلاء الأطفال في خطابه الروائي يبدأون حياتهم بقياس العالم وفق معطيات عقولهم ومشاعرهم البريئة ثم ينتهي بهم الأمر في عالم آخر مغاير تماما، عالم العنف والكراهية والحرب، عالم أشبه بالعربة المندفعة نحو كل أشكال الشر دون أدني قدرة علي التدخل في كبحها. ومن هذه الفجوة بين العالمين، الطفولة وعالم الكبار تكون الصدمة والمفارقة الأدبية التي ينتجها الخطاب. من عوالم الأطفال وتفاصيلهم الهينة وأمورهم التافهة يقدر سرد خالد حسيني دائما علي إنتاج الجمال الأدبي والشعرية الأدبية والمفارقات اللافتة اللانتباه والمفعمة دائما بحس إنساني عام يستثير القارئ ويستحوذ علي مشاعره وعاطفته. علي سبيل المثال تلك الحال من البرود العاطفي والقلق التي يعيشها أمير مع أبيه الذي يتشكك دائما في قدرات ابنه وفي أنه يشبهه في أي شيء من الشهامة والشجاعة وغيرها من الصفات الجيدة التي يراها الأب في نفسه ولا يراها في ابنه، وكيف كان الابن يستقبل هذا دائما ويستوعبه في تصرفات الأب تجاهه وعدم حماسه له في أغلب الأحوال بخلاف صديق الأب رحيم خان الذي كان يؤمن بالابن أكثر من أبيه. وكيف كان الابن بعقله الطفل دائما ما يربط هذا البرود من طرف أبيه بذنب الابن الذي أفقد الأب الأم وهي تلد هذا الطفل. فكأنه يحمل ذنبا من البداية وفق تفسيره الطفولي. ثم كيف ترتبط لعبة مصارعة الطائرات الورقية برغم سطحيتها الظاهرة أو أهدافها البسيطة كيف ترتبط بهذه الحال من القلق عند الابن الذي يريد أن يفوز ليثبت لأبيه أن جدير به وأنه يستحق، وليغير فكرته عنه، لتكون هذه اللعبة في هذا التوظيف السردي أكبر من كونها لعبة لتتحول إلي مصير إنساني أو معركة وحافز مصيري لدي الشخصية، وعبر هذه القدرة علي ربط التفاصيل الصغيرة للنص الروائي والأحداث الهينة بالأهداف العامة والكلية له يتمكن سرد الرواية من خلق الشعرية الكلية أو الجمال الأدبي العام والوحدة الشعورية للسرد، بحيث تتشابك هذه التفاصيل في عالم واحد ووحدات دلالية عامة وكلية، ليكون النص السردي يتحرك في اتجاه من التخصيص إلي التعميم أو يتحرك من ناحية الأصغير إلي الأكبر. وأتصور أن نجاح السرد دائما في أن يخلق هذا الترابط وأن ينتج هذه الوحدة أو الحال من الشمولية totality وتفادي التفتيت الذي دائما ما تكون الروايات معرضة له بحكم اعتنائها بتفاصيل كثيرة أو تصديها لها. ومن هنا يمكن القول بأن روايات خالد حسيني برغم امتداد فضائها السردي وضخامة مساحتها تبدو علي قدر كبير من التماسك وغياب ما يمكن تسميته بالترهل السردي أو وجود وحدات سردية غير مجدية أو يمكن حذفها.
في خطابه الروائي كذلك ثمة قدر كبير من التوازن في الحركة والصخب والإيقاع السريع الذي تنزع إليه رواياته، بحيث تبدو متنوعة ومتراوحة بين الاستقرار والهدوء والقلق والاضطراب والتحولات السريعة، متراوحة بين الأمان والخوف والثبات والطمأنية والقلق والفرار أو الهرب من الوحشية التي قد تتنامي تدريجيا مع الوقت أو تقفز بشكل مفاجئ. يوازن سرد خالد حسيني بين تصوير الحياة الأفغانية باستقرارها ونعيمها ونشاطاتها وتقاليدها بين الأطعمة والأفراح والألعاب الموسمية والأنشطة الزراعية والتجارية والحياة التعليمية وثقافة المجتمع وتنوعه بين إسلاميين محافظين أو وسطيين أو متشددين أو شيوعيين وملحدين أو علمانيين ليبراليين. بين الإنسان الأفغاني وهو قادر علي الحب والاستمتاع مع الحبيبات والأهل وبين علاقات الجيرة وأبناء الحيّ الواحد، وبين أحوال هذا الإنسان الطبيعي وذاك الذي تنقلب حياته تماما إلي الهلع والفرار من الموت والشر الذي يتتبع البشر في كل مكان، في الطرق إذا تحركوا أو يأتيهم الموت في بيوتهم وهم مستقرون فيها عبر قذيفة جوية تنسف البيت كله وتخطف أهله كلهم أو بعضهم. يصور مدينة كابول بجمالها وأحيائها وطقسها وفصولها وأشجارها وفاكهتها؛ تفاحها وعنبها ورمانها وجبالها التي تحيطها، ومدينة كابول التي تتحول إلي مدينة للأشباح والموت والقتل والبيوت المهدمة والطرق غير المأمونة. كابول المدينة التي لا يقدر أهلها علي التفكير في تركها ويخطون فوق ترابها وهم مفعمون بكل الأمل في العلوّ بها وصنع نهضتها والذوبان عشقا في ترابها، وكابول المدينة التي لا تُطاق؛ تقسو علي الرجال بالقتل وعلي المرأة بالتشدد والمنع والحبس والتعذيب وإقامة الحدود بإسراف ودون دليل في ساحات ملاعب كرة القدم. كابول المفعمة بالحب والأمل ويملأها الأطفال اللاعبون بالطائرات الورقية بشكل موسمي فتصبح قلوب هؤلاء الأطفال مثل العصافير المحلقة في السماء وكابول المدينة التي تنتشر فيها الضغينة والكراهية وتغلف كل ذرة في هوائها إلي الحد الذي يتحول فيها الأطفال إلي شباب كبار يثأرون من بعضهم بالقتل تحت رايات إيديولوجيات جهادية ودينية وأفكار انتقامية وعدوان يبدو كما لو أنه لن يتوقف في أي يوم من الأيام المقبلة. صوّر خالد حسيني في الروايات الثلاث مدينة كابول والكراهية تجللها تماما والحرب تغطيها بأجنحتها فتسد كل أفق للمستقبل الآمن فيها، فتصبح مدينة الذعر ليلا ونهارا. مدينة أصحاب العاهات والأرامل وضحايا الجهاد ضد الروس أو ضحايا الجماعات الإرهابية وطالبان وتنظيم القاعدة. جسد كذلك الحياة الأفغانية بتنوعها بين الريف والمدينة، بشخصياتها المتفاوتة في التعليم والثقافة، بين المناطق المختلفة والثقافات المتنوعة داخليا، جسد التفاوت العرقي، بين البشتون والهازارا والطاجيك والأوزبك، بين الشيعة والسنة وحال الصراع التاريخي أو التعايش السلمي في بعض الأوقات. أفغانستان في المناطق الزراعية والجبلية أو في المناطق الأثرية والمدن والصناعات الناشئة. كما قارب كذلك التاريخ الأفغاني الممتد بدايةً من الملك المغامر أمان الله خان الذي رغب في النهضة والتنوير والانفتاح ومحاربة التشدد والتطرف ولكن بشكل فج وصراع علني مع الملالي والقبائل، ونادر شاه الذي أطيح به بعد مدة قليلة أو الملك ظاهر شاه الذي انقلب عليه ابن عمه داوود خان وحول الدولة من الملكية إلي الجمهورية، ثم الاجتياح الروسي بعد ذلك وما تلا من العنف والحروب. فالتواريخ والسنوات والحوادث الكبري حاضرة علي الدوام في خطابه الروائي مشكلة خلفية تاريخية تبدو عابرة أو لا تخلو من كونها الظل الإنساني للسياسة التي تنعكس مباشرة علي الناس وتبدل حياتهم أو تقلبها رأسا لعقب. فلا نقاش للسياسة في ذاتها أو ينشغل الخطاب الروائي بهذا الجدل الذي ينتصر فيه لاتجاه أو لفريق دون آخر، بل هو مجرد إعلام وإخبار بهذه الحوادث التاريخية التي هي خلفية واسعة للإطار العام للدولة التي يعيش فيها هذه النماذج البشرية التي تنشغل بها الروايات ومن عوالمها تتشكل.
في هذا الخطاب الروائي ثمة تكنيكات مغايرة وجديدة عديدة لإنتاج المعني، أو بلغة أسهل هناك دائما كيفيات جديدة يقول بها الخطاب الروائي ما يريد أن يقول من المعاني دون أن يكون مباشرا أو يفصح بسذاجة عن هذه المعاني. فدائما ما يتعامل مع الدلالات بالتورية أو الرمز أو المعادل الموضوعي. ففي رواية عداء الطائرة الورقية مثلا نجد أن حسن الخادم الهازارا علي سبيل التمثيل حين يضحي به أمير المخدوم المدلل ولا ينصره حين يغتصبه الأولاد الأكبر سنا، يصبح خروفا مخدوعا بالصداقة، وهو الثمن الذي يقبل أمير بدفعه والتضحية به من أجل الطائرة الزرقاء التي يتخذها أمير سبيلا للحصول علي قلب أبيه وثقته فيه. هذه الطائرة الزرقاء نفسها في الرواية ذاتها تصبح مسارا ثابتا لإنتاج الذكري المرتبطة بالبطولة والنجاح، ولكنه نجاح مسموم بالنسبة لأمير لأن الطائرة الزرقاء التي هي دليل فوز أمير في هذا الشتاء من 1975 وحصوله علي بداية جديدة مع أبيه ودليل علي بطولته القديمة، هي نفسها دليل علي تضحيات حسن وما قدمه لأمير، وتحيل علي جبن أمير وخذلانه لمخدومه وصديقه الصغير الذي كان أكثر عطاء وإخلاصا منه. تتحول الطائرة الزرقاء التي فاز بها ويتم تعليقها في باحة البيت دليلا علي الخيانة والغدر من قبل أمير. وتتكرر الواقعة بتاريخها هذا الذي هو نقطة تحول كبري في حياتيهما. وهكذا يمكن القول بأن هذا الخطاب السردي قادر علي استثمار الوحدات الصغري أو العلامات الدالة في سيرورات إنتاج للمعني وكيفيات دلالية تخدم الشعرية الكلية للنص الروائي أو الروح العامة فيه وتخلق حالا من الترابط الفني فيه. وما يكون مع الطائرة الزرقاء يكون كذلك مع الشفة الأرنبية المشقوقة التي ولد بها حسن وكيف أنها كانت دافعا للشفقة والعطاء من والد أمير، وكيف أنها بوصفها علامة جسدية لم تكن تنتقص من روح حسن وقدرته علي العطاء واكتماله إنسانيا برغم هذا النقص الجسدي، والأمر ذاته يكاد ينطبق علي أثر شلل الأطفال علي شخصية عليّ وعاهته وقدر ما يتمتع به كلاهما من السلام النفسي والقدرة علي العطاء برغم هذا النقص الجسدي أو النقص في المعرفة والتعليم. هناك دائما في سرد روايات خالد حسيني دوائر من الصراع بشكل مصغر، صراع الإنسان ضد الإنسان بسذاجة أو بوعي أو بجدية أحيانا. ودوائر الصراع الصغري هذه يتم توظيفها لإنتاج الحركة والتشويق وإمداد الروايات بالإحساس بالظفر والفوز، فهناك دائما مراقبة من المتلقي لمن سيفوز ومن سينهزم. علي نحو ما نجد مثلا في لعب الورق بين حسن وأمير. أو لعب كرة القدم(ضربات الجزاء) بين غلام وعادل في رواية (ورددت الجبال الصدي)، علي أن الكيفية التي يتم توظيف هذه الصراعات الصغيرة بها داخل الخطاب الروائي هي الأهم لأنها لا تخلو من طابع رمزي يربطها بالصراع الأكبر علي الأرض أو صراع الهوية، أي أن صراعات الأطفال والطفولة مرتبطة دائما بصراعات الكبار الوجودية والخطيرة، صراعات الحياة والموت، والخلاف السياسي والخلاف علي الأرض والقوت أو صراعات المبادئ والإنسانية. فأبو عادل اغتصب أرض عائلة غلام وفوز غلام في لعبة كرم القدم وسلبه لتيشيرت عادل المفضل لديه يبدو فوزا تعويضيا عن الخيبات الكبري أو أقرب لانتقام الأطفال من بعضهما وثأرهما لخيبات الكبار.
في رواية ألف شمس ساطعة مثلا يمكن السؤال: لماذا جعل خالد حسيني كابول (مدينة التايتانيك) في مدة هيمنة طالبان وهي أشد أوقات المدينة قسوة وخرابا؟ ورغبة بعض الناس والأطفال أن يؤدوا لعبة روز وجاك. الكل يريد أن يكون جاك علي حسب ما نجد بين ليلي وابنها الطفل الصغير. فتبدو المدينة كأنها كلها غارقة تبحث عن الخلاص أو البطل الذي يخلصها من مأساتها وغرقها في الإرهاب والحرب والدموية الدائرة بين كل هذه الطوائف المتحاربة. علي أن الخطاب الروائي لا يكشف بشكل فج ومباشر عن هذه النواتج الدلالية المرتبطة بالمخلص أو توظيف التايتانيك، بل إنها تبدو علي نحو إيحائي يستنبطه القارئ ويحسه، كما أنها تحضر بشكل إنساني وفيه قدر الظرف والفكاهة أو التوظيف الكوميدي علي نحو ما نجد المتسول الذي أسمي نفسه متسول التايتانيك وبائع الجوارب الذي فعل الأمر نفسه وغيرهما كثير. أوكأنها المدينة الغارقة التي ليست في حاجة لشيء بقدر احتياجها للحب والتضحية كما ضحي جاك من أجل روز.
عند خالد حسيني ثمة وصل من نوع جديد للروايات ببعضها، عبر توحيد بعض المكونات وتثبيتها، فبالإضافة إلي وحدة العوالم الأفغانية والتركيز مثلا علي مدينة كابول ووحدة الأحداث والمأساة وتكرار كثير منها يعمد الخطاب الروائي لخالد حسيني إلي تثبيت بعض المكونات السردية لتكون عابرة للنص، فتتكرر شخصية مثل زمان راعي ملجأ الأيتام باسمه ووصفه كما هو، في روايتي (عداء الطائرة الورقية) و(ألف شمس ساطعة) وهو شكل من القصدية إلي إنتاج متوالية أو ثلاثية روائية تتصل وتنفصل في الوقت نفسه، فهو نوع من الروايات الممتدة الحداثية أو غير الكلاسيكية، فلا يعني أن تكون الرواية من جزئين أن تكون أحداثها أو شخصياتها متكررة أو العالم متطابق تماما أو تتبع عائلة نفسها أو أن الأسماء كلها تكون مبنية بشكل كامل علي الأجزاء السابقة.
يستثمر الخطاب الروائي لخالد حسيني الموروث الأفغاني من حكايات الجدات والقصص والحواديت والحكايات القديمة عبر ما يحكيه الآباء والأمهات لأولادهم لتسليتهم، علي نحو ما نري في هذا الاقتباس من وراية ورددت الجبال الصدي” كان الأب رجلا صموتا بطبيعته. لم يكن يتفوه بأكثر من جملتين متتاليتين إلا نادرا، ولكنه أحيانا ولأسباب لا يعرفها عبد الله كان يتفتح فجأة، ويبدأ برواية قصص مشوقة. كان يضع عبد الله وباري أمامه بينما تعمل بروانة بقدورها في المطبخ ويحكي لهم قصص جدته. يحملهم لأرض السلاطين والجنّ والغيلان والدراويش والحكماء”. الرواية ص42. وهو الأمر الذي تم توظيفه علي أفضل نحو في بداية الرواية نفسها حيث بدأت مباشرة بحكاية الغول الذي يخطف الأطفال الصغار ويخبئهم في حديقة عجيبة في الجبال، والأب الذي يكافح لاستعادة ابنه من الغول، وهي بداية غرائبية دون مقدمات تسبقها أو تمهد لها، أو توضح أنها مجرد جزء من الخطاب الكلي للرواية التي هي واقعية، وهو الأمر الذي يوهم المتلقي من بداية الرواية بأنهأ مام خطاب غرائبي أو أسطوري مغامر بشكل كامل ويوحي باختلاف كبير عن أسلوب خالد حسيني المعروف من روايتيه السابقتين. فهو حين تعمد خلق التماهي بين الحكاية الفرعية الصغيرة التي يحكيها الأب لأولاده مع الخطاب السردي للرواية أوحي بهذه المسارات السردية المغايرة، التي لا تنتفي إلا بعد مساحة كبيرة من السرد حين ينفصل صوت الأب المتحدث داخل الرواية عن صوت الراوي العليم الذي يتولي سرد الرواية كلها، فتتضح حدود هذه الحكاية الفرعية بوصفها جزيرة صغيرة داخل رواية خالد حسيني يتم استثمارها دلاليا بشكل يعتمد علي الإيحاء والتورية. لأن مصير الابن المخطوف في القصة الغول الأسطورية تؤدي وظيفة تنبؤية بمستقبل الأبناء في هذا الوطن الذي يتم اختطافه من قوي أخري بعد ذلك في السنوات المستقبلة من عمر أفغانستان، وتتنبأ بمستقبل الطفلة باري التي لن تعود مع الأسرة مرة أخري، فيمكن ربط هذا الغول الشرير الذي يختطف الأبناء بالاجتياح الروسي أو الحرب الأهلية وحرب المجاهدين وانتشار القتل والدمار أو كل أشكال الشر والعنف الذي عاشته أفغانستان بعد ذلك، وهو ما أنتج الحال الأولي من الفراق أو سلب الأحباب وخطفهم في القصة الافتتاحية التي تعمل داخل خطاب الرواية بشكل رمزي مكثف للدلالة الإجمالية للخطاب كله إلي جانب وظيفتها الصغري التي تتمثل في إكمال التفاصيل الحياتية والإسهام في إكمال ملامح العوالم المسرودة وصنع الإيهام حين يجد القارئ أمامه أبا يحاول تسلية أولاده بالقصص القديمة والحكايات الخرافية التي لا تخلو من عبرة أو عظة.
يبدو التعامل مع مآسي الوطن عابرا أو غير مقصود، وأن الروايات تركز علي الإنسان وعلي النماذج البشرية ولكنها تبدو مضطرة لذكر العنف ورصده، يقول الخطاب الروائي في رواية ورددت الجبال الصدي علي لسان نبيّ أحد شخصياتها: “تعرف جيدا التاريخ الحديث لهذه البلاد المحاصرة. لا داع لسرد تلك الأيام المظلمة، إذ ينتابني التعب بمجرد التفكير في الكتابة عنها. وإلي جانب ذلك، فقد تم تأريخ وتدوين معاناة هذا البلد بما فيه الكفاية وبأقلام أكثر بلاغة مني... أستطيع تلخيص تلك السنين بكلمة واحدة: الحرب. أو لأكون أكثر دقة: الحروب. ليست واحدة أو اثنتي، بل الكثير منها، جميعها كانت كبيرة وصغيرة، عادلة وظالمة، حروب تتابع فيها الأبطال والطغاة، كان كل بطل جديد يشعرنا بالحنين للطاغية السابق، تغيرت الأسماء كما تغيرت الوجوه، وأنا أبصق عليهم جميعا بشكل متساو من أجل كل العداءات التافهة، والقناصين والألغام الأرضية والتراشق العشوائي بالقنابل والصواريخ، بسبب كل النهب والاغتصاب والقتل الذي حصل”. ورددت الجبال الصدي ص133.
روايات مصائر غرائبية
في روايات خالد حسيني تتجلي بقوة الغرائب في مصائر البشر، حيث يبدو المستقبل دائما لهذه الشخصيات غابات قادرة علي منح مسارات جديدة تماما وغير متوقعة، فكأن كل الشخصيات غير قادرة علي أن تتنبأ بأي شيء من مستقبلها في هذه الأجواء الغريبة من التشرد والتشرذم. فالنماذج الإنسانية التي تقدمها روايات خالد حسيني دائما ما تعاني من الفرقة والتشرذم، تباعد بينها مسافات لا يمكن طيها أو السيطرة عليها، تصبح المسافات الجغرافية بين هؤلاء الأقارب المشرذمين مثل المسافات الزمنية التي يستحيل استعادتها مرة أخري، وهو ما يتكرر تقريبا في الروايات الثلاث، فنجده بين حسن وأمير في رواية عداء الطائرة الورقية، وبين أمير ورحيم خان في الرواية ذاتها، وبين مريم وجليل في رواية ألف شمس مشرقة، وكذلك بين مريم ونانا، وبين ليلي ومريم في الرواية ذاتها. لكن هذه الظاهرة من التشتت والتشرذم تتأكد وتتجلي بدرجة أكثر قتامة في رواية ورددت الجبال الصدي، فنجد الأسرة الواحدة تتشرد وتتشرذم بين فرنسا وأمريكا وباكستان وبعضها يعود مرة أخري لأفغانستان. ليبدو المكان بجغرافيته المنفتحة والعالمية وقوة سحق مسافاته للروابط بين البشر أقرب للزمن، أقرب للتاريخ أو للماضي الذي لا يمكن أن يعود للوراء مرة أخري، ويبقي القسم الذي أخذته الأخت علي أخيها في رواية ورردت الجبال الصدي بألا يفترقا أبدا هو البؤرة الشعرية المركزية في الرواية كلها، فكأن القصة كلها قائمة علي إخلاف الوعد بين الأخ وأخته الصغيرة تحت ضغط قوة أكبر من قدرتهما، فكأن الحرب والتاريخ الدموي لهذا الوطن هو ما حال دون اجتماعهما والوفاء بهذا الوعد، فيتم انتزاع الأخت لعقود حتي تنشأ أستاذة للرياضيات في فرنسا ويغادر هو لأمريكا ولا يعرف أي منهما شيئا عن الآخر. هذه الملحمة المأساوية هي مركز شعرية الرواية لأنها تصنع حالا ممتدة في خطاب الرواية كلها من الشجن والأسي والالتفات المستمر إلي هذه الجذور المفقودة، ويصبح التنقيب داخل الذات عن بقايا ذكريات عملية بحث لا تنتهي، وتبدو الشخصيات أقرب لكائنات منقوصة تحاول إكمال ذاتها عبر استرجاع تاريخها وجذورها المفقودة.
تراث المشرق وأساطيره
روايات خالد حسيني كذلك تستثمر علي نحو واسع وجيد جدا التراث الشرقي القديم بحكاياته وأدبه وشعره، فتحضر روح الحكايات الأسطورية للمشرق، الملاحم الفارسية والهندية، علي نحو ما نجد في توظيفه لحكايات الشاهنامة الفارسية وبخاصة حكاية رستم وسهراب وشعر الرومي الذي يستدعي منه الكثير وكذلك حافظ الشيرازي والخيام، كما حكايات بعض الشخصيات الأفغانية القديمة. والحكايات عن الجنيات الفارسيات. ولا يقتصر هذا علي رواية واحدة، بل يمتد في الروايات الثلاث المترجمة للعربية التي اطلعنا عليها، فشخصية باري مثلا وهي شخصية محورية في رواية ورددت الجبال الصدي معناها الجنية في اللغة الفارسية، وكثيرا ما تستدعي بعض الأبيات الشعرية التي كانت بينها وبين أخيها عبد الله عن الشعر الفارسي، وكلها تتحدث عن جنية جميلة، وفيها ارتباط بالقيم الدلالية التي يرسخها خطاب الرواية عن الاختفاء والابتعاد أو الافتراق الذي حصل للأخوين، وهو ما يمارسه كذلك مع عدد من الأغاني والأشعار الأفغانية. ليتجاوز هذا الحضور الشكلي إلي وظيفة دلالية وتضافر مع العناصر السردية الأخري في إنتاج المعني وإنتاج حال من الترابط. فضلا عن كون هذه المكونات التراثية تجعل الشخصيات الروائية نابضة وذات ذاكرة ثقافية بعيدة فتبدو شخصيات نابضة وحيوية ودائما ما تستلهم تراثها وتحن إلي ثقافتها. فكأن الثقافة الشرقية القديمة في هذا الخطاب الروائي أقرب للأرض أو التربة أو للوطن، فهي الروح الحقيقية للوطن والدالة علي الهوية المفقودة. فالوطن ليس مجرد مكان أو مدينة أو بيوت، بل هو إطار ثقافي له جذوره وامتداداته العميقة في ذاكرة الشخصية، ولعل هذه الأشعار هي ما تجعل النموذج الإنساني المشتت مشدودا دائما بحال من الحنين إلي تلك الأوقات التي حفظ فيها هذه الملاحم والأساطير أو قرأها في طور الطفولة أو حفظ فيها الأشعار الخاصة بثقافته ولغته وهو تلميذ صغير في المدرسة فكأنها كلها بمثابة مصادر للوعي الطفولي المتنامي كما أنها تصبح بعد ذلك بمثابة الخيوط الخفية التي تربط هذه الشخصيات بوطنها أو بتاريخها القديم وأوقاتها الأولي التي عاشتها في الوطن. فنجد هذا علي سبيل التمثيل لدي شخصيات أمير وحسن عبر قراءات أمير وكتبه الدراسية وقراءاته في التاريخ، ومريم عبر حكايات الملا فايز الله، أو شخصية باري عبر حكايات أبيها الحقيقي قبل أن تتبناها العائلة التي ستنتسب لها وتهاجر إلي فرنسا. وتمتزج كذلك بهذه الأساطير المشرقية القصص القرآنية مثل قصة النبي أيوب أو النبي يوسف الذي غدر به إخوته. وغيرها من القصص القرآنية. لتكون روايات خالد حسيني ذات طابع إنساني عام تحضر فيها مكونات وأبعاد عدة ويمكن عدها إجمالا ذات طابع كوزموبوليتاني، فهي مشرقية تتصل اتصالا وثيقا بالغرب. فالطب والعلوم الحديثة ونمط الحياة في أمريكا أو فرنسا أو اليونان كلها حاضرة في رواياته الثلاثة، علي نحو ما تحضر وتتجسد أنماط الحياة المشرقية في أفغانستان وإيران وباكستان والهند كذلك. وحتما قد يتصل هذا الطابع بطبيعة عمل خالد حسيني في منظمات الإغاثة الدولية وسفره إلي عديد الدول المنكوبة وبخاصة في المشرق. قال أبي إنه ورث موهبته في تأليف القصص عن أبيه، والذي لم يكن يتحدث عنه كثيرا. حكي لي أن أباه كان يجلسه أمامه عندما يكون مزاجه معتدلا، وهو أمر لم يكن يحصل كثيرا، ويخبره بالقصص المأهولة بالجان والجنيات والغيلان”. رواية ورددت الجبال الصدي ص372.
مأساة الأطفال في الحرب
مثّل خطاب خالد حسيني الروائي معاناة الأطفال الأفغان في هذه الصراعات، وجسدت رواياته تفتح وعي أجيال منهم علي هذه الحروب، وكان النسق السردي الثابت لديه أنه يبدأ زمنيا مع الأطفال ويرصد مراحل شبابهم وشيخوختهم في هذه السنوات منذ 1960 تقريبا، قبلها بقليل أو بعدها بقليل، لتتبع هذه الأجيال مواليد تلك المدة منذ طفولتهم. ويقابل بين أطفال الداخل الأفغاني وغيرهم من الأطفال الذي سنحت لهم فرصة اللجوء إلي دول أخري، ومن تربي منهم في الجوار وبخاصة باكستان وإيران وكيف أنهم جميعا كانوا علي قدر كبير من الارتباط بالوطن برغم الاختلاف. فمنهم من يرتبط به ثقافيا ومنهم من ارتبط به وجدانيا ومنهم من كان ارتباطه بالوطن عبر والديه أو عبر الحكايات والذاكرة الممتدة عبر هؤلاء الآباء الذين يبقون أغلب أوقاتهم مشدودين إلي أصولهم وإلي مسارح طفولتهم وبخاصة مدينة كابول التي يرسم لها الخطاب الروائي صورة مثالية قبل الحرب فيبقي كثيرون من أبنائها مطاردين بحال من الحنين الإجباري لهذه الجذور.
قارب خطاب خالد حسيني الروائي مأساة الأطفال علي نحو خاص، وكأنه كان يفتش بعفوية عن الوجه الإنساني لأزمة وطنه المنهوب والمسروق من هذه الجماعات المحاربة أو المتخفية تحت رايات الحرب والجهاد لتكِّون ثرواتها. وعلي نحو أكثر خصوصية تحضر لديه مأساة زواج الأطفال، فالفتاة ذات التسع سنوات تتزوج دون أدني غرابة من رجل ستيني أو أربعيني وتكون زوجة ثانية أو ثالثة وتصبح الزوجة السابقة عليها بمثابة أم لها في بعض الأوقات بعد تحول تدريجي عن عداوة مريرة بين الزوجتين كما هو حاصل في رواية ألف شمس ساطعة علي سبيل التمثيل وهو ما يتكرر في أكثر من موضع في رواياته الأخري. كما نجد كذلك مأساة أخري لبعض الأطفال الذين يولدون وينشأون في المخيمات والملاجئ، وعلي الحدود مع دول الجوار في إيران وباكستان. فينشأ الطفل مزدوج الهوية بين وطنه ودولة الملجأ والمخيمات التي لا تسمح لهم بموطنة كاملة أو بحياة كاملة يمارسون فيها طقوسهم الطبيعية من تعليم وغيره ولا تتركهم طويلا فيصبحوا بعد وقت ضيوفا غير مرغوب فيهم. وحين يعود هؤلاء الأطفال لا يسمعون كلمة طيبة من أطفال الداخل عن وطنهم الذي يحتاجون إلي أي كلمة تجمله في أعينهم بعد العودة إليه لمجرد كونه موطنا سابقا لآبائهم فقط، أما هم فلم يعيشوا فيه يوما واحدا من قبل. وكأن مسألة الهوية الملتبسة لدي المواطن الأفغاني الضحية أو الذي تربي في الخارج ستظل مرضا راسخا لا يمكن علاجه وأن آثار هذه السنوات من الحرب لا يمكن محوها بسهولة.
التكرار والمفارقات
من ناحية البنية الشكلية وجمالياتها يمكن كذلك القول بأن لدي خالد حسيني استراتيجيات عديدة لتوزيع المحتوي السردي بشكل ينتج الجمال الأدبي ويجعل هذه الوحدات السردية معروضة بطريقة مثيرة للدهشة وتتفاعل جماليا مع القارئ ويتفاعل معها كذلك، أي هي تكنيكات محفزة علي تلق جماليّ للنص. وأبرزها التكرار الذي يصنع حالا من الترابط والتماسك ويجعل هناك نوعا من الإلحاح من الخطاب السردي علي مكوِّن بعينه يمثل وخزا لضمير القارئ ويبني في الاتجاه الشعوري ذاته الذي يرغب صاحب الخطاب السردي في التوجيه إليه. علي سبيل المثال التكنيك الفني الذي تعامل به مع حادثة شتاء 1975 واغتصاب حسن وهذا الوفاء النادر الذي قلب حياته تماما، وكيف تم البدء بهذا الحدث أو ذكره في أول الرواية ثم يتم تكراره أكثر من مرة حتي يأتي في موضع تسلسله الزمني الطبيعي ويأتي علي كافة تفاصيل الواقعة، ثم تكون العودة إليها مرة أخري، لتمتد هذه الحادثة روحا عامة في خطاب الرواية كلها. والأمر ذاته مع تفتح وعي مريم علي وصمها بأنها ابنة حرام، وتكرار هذه المقولة التي تطاردها طوال حياتها فكأنها هي البؤرة النفسية المركزية التي يدور حولها وجود الشخصية وإحساسها بذاتها وإحساسها بالعالم من حولها وكيف تكون كل حركتها بعد ذلك أقرب لمجابهة لهذا الوجود غير الشرعي أو النفي والاضطهاد الذي عاشته في المقولة (ابنة حرام)، وكيف يتم استدعاء شعور الشخصية بالكلمة في مواقف مصيرية عديدة، أبرزها لحظة موت الشخصية أو قتلها علي يد طالبان باسم تطبيق الحدود، فتبدو المقولة أقرب لتأطير للشخصية أو كأنها أسوار تدور حركة الشخصية دائما داخل هذه الأسوار. علي أن هذا الاستنتاج أو الناتج التأويلي هو ناتج توزيع حضور الحادثة أو المقولة داخل الفضاء السردي وليس ناتجا عن إفصاح الخطاب ذاته أو تصريحه. ومثل التكرار كذلك تسترعي المفارقات التي يكونها خالد حسيني وينتجها في سرده انتباه المشغولين بالبنية السردية وقدر حرفيتها أو مستوي الموهبة فيها. فالخطاب السردي قادر علي إنتاج المفارقات الخاصة به، حيث نجد علي سبيل التمثيل أن الوفاء يبدو مؤلما في كثير من الأوقات ومؤذيا أو مرعبا، وكيف يكون الاستسلام أو المسالمة هي كل القوة وأن وراءها جبروتا من نوع خاص وهو ما نجده في شخصية حسن بوفائه النادر ومسالمته وصبره اللذين يصلنان حد الغرائبية أو العجائبية التي تخرج به ربما عن الطبيعة الإنسانية إلي طبيعة ملائكية أو شيء من هذا القبيل النادر والمقدّس. ومن المفارقات كذلك كيف يتلذذ أمير بما به من شر طفولي تجاه حسن المسالم. وكيف تخلص منه ورد له الوفاء بالغدر والمؤامرة. ومن المفارقات الكثيرة كذلك كيف يسخر القدر من الشخصيات، ففي الوقت مثلا الذي تمت عملية تجميل لشفة حسن المشقوقة وأصبح قادرا علي الابتسام بشكل طبيعي لم يحدث أن ابتسم وذلك لأن واقع أفغانستان وحوادثها تبدلت تماما ولم تمنحه ما يجعله يبتسم بل منحته الألم والمعاناة. ومن المفارقات كذلك ما نجد في رواية ألف شمس ساطعة من تحول العداوة بين المرأتين إلي ما يقرب للتبني، وكيف كانت مريم تحب ابنَيْ ضرتها وتربيهما كما لو كانا ابنيها. وكيف أدركت مريم بعد وقت أن قسوة نانا أمها كانت هي العلامات الأكيدة علي محبة خالصة لم تفهمها، أن نانا كانت أكثر واحدة منحتها الحب برغم كل هذه القسوة الظاهرة. والحقيقة أن خطابه السردي كله مترع وثري إلي أقصي درجة بالمفارقات ولقاء المتناقضات وامتزاجها، وأتصور أن هذا هو جوهر الفن القادر علي رؤية الغريب والمفارق في الحياة نفسها. وأتصور كذلك أن هذه المفارقات طبيعية أو عفوية وبدون مزالق أو فخاخ استُدرج لها خالد حسيني الذي يصرح علي لسان أمير في أحد المواضع بأنه تعلم مبكرا وهو طفل كيف يتفادي فخاخ المفارقة من حسن الذي لم يتعلم شيئا أو لم يذهب إلي المدرسة يوما وهو دائما يبدو أقل ذكاء من أمير وفي حاجة مستمرة ليقرأ له الحروف التي تبدو طلاسم لا يستوعب منها شيئا. وهذه نفسها مفارقة!! هذه المفارقات تجعل الخطاب السردي نابضا وحيويا ومشوقا إلي حد بعيد فثمة غرابة ومفاجآت مستمرة مع كل مفارقة. كما أنها كلها دليل علي الرؤية المغايرة للوجود وأن لهذا السرد وجهة نظره الخاصة، ومنها علي سبيل التمثيل كذلك في رواية ورددت الجبال الصدي، حين ينقلب إدريس الطبيب الأكثر رحمة ظاهريا إلي متخاذل ويتخلي عن الطفلة الأفغانية التي تحتاج إلي عمليات في أمريكا بعدما وعدها، بينما ابن عمه تيمور الذي يبدو متاجرا بالقضية الأفغانية هو من يساعد الفتاة ويتبناها حتي تصبح كاتبة ذائعة يشتري إدريس بعد أعوام كتابا لها في إحدي حفلات التوقيع، فتكتب له في التوقيع: لا تقلق لا ذكر لك في هذا الكتاب. علي أن هذه المفارقات في زعمنا تبدو كلها نابعة من النفس الإنسانية الحافلة بالتناقضات والمفاجآت ويصبح من الصعب التنبؤ بسلوكها أو بأفعالها مهما بدت واضحة. وتختلف استراتيجيات المفارقة لديه في سرده ما بين مفارقة جزئية أو صغيرة محدودة من حيث مساحتها وفكرتها أو ناتجها الدلالي ومفارقة أكثر اتساعا أو شمولية بحيث تبدو بعضها مهيمنة علي فكرة الرواية كلها أحيانا أو تبدو المفارقة جزءا مركزيا من خطاب الرواية نفسها، مثلما نجد في رواية ورددت الجبال الصدي وكيف يتحول الوعد بالتمسك ببعض من قبل الطفلين وعزمهما علي عدم الافتراق إلي فراق عاجل بعدها مباشرة في الرحلة نفسها التي تمنياها إلي كابول وعدم لقاء الأخوين مرة أخري إلي نهاية عمريهما حيث عاش كل واحد منهما في قارة لا يعرف شيئا عن الآخر. ومن المفارقات كذلك تصور عمر عن أبيه المجاهد الذي كان فخورا كل الفخر به ثم يتحول لكراهيته ومقته حين يعرف قدر ما يمارس أبوه علي الناس من الظلم وسلب حقوقهم. هذه المفارقات تجعل عوالم خالد حسيني حافلة بالتبدلات وفي منتهي الديناميكية وأقرب للصورة الحقيقية للحياة بغدرها وعدم ثباتها. في مفارقات روايات خالد حسيني العديدة نلمس كيف ينطوي انتصار الإنسان علي الهزيمة، ففي عمق كل انتصار ثمة هزيمة خفية، وفي ضحكاته الألم. كيف يرمز باللعبة وصراعاتها الطفولية إلي صراعات الكبار وحروبهم، كيف يكون في انتصار جماعة علي أخري هزيمة خفية للكل، هزيمة للوطن نفسه الذي تندفع فيه الحروب والصراعات مثل كرة الثلج.
الراوي
يتنوع خطاب خالد حسيني الروائي من حيث تكنيكات توظيف الراوي في هذا السرد والمغايرة في هذه التكنيكات بحسب الحالة العامة للرواية أو للموقع والصوت العارف بالأحداث والأنسب لنقل هذه العوالم التي تقاربها كل رواية علي حدة. في رواية عداء الطائرة الورقية السرد كله يأتي عبر الراوي المشارك الذي يتجلي عبر ضمير المتكلم المعبر عن شخصية أمير الذي ينقل هذه الملحمة كلها عبر وجهة نظره هو ورؤيته وكيف كان الأب أو رحيم خان أو حسن أو علي أو بقية الشخصيات في شعوره هو، فهو البطل البشري الناقص أو الممتلئ بالقلق والخوف والاضطراب والمحمل بكثير من الأسئلة والإشكالات النفسية والأزمات الوجودية، فهو أقرب لنبتة ضارة غير مرغوب فيها في أغلب الوقت بالنسبة للأب الذي يري فيه ابنا مخيبا لآماله. وهو الصديق الذي يرد الوفاء بالغدر ويكره من صديقه أن يكون بكل هذا الوفاء والصدق والبراءة والقدرة علي العطاء. فالأزمة في أغلبها مركزة عند صاحب الصوت أمير الذي يعتمد عليه المؤلف في السرد عبر رؤيته وصوته ليكون محورا لهذا العالم، ومن ثم لم يكن بحاجة إلي تغيير موقع الرؤية إلي أصوات أخري إلا عبر تكنيك الرسائل، فهو حين أراد أن ينقل وجهة نظر حسن عن الفترة التي افترقا فيها كان ذلك عبر رسالة كتبها حسن إلي أمير وتكفل رحيم خان بتوصيلها له. وكذلك بعض الأحداث التي سردها عليه داخليا رحيم خان عن هذه المدة نفسها التي غاب فيها عن كابول وكان بحاجة ليعرف ما جري لبيتهم ومدينتهم بعدما غادرها هو وأبوه. أما في رواية ألف شمس ساطعة التي يقارب فيها عددا كبيرا من الشخصيات النسائية التي تبدو متساوية في مساحة الرؤية وفي التتابع ولا يمكن لواحدة من هذه الشخصيات الإحاطة بعوالم الأخريات فقد اعتمد علي تقنية الراوي العليم وكذلك الرسالة التي تبدو حاضرة في كل الروايات لتكمل جزءا من الرؤية الغائبة عن إحدي الشخصيات وتخرج عن دائرة رؤيتها. في الرواية الثالثة ورددت الجبال الصدي لا يبدو محاصرا أو مقيدا براو واحد أو شكل واحد وكانت استراتيجيته السردية في التعامل مع الراوي أكثر مرونة، فثمة مزج لرواية الأصوات بالراوي العليم، مع مساحة أكبر للرسالة التي تبدو تكملة لنموذج رواية الأصوات، فثمة أحداث مروية علي لسان ماركوس فارفاريس الطبيب اليوناني بضمير المتكلم، وأحداث أخري مروية علي لسان إدريس الطبيب الأفغاني العائد من أمريكا لوطنه أفغانستان ليساعد المصابين وهي بضمير المتكلم كذلك، في تطبيق تام لرواية الأصوات، ثم أحداث أخري مروية علي لسان باري ابنة عبد الله الأفغاني الهارب إلي أمريكا، وجزء كبير آخر من الأحداث مروي عبر الراوي العليم، بينما رسالة نبيّ إلي ماركوس وهي الأقرب لرواية الأصوات تأتي في مساحة كبيرة تقترب من مائة صفحة كلها عبر رؤية نبي المثقل بالإحساس بالذنب لمشاركته في سلب باري من أبيها وهو أمر شعوري وبمثابة التصريح بالأسرار الخفية في الراوية كلها فكان لابد أن تأتي علي هذا النحو في شكل رسالة منه إلي صديقه ماركوس الذي يتواصل مع بقية الأطراف ويعلمهم بالحقيقة، بينما يبدو ماركوس هنا مجرد طرف محايد ليس له أي مصلحة للتدخل في حقائق هذه القصة التي يخبر بها نبي أو بالأحري يبوح بها في وقت متأخر، لأن ماركوس مجرد وافد أجنبي جاء متأخرا إلي أفغانستان في 2002 وما كان له منطقيا أن يطلع علي هذه الحقائق القديمة التي ترجع إلي 1948 فضلا عن كونه طرفا خارجيا وليس صاحب مصلحة في هذه العائلة المتشعبة فهو يوناني يعمل في الجمعيات الإنسانية غير الربحية والقصة كلها تدور حول عائلة أفغانية مشردة. ليكون هناك قدر كبير من التوفيق والبراعة في هذه التكنيكات السردية المختلفة واستخدام ما يتناسب منها مع المادة المسرودة، وأعتقد أن سؤال الرؤية أو وجهة النظر وعلي لسان من يجب أن تأتي هذه الأحداث هو من الأسئلة الجوهرية من الناحية الفنية في كتابة الروايات ويبدو سؤالا مصيريا جدا ويرتهن به نجاح العمل لأنه يتصل مباشرة بتصديق القارئ واقتناعه بحقيقة هذه العوالم والحكايات التي يحملها السرد إلي عقله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.